المؤلفات » العدل عند مذهب أهل البیت (علیهم السلام)
الفصل الثالث
وجود الغرض والغاية في
أفعال اللّه تعالى
معنى الغرض والغاية
وجود الغرض والغاية في أفعال اللّه تعالى
أدلّة وجود الغرض والغاية في أفعال اللّه تعالى
غرض وغاية اللّه تعالى من خلق الإنسان
مناقشة رأي الأشاعرة حول غرض وغاية الفعل الإلهي
|
الصفحة 85 |
|
|
الصفحة 86 |
|
|
الصفحة 87 |
|
المبحث الأوّل
معنى الغرض والغاية
معنى الغرض والغاية (في اللغة) :
"الغرض" هو الهدف والقصد(1) .
"الغاية" هي أقصى الشيء ومنتهاه(2).
معنى الغرض والغاية (في الاصطلاح العقائدي) :
يطلق "الغرض والغاية" اصطلاحاً على الشيء الذي يقصده الفاعل المختار من وراء عمله ، وهي الفائدة التي ينظر إليها الفاعل قبل قيامه بالفعل ، ثمّ يجعل الفعل وسيلة للظفر بتلك الفائدة.
وهذه الفائدة التي يطلق عليها "الغرض" و"الغاية" تصبح الهدف للقيام بالفعل، وهي التي يؤدّي الفاعل فعله من أجل الوصول إليها(3).
تنبيه :
إنّ المراد من "الغرض" و"الغاية" ليس "الهدف" و"المقصود" فحسب ، بل المراد "الهدف" و"المقصود" النافع الذي يستحق عقلا القيام بالفعل من أجل تحقّقه .
ومن هذا المنطلق، إذا قام شخص بفعل له "هدف" ، ولكن لم يكن لهذا الفعل هدف "عقلائي" ، فسيقول العقلاء حول هذا الفعل: إنّه عبث . ويتسامحون أحياناً في
____________
1 و 2) انظر: لسان العرب ، ابن منظور : مادة (غرض) و(غيا) .
3- انظر: معارف القرآن، (معرفة اللّه) ، محمّد تقي المصباح: هدف الأفعال الإلهية، ص 225 ـ 226 .
|
الصفحة 88 |
|
التعبير فيقولون: إنّه من دون هدف، أي: أ نّه ليس له هدف ذو قيمة(1).
____________
1- انظر: معارف القرآن، (معرفة اللّه) ، محمّد تقي المصباح، تعريب: محمّد عبدالمنعم الخاقاني: هدف الأفعال الإلهية: ص226 .
|
الصفحة 89 |
|
المبحث الثاني
وجود الغرض والغاية في أفعال اللّه تعالى
إنّ اللّه تعالى لا يفعل شيئاً إلاّ لغرض وغاية وحكمة مقصودة(1).
تنبيهات :
1 ـ إنّ غرض الفعل الإلهي قد يكون واضحاً لعباده وقد يكون خفيّاً ، ولكنّه تعالى في جميع الأحوال لا يفعل إلاّ لغرض وغاية وحكمة مقصودة.
2 ـ إنّ غرض الفعل الإلهي يقتصر على نفع الغير لا إضراره، لأنّ الإضرار قبيح ، واللّه تعالى منزّه عن فعل القبيح(2) .
3 ـ إنّ غرض الفعل الإلهي لا يعود على اللّه تعالى بالمنفعة ، لأ نّه تعالى غني بالذات وكامل من جميع الجهات، وهو غير محتاج لشيء ، وإنّما تعود منفعة الغرض والغاية للمخلوقات(3).
____________
1- انظر: قواعد المرام ، ميثم البحراني: القاعدة الخامسة، الركن الأوّل ، البحث الرابع، ص110 .
نهج الحقّ ، العلاّمة الحلّي: المسألة الثالثة، المبحث الحادي عشر، ص74 .
2- انظر: النافع يوم الحشر، مقداد السيوري: الفصل الرابع: في العدل، ص71 .
3- انظر: تجريد الاعتقاد ، نصير الدين الطوسي: المقصد الثالث ، الفصل الثالث، ص198 .
كشف الفوائد، العلاّمة الحلّي: الباب الثالث ، الفصل الأوّل ، ص257 .
|
الصفحة 90 |
|
المبحث الثالث
أدلة وجود الغرض والغاية في أفعال اللّه تعالى
الأدلة العقلية :
1 ـ إنّ نفي الغرض والغاية عن أفعاله تعالى يتنافى مع حكمته تعالى ، لأنّ فعل الشيء من دون غرض أو غاية عبث ، والحكيم لا يصدر منه العبث(1).
2 ـ يلزم نفي الغرض والغاية عن الفعل الإلهي:
عدم قصده تعالى جميع المنافع التي جعلها اللّه تعالى منوطة بالأشياء .
فلا يكون خلق العين للإبصار .
ولا خلق الأُذن للسماع .
ولا اليد للعمل .
ولا الرجل للمشي .
بل يكون خلق جميع هذه الجوارح والأعضاء عبثاً ، وهذا خلاف الواقع(2).
3 ـ يلزم نفي الغرض والغاية عن الفعل الإلهي :
عدم الجزم بصدق دعوى الأنبياء .
لأنّ من أدلة إثبات صدق النبوّة: إظهار اللّه "المعجزة" على يدّ مدّعي النبوّة .
فلو أنكرنا وجود الغرض والغاية في الفعل الإلهي .
فسيكون إظهار اللّه المعجزة على يدّ النبي لغير غرض وغاية .
____________
1- انظر: تجريد الاعتقاد، نصير الدين الطوسي: المقصد الثالث ، الفصل الثالث ، ص198.
كشف المراد، العلاّمة الحلّي :المقصدالثالث ، الفصل الثالث ، المسألة الرابعة، ص422.
النافع يوم الحشر، مقداد السيوري: الفصل الرابع: في العدل ، ص70 .
2- انظر: نهج الحقّ، العلاّمة الحلّي: المسألة الثالثة، مبحث أنّ اللّه تعالى لا يفعل القبيح ، ص90 ـ 91 .
|
الصفحة 91 |
|
ولا يكون غرض وغاية اللّه من هذه المعجزة إثبات صدق ادّعاء النبوّة .
فيكون النبي ـ في هذه الحالة ـ كاذباً في ادّعائه بأنّ اللّه تعالى أظهر على يده المعجزة لغرض التصديق به .
لأنّ لقائل أن يقول له: بأنّ أفعال اللّه ليس لها غرض وغاية .
والمعجزة من فعل اللّه .
فكيف أصبح لها غرض وغاية لتدّعي أنّ الغرض والغاية منها إثبات نبوّتك ؟
فلا يكون ـ بعد هذا ـ سبيل لتصديق دعوى الأنبياء.
وهذا باطل(1).
4 ـ يلزم نفي الغرض والغاية عن فعله تعالى أن لا تكون:
إثابة اللّه المطيع لطاعته .
ولا معاقبة اللّه العاصي لعصيانه .
بل يكون ثواب اللّه تعالى وعقابه من دون غرض .
فلهذا لا يكون عند اللّه فرقٌ بين "المؤمن" وبين "الكافر" في الثواب والعقاب .
وهذا ما ينافي العدل الإلهي(2).
5 ـ يلزم نفي الغرض والغاية عن الفعل الإلهي:
أن يكون تكليفه تعالى للعباد لغير إفادتهم في الدنيا أو الآخرة .
فيكون اللّه عزّ وجلّ ظالماً للعباد.
وهو تعالى منزّه عن ذلك(3).
6 ـ يلزم نفي الغرض والغاية في الفعل الإلهي مخالفة الكتاب العزيز وتكذيب القرآن الكريم ، لأنّ اللّه تعالى بيّن في محكم كتابه العديد من الآيات الدالة على
____________
1- انظر: نهج الحقّ، العلاّمة الحلّي: المسألة الثالثة: ص91 ـ 92 .
2- انظر: المصدر السابق: ص94 .
3- انظر: الرسالة السعدية، العلاّمة الحلّي: القسم الأوّل ، المسألة السادسة، البحث الرابع ، ص62 .
|
الصفحة 92 |
|
وجود الغرض والغاية في أفعاله تعالى(1).
الآيات القرآنية الدالة على وجود الغرض والغاية في أفعال الله تعالى :
القسم الأوّل: الآيات العامة
1 ـ { وَهُوَ الَّذِي خَلَقَ السَّماواتِ وَالأَرْضَ بِالْحَقِّ(2) } [ الأنعام: 73 ]
2 ـ { وَما خَلَقْنَا السَّماواتِ وَالأَرْضَ وَما بَيْنَهُما لاعِبِينَ(3) * ما خَلَقْناهُما إِلاّ بِالْحَقِّ } [ الدخان: 38 ـ 39 ]
3 ـ { وَيَتَفَكَّرُونَ فِي خَلْقِ السَّماواتِ وَالأَرْضِ رَبَّنا ما خَلَقْتَ هذا باطِلاً(4) }[ آل عمران: 191 ]
4 ـ { أَ فَحَسِبْتُمْ أَنَّما خَلَقْناكُمْ عَبَثاً(5) } [ المؤمنون: 115 ]
القسم الثاني : الآيات الخاصة
إنّ هذه الآيات تضمّنت تعيين غرض وغاية لبعض أفعال اللّه تعالى ، ومن هذه الآيات :
1 ـ { وَما خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالإِنْسَ إِلاّ لِيَعْبُدُونِ } [ الذاريات: 56 ]
2 ـ { إِلاّ مَنْ رَحِمَ رَبُّكَ وَلِذلِكَ خَلَقَهُمْ } [ هود: 119 ]
3 ـ { وَهُوَ الَّذِي خَلَقَ السَّماواتِ وَالأَرْضَ ... لِيَبْلُوَكُمْ أَيُّكُمْ أَحْسَنُ عَمَلاً }
____________
1- انظر: نهج الحقّ، العلاّمة الحلّي: المسألة الثالثة، مبحث: أنّ اللّه تعالى لا يفعل القبيح ، ص93 .
2- كلمة "الحقّ" في هذه الآية تعني: الفعل ذو الهدف القيّم اللائق بالفاعل.
انظر: معارف القرآن ، (معرفة اللّه) ، محمّد تقي المصباح: هدف الأفعال الإلهية، ص238 .
3- "اللعب" عبارة عن مجموعة حركات منظّمة تودّى من أجل هدف يرضي خيال الإنسان فقط ، ولا تكون للنتيجة حقيقة واقعية .
انظر: المصدر السابق: ص240 .
4- كملة "الباطل" في هذه الآية تعني: الفعل الفاقد للهدف القيّم اللائق بالفاعل .
انظر: المصدر السابق: ص239 .
5- "العبث" هو الفعل الفاقد للهدف الصحيح .
انظر: المصدر السابق .
|
الصفحة 93 |
|
[ هود: 7 ]
4 ـ { وَهُوَ الَّذِي جَعَلَ لَكُمُ النُّجُومَ لِتَهْتَدُوا بِها } [ الأنعام: 97 ]
5 ـ { هُوَ الَّذِي جَعَلَ الشَّمْسَ ضِياءً وَالْقَمَرَ نُوراً وَقَدَّرَهُ مَنازِلَ لِتَعْلَمُوا عَدَدَ السِّنِينَ وَالْحِسابَ ما خَلَقَ اللّهُ ذلِكَ إِلاّ بِالْحَقِّ } [ يونس: 5 ]
6 ـ { هُوَ الَّذِي خَلَقَ لَكُمْ ما فِي الأَرْضِ جَمِيعاً } [ البقرة: 29 ]
7 ـ { مِنْ أَجْلِ ذلِكَ كَتَبْنا عَلى بَنِي إِسْرائِيلَ } [ المائدة: 32 ]
8 ـ { لُعِنَ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ ... ذلِكَ بِما عَصَوْا وَكانُوا يَعْتَدُونَ } [ المائدة: 78 ]
9 ـ { فَبِظُلْم مِنَ الَّذِينَ هادُوا حَرَّمْنا عَلَيْهِمْ طَيِّبات أُحِلَّتْ لَهُمْ وَبِصَدِّهِمْ عَنْ سَبِيلِ اللّهِ كَثِيراً } [ النساء: 160 ]
10 ـ { كِتابٌ أَنْزَلْناهُ إِلَيْكَ لِتُخْرِجَ النّاسَ مِنَ الظُّلُماتِ إِلَى النُّورِ } [ إبراهيم: 1 ]
11 ـ { لِنَجْعَلَها لَكُمْ تَذْكِرَةً } [ الحاقة: 12 ]
12 ـ { لِنُحْيِيَ بِهِ بَلْدَةً مَيْتاً } [ الفرقان: 49 ]
13 ـ { لِنُخْرِجَ بِهِ حَبًّا وَنَباتاً } [ النبأ: 15 ]
14 ـ { وَنَبْلُوَا أَخْبارَكُمْ } [ محمّد: 31 ]
15 ـ { لِتُجْزى كُلُّ نَفْس بِما تَسْعى } [ طه: 15 ]
16 ـ { لِنُرِيَهُ مِنْ آياتِنا } [ الإسراء: 1 ]
17 ـ { لِنُرِيَكَ مِنْ آياتِنَا الْكُبْرى } [ طه: 23 ]
|
الصفحة 94 |
|
المبحث الرابع
غرض وغاية اللّه تعالى من خلق الإنسان
1 ـ الرحمة :
قال تعالى: { إِلاّ مَنْ رَحِمَ رَبُّكَ وَلِذلِكَ خَلَقَهُمْ } [ هود: 119 ]
وقال الإمام جعفر بن محمّد الصادق(عليه السلام) حول تفسير هذه الآية: "خلقهم ليفعلوا ما يستوجبوا به رحمته، فيرحمهم"(1).
2 ـ العبادة :
قال تعالى: { وَما خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالإِنْسَ إِلاّ لِيَعْبُدُونِ } [ الذاريات: 56 ]
3 ـ المعرفة :
ورد في الحديث القدسي المشهور: "كنت كنزاً مخفياً فأحببت أن أعرف فخلقت الخلق لأعرف"(2).
وورد عن الإمام الحسين(عليه السلام): "إنّ اللّه جلّ ذكره ما خلق العباد إلاّ ليعرفوه، فإذا عرفوه عبدوه"(3).
4 ـ إظهار قدرته وحكمته :
سُئل الإمام الصادق(عليه السلام): لِمَ خلق اللّه الخلق؟ فقال: "إنّ اللّه تبارك وتعالى لم يخلق
____________
1- التوحيد، الشيخ الصدوق: باب 12: باب أنّ اللّه تعالى لا يفعل بعباده إلاّ الأصلح لهم، ح10 ، ص392 .
2- هذا الحديث مجهول السند، ولكن معناه صحيح، وهو مستفاد من قوله تعالى: ( وَما خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالإِنْسَ إِلاّ لِيَعْبُدُونِ) أي: ليعرفوني كما فسّره ابن عباس .
راجع: إحقاق الحقّ وإزهاق الباطل، نور اللّه الحسيني المرعشي التستري، تعليق، السيّد شهاب الدين المرعشي النجفي: في أ نّه تعالى يفعل لغرض وحكمة، ص431 .
3- علل الشرائع ، الشيخ الصدوق: باب9: علّة خلق الخلق واختلاف أحوالهم ، ح1، ص9 .
|
الصفحة 95 |
|
خلقه عبثاً ، ولم يتركهم سدى ، بل خلقهم لإظهار قدرته، وليكلّفهم طاعته، فيستوجبوا بذلك رضوانه، وما خلقهم ليجلب منهم منفعة ولا ليدفع بهم مضرّة، بل خلقهم لينفعهم ويوصلهم إلى نعيم الأبد"(1).
وفي حديث آخر: سُئل الإمام الصادق(عليه السلام): لأيّ علّة خلق [ اللّه عزّ وجلّ ]الخلق وهو غير محتاج إليهم ولا مضطر إلى خلقهم ولا يليق به العبث بنا ؟
قال(عليه السلام): "خلقهم لإظهار حكمته ..."(2).
النتيجة :
إنّ اللّه تعالى خلق العباد إظهاراً لقدرته وحكمته ، وخلقهم ليرحمهم ، فكلّفهم بمعرفته والإقرار بوجوده والامتثال لأوامره ونواهيه ، ليكون التزامهم الاختياري بهذا التكليف سبباً لمعيشتهم في ظل الرحمة الإلهية المتمثّلة بجنة النعيم التي أعدّها للمتقين والرضوان الإلهي الذي أعدّه لأصحاب الدرجات العليا .
تنبيهان :
1 ـ خلق اللّه تعالى الأرض والسماء لأجل الإنسان، وذلك لقوله تعالى:
أوّلا: { خَلَقَ لَكُمْ ما فِي الأَرْضِ جَمِيعاً } [ البقرة: 29 ]
ثانياً: { الَّذِي جَعَلَ لَكُمُ الأَرْضَ فِراشاً وَالسَّماءَ بِناءً وَأَنْزَلَ مِنَ السَّماءِ ماءً فَأَخْرَجَ بِهِ مِنَ الثَّمَراتِ رِزْقاً لَكُمْ } [ البقرة: 22 ]
2 ـ إنّ الغرض والغاية من خلقه تعالى للبشر ـ كما ذكرنا ـ هو التكليف بالعبادة من أجل التكامل ونيل الرحمة الإلهية، ولكن البعض من الناس لا تتوفّر لهم الأجواء المناسبة في هذه الدنيا لاجتياز مرحلة الاختبار الإلهي، وهؤلاء من قبيل الأطفال الذين يموتون قبل البلوغ، أو المجانين، أو غيرهم ممن لم تتوفّر فيهم شروط التكليف في هذه الدنيا .
____________
1- علل الشرائع، الشيخ الصدوق: باب 9: علّة خلق الخلق واختلاف أحوالهم، ح2 ص9 .
2- الاحتجاج ، الشيخ الطبرسي: احتجاجات الإمام الصادق(عليه السلام) ، احتجاج رقم 223، ص217 .
|
الصفحة 96 |
|
ولهذا يؤخّر اللّه تعالى اختبار هؤلاء ، ويجعله في يوم القيامة، ليحدّد هؤلاء مصيرهم في ذلك الموقف، ويعيّنوا اتّجاههم إلى الجنة أو النار(1).
____________
1- راجع: بحار الأنوار ، العلاّمة المجلسي: ج5، كتاب العدل والمعاد، ب13، ص288 ـ 297 .
وانظر في هذا الكتاب: الفصل الثامن: التكليف، المبحث السابع: تكليف من لم تتم عليهم الحجّة في الدنيا.
|
الصفحة 97 |
|
المبحث الخامس
مناقشة رأي الأشاعرة حول غرض وغاية الفعل الإلهي
رأي الأشاعرة :
إنّ أفعال اللّه تعالى ليست معلّلة بالأغراض(1).
أدلة الأشاعرة(2) :
الدليل الأوّل للأشاعرة على إنكار وجود الغرض في أفعال الله تعالى :
لو كان لفعله تعالى غرض ، لزم أن يكون الباري عزّوجلّ ناقصاً بذاته ومستكملا بتحصيل ذلك الغرض، ولكن اللّه تعالى غني بذاته، ولايجوز له الاستكمال .
يرد عليه :
1 ـ إنّ الاستكمال يكون فيما لو كانت أغراض وغايات الفعل الإلهي تعود على اللّه تعالى بالمنفعة، ولكن الأمر ليس كذلك ، وإنّ منفعة هذه الأغراض والغايات تعود للمخلوقات .
فلهذا لا يلزم وجود الغرض والغاية في الفعل الإلهي الاستكمال له تعالى(3).
____________
1- انظر: الأربعين في أصول الدين ، فخر الدين الرازي: ج1، المسألة السادسة والعشرون ، ص350 .
كتاب المواقف، عضد الدين الإيجي: ج3 ، الموقف 5 ، المرصد 6 ، المقصد 8 ، ص294 .
شرح المقاصد، سعد الدين التفتازاني: ج4، المقصد 5 ، الفصل 5 ، المبحث 5، ص301 .
2- انظر: المصادر المذكورة في الهامش السابق .
3- انظر: كشف المراد ، العلاّمة الحلّي: المقصد الثالث، الفصل الثالث، المسألة الرابعة، ص422 .
النافع يوم الحشر، مقداد السيوري، الفصل الرابع، ص71 .
تنبيه :
قد لا يكون الغرض من الفعل الإلهي منفعة العبد، وإنّما يكون ذلك لاقتضاء نظام الوجود.
مثال ذلك :
إنّ من أمثلة "اقتضاء نظام الوجود": خلود أهل النار في النار، لأنّ خلودهم لا نفع فيه لهم، ولكنه من قبيل اقتضاء أعمالهم السيئة، لأنّ الإنسان يخلّد في الآخرة مع أعماله التي قام بها في الدنيا ، والأعمال السيئة تتحوّل إلى نار، فيعيش معها .
|
الصفحة 98 |
|
بعبارة أُخرى :
إنّ منشأ خطأ الأشاعرة هو الخلط بين :
أ ـ غاية الفاعل .
ب ـ غاية الفعل .
والمنفى عنه تعالى هو "غاية الفاعل"، لأنّ وجود الغاية للفاعل تعني: أنّ الفاعل ناقص، فيصل إلى الكمال عن طريق الغاية ، وهذا لا يجوز بالنسبة إلى اللّه تعالى .
والثابت للّه تعالى هو "غاية الفعل" ، وهذا لا يستلزم وجوده النقص للّه تعالى، بل يؤدّي إلى نفي العبث عن أفعاله تعالى(1).
2 ـ إنّ احتياج الفعل الإلهي إلى الغرض والغاية ليس من قبيل :
الاحتياج الدال على نقصه تعالى .
بل هو من قبيل :
احتياجه تعالى في كونه "رازقاً" إلى "مَن يرزقه" .
وهذا الاحتياج ليس نقصاً، والأصح عدم تسميته "احتياجاً" .
بل هو "شرط" من شروط وجود الفعل أو شروط كماله .
فمن شروط كونه تعالى "رازقاً" أن يكون في الواقع الخارجي "مَن يرزقه" .
ومن شروط "كمال الفعل الإلهي" أن يكون هذا الفعل "ذا غرض وغاية حكيمة"(2).
____________
1- انظر: القواعد الكلامية، علي الرباني الكلبايكاني: العدل والحكمة، الفصل الثاني، ص158 .
2- انظر: دلائل الصدق ، محمّد حسن المظفر: ج1 ، المسألة 3، المبحث 11، المطلب 4، ص391 .
|
الصفحة 99 |
|
الدليل الثاني للأشاعرة على إنكار وجود الغرض في أفعال الله تعالى :
إنّ أداء الفعل من أجل الغرض والغاية يعني الوقوع تحت تأثيرها، فيكون اللّه تعالى محكوماً لا حاكماً، واللّه تعالى منزّه عن المحكومية(1).
يرد عليه :
إنّ وجود الغرض والغاية لا يعني وجود عامل خارجي يجعل اللّه تعالى متأثّراً بهذا العامل ومحكوماً ومقيّداً به، بل يعني ذلك: أنّ مقتضى كماله تعالى وحكمته أن يكون فعله ذا غرض وغاية حكيمة .
بعبارة أُخرى :
إنّ وجود الغرض والغاية في فعله تعالى لا يعني كون الغرض والغاية قيداً لهذا الفعل .
وإنّما يكون وجود الغرض والغاية من شروط كمال الفعل الإلهي ، لأنّ الفعل الفاقد للغرض والغاية يكون فعلا متّصفاً بالعبث واللغو ، واللّه تعالى منزّه عن ذلك .
الدليل الثالث للأشاعرة على إنكار وجود الغرض في أفعال الله تعالى :
إنّ القول بوجود الغرض في الفعل الإلهي يعني :
عدم حصول الفعل الإلهي إلاّ بتوسّط الغرض .
وعدم حصول الفعل الإلهي إلاّ تبعاً للغرض .
ولكن اللّه تعالى فاعل لجميع الأشياء ابتداءً ومن دون توسّط شيء(2) .
يرد عليه :
إنّ غرض الفعل الإلهي ليس شيئاً خارجاً ومنفصلا عن وجود فعله تعالى ليكون واسطة لتحقّق الفعل الإلهي ، وإنّما الغرض هنا عبارة عن الأمر الذي يُخرج الفعل من
____________
1- انظر: المصادر المذكورة في بداية هذا المبحث .
2- انظر: المصادر المذكورة في بداية هذا المبحث .
|
الصفحة 100 |
|
العبث واللغو، وهذا الأمر عبارة عن:
1 ـ الحكمة الكامنة في هذا الفعل .
2 ـ الأهداف المطلوبة من هذا الفعل .
مثال :
إنّ الغرض والغاية من خلقه تعالى للعالم ليس أمراً خارجاً عن وجود هذا العالم، بل هو عبارة عن:
1 ـ الحكمة الكامنة في خلق هذا العالم .
2 ـ الأهداف المطلوبة من خلق هذا العالم .
وهذه الحكمة وهذه الأهداف هي بلوغ العالم بأجزائه إلى الكمال الممكن .
وهذا الكمال خصوصية موجودة في نفس العالم .
وليس الغرض والغاية الإلهية هنا شيئاً مفصولا وخارجاً عن خلقه تعالى للعالم.
ولهذا لا يوجد أي تناف بين الأمرين التاليين :
1 ـ وجود الغرض والغاية في الفعل الإلهي.
2 ـ فعل اللّه الأشياء ابتداءً ومن دون توسّط شيء خارج عنها .
الدليل الرابع للأشاعرة على إنكار وجود الغرض في أفعال الله تعالى :
لو قلنا بضرورة وجود الغرض في جميع الأفعال الإلهية .
فينبغي القول بأنّ هذا الغرض أيضاً يجب أن يكون له ـ حسب هذه القاعدة ـ غرض آخر .
ومن هنا تتسلسل الأغراض إلى ما لا نهاية لها .
فنضطر إلى الاعتراف بانتهاء أفعاله تعالى إلى فعل لا غرض له .
فيثبت وجود فعل إلهي ليس له غرض .
|
الصفحة 101 |
|
وهذا يتنافى مع قاعدة ضرورة وجود الغرض لجميع الأفعال الإلهية(1).
يرد عليه :
إنّ الغرض لا يحتاج إلى غرض آخر ، وعندما نقول: إنّ الغرض من التكامل هو "حسن التكامل" ، هذا "الحُسن" لا يحتاج إلى غرض يحسّنه ، بل هو حسن بذاته، ويكون الغرض منه نفس وجوده(2) .
الدليل الخامس للأشاعرة على إنكار وجود الغرض في أفعال الله تعالى :
إنّ بعض الآيات القرآنية تدل على نفي وجود الغرض في الفعل الإلهي منها(3) :
1 ـ { لا يُسْئَلُ عَمّا يَفْعَلُ } [ الأنبياء: 23 ]
يلاحظ عليه :
إنّ هذه الآية لا تدل على نفي وجود الغرض في الفعل الإلهي، بل تدل على :
أوّلا : عدم وجود آمر وناه عليه تعالى حتّى يسأله عن فعله كما يُسأل الناس عن أفعالهم .
ثانياً : لا معنى للسؤال عن فعله تعالى ، لأ نّه حكيم ، ولا يفعل إلاّ ما تقتضيه الحكمة(4).
سُئل الإمام محمّد بن علي الباقر(عليه السلام) حول أفعاله تعالى: كيف لا يُسأل عما يفعل؟
قال(عليه السلام): "لأ نّه لا يفعل إلاّ ما كان حكمة وصواباً"(5) .
2 ـ { يَفْعَلُ اللّهُ ما يَشاءُ } [ إبراهيم: 27 ] ، { يَحْكُمُ ما يُرِيدُ } [ المائدة: 1 ]
يلاحظ عليه :
____________
1- انظر: المصادر المذكورة في بداية هذا المبحث .
2- انظر: الإلهيات، محاضرات: جعفر السبحاني، بقلم: حسن محمّد مكي العاملي: 1/268 ـ 269 .
صراط الحقّ ، محمّد آصف المحسني: ج2 ، المقصد الخامس ، تبعية أفعاله للأغراض ، ص198 .
3- انظر: التفسير الكبير، فخر الدين الرازي: ج10، تفسير آية 56 من سورة الذاريات، ص193 .
4- انظر: مجمع البيان، الشيخ الطبرسي: ج7، تفسير آية 23 من سورة الأنبياء، ص70 .
5- التوحيد، الشيخ الصدوق: باب 61، ح13، ص386 .
|
الصفحة 102 |
|
إنّ مفاد هاتين الآيتين إطلاق مشيئته تعالى وإرادته، وليس فيهما أيّة دلالة على عدم وجود الغرض والغاية في فعله تعالى وحُكمه(1).
3 ـ { فَإِنَّ اللّهَ لَغَنِيٌّ حَمِيدٌ } [ إبراهيم: 8 ]
يلاحظ عليه :
غنى الله تعالى يعني الغنى عن الغرض والغاية التي تعود بالمنفعة إليه تعالى.
ولكن الأغراض والغايات الإلهية ـ في الواقع ـ لا تعود بالمنفعة إليه تعالى، وإنّما تعود بالمنفعة إلى غير اللّه عزّ وجلّ .
وليس في هذه الآية ما يدل على نفي الأغراض والغايات التي تعود بالمنفعة إلى غير اللّه تعالى(2).
رأي التفتازاني حول وجود الغرض والغاية في أفعال الله تعالى :
اختار "التفتازاني" قولا وسطاً بين العدلية والأشاعرة، وهو تعليل بعض أفعاله تعالى بالغاية دون الجميع فقال:
"والحقّ أنّ تعليل بعض الأفعال لاسيما شرعية الأحكام بالحكم والمصالح ظاهر كإيجاب الحدود والكفارات وتحريم المسكرات وما أشبه ذلك ، والنصوص أيضاً شاهدة بذلك ... وأمّا تعميم ذلك بأن لا يخلو فعل من أفعاله [ تعالى ] عن غرض فمحل بحث"(3).
يلاحظ عليه :
إنّ مسألة "الغرض والغاية" ليست من التعبّديات ليمكننا الاقتصار على الأدلة النقلية فقط ، بل هي من الأُمور العقلية ، وملاكها لزوم وجود العبث في الفعل الإلهي فيما لو نفينا الغرض عن أفعاله تعالى ، وهذا يعمّ التكوين والتشريع سواء علمنا بالغاية أم لا(4) .
____________
1- انظر: صراط الحقّ ، محمّد آصف المحسني: ج2، المقصد الخامس ، القاعدة الرابعة، ص202 ـ 203 .
2- صراط الحقّ ، محمّد آصف المحسني: ج2، المقصد الخامس ، القاعدة الرابعة، ص202 ـ 203 .
3- شرح المقاصد، سعد الدين التفتازاني: ج4، المقصد 5، الفصل 5 ، المبحث 5، ص302 ـ 303 .
4- انظر: القواعد الكلامية، علي الرباني الكلبايكاني: الفصل الثاني ، ص158 .
|
الصفحة 103 |
|
تنبيه :
قالت الأشاعرة في الصعيد الفقهي بحجّية "القياس".
ولا يخفى بأنّ "القياس" لا يثبت إلاّ بعد الاعتقاد بوجود "الغرض الإلهي" في تشريعه تعالى لكلّ موضوع، ليمكن قياس الموضوع الآخر عليه، وتسرية الحكم الشرعي من الموضوع الأصلي إليه .
وهذا القول يتنافى مع رأيهم في الصعيد العقائدي ويتنافى مع قولهم بعدم وجود الغرض في الأفعال الإلهية .
|
الصفحة 104 |
|
|
الصفحة 105 |
|