الصفحة 281

تعالى ، فيثبت عدم قبح تكليف ما لا يطاق(1) .

يرد عليه :

ورد في مقام الردّ على هذا الدليل مجموعة آراء، منها:

1 ـ إنّ الإخبار عن أبي لهب بأنّه لا يؤمن وقع بعد موته لا قبله(2).

2 ـ إنّ اللّه تعالى لم يخبر بأنّ أبا لهب لا يؤمن أو أ نّه سيموت كافراً، وإنّما أخبر بأ نّه سيصلى ناراً ذات لهب ، وهذا لا يستلزم الكفر، لأنّ العذاب الإلهي أيضاً يشمل الظالم ولو كان مسلماً(3).

3 ـ كان أبو لهب مكلّفاً بالإيمان من حيث كونه مختاراً وقادراً على الإيمان ، وهذا الإيمان أمر ممكن وليس مما لا يطاق .

وأمّا إخباره تعالى بعدم إيمان أبي لهب فهو من حيث العلم، والعلم ـ كما ذكرنا ـ يكشف عن الواقع كما هو عليه، وقد كشف علم اللّه تعالى بأنّ أبا لهب لا يؤمن باختياره .

ولو كان أبو لهب مختاراً للإيمان، لكان في علم اللّه تعالى بأ نّه يؤمن ، والعلم تابع للمعلوم، وليس له أي تأثير على الواقع الخارجي(4).

4 ـ إنّ إخباره تعالى بعدم إيمان أبي لهب ورد بعد أن لم يؤمن أبو لهب بما كُلّف به، فأخبر اللّه تعالى بأ نّه لا يؤمن ، لأ نّه أصبح نتيجة أعماله ممن خُتم على قلبه

____________

1- انظر: شرح المقاصد، سعد الدين التفتازاني: ج4، المقصد 5، الفصل 5، المبحث 5 ، ص297 .

محصّل أفكار المتقدّمين والمتأخرين ، فخر الدين الرازي: مسألة الحسن والقبح ، ص202 .

دلائل الصدق، محمّد حسن المظفر: ج1، المسألة 31، المبحث 11، المطلب 1، مناقشة الفضل، ص327.

2- انظر: إرشاد الطالبين ، مقداد السيوري: مباحث العدل، احتجاج الأشاعرة، ص257 .

3- انظر : دلائل الصدق ، محمّد حسن المظفر : ج 1 ، المسألة 3 ، المبحث 11 ، المطلب 1 ، مناقشة المظفر ، ص 328 .

4- انظر: مناهج اليقين، العلاّمة الحلّي: المقصد السادس، المبحث الأوّل ، ص234 .

تلخيص المحصّل، نصير الدين الطوسي: الركن الثالث، القسم الثالث ، ص340 .

إشراق اللاهوت، عميد الدين العُبيدلي: المقصد السابع، المسألة الأُولى ، ص310 .


الصفحة 282

وسمعه وبصره(1) .

الآيات القرآنية التي استدل بها القائلون بجواز التكليف بما لا يطاق :

استدل بعض الأشاعرة بآيات قرآنية ظنّوا أ نّها تدل على جواز التكليف بما لا يطاق ، مع أ نّها بعيدة كلّ البُعد عما ذهبوا إليه ، وأبرز هذه الآيات(2):

الآية الأولى :

{ أُولئِكَ لَمْ يَكُونُوا مُعْجِزِينَ فِي الأَرْضِ وَما كانَ لَهُمْ مِنْ دُونِ اللّهِ مِنْ أَوْلِياءَ يُضاعَفُ لَهُمُ الْعَذابُ ما كانُوا يَسْتَطِيعُونَ السَّمْعَ وَما كانُوا يُبْصِرُونَ } [ هود: 20 ]

وجه الاستدلال :

إنّ الكافرين أُمروا أن يسمعوا الحقّ وكُلّفوا به مع أ نّهم { ما كانُوا يَسْتَطِيعُونَ السَّمْعَ } ، فدلّ ذلك على جواز التكليف بما لا يطاق .

يرد عليه :

إنّ سبب عدم استطاعة هؤلاء الكافرين على السمع والبصر المعنوي هو تماديهم في الظلم والغي وإحاطة ظلمة الذنوب على قلوبهم وأعينهم وأسماعهم ، حيث أمات العصيان والطغيان قلوبهم وأصمّ أسماعهم(3) .

بعبارة أُخرى :

إنّ هذه الآية لا تدل على فقدان الكافرين السمع والبصر المعنوي في بداية الأمر ، بل تدل على أ نّهم حرموا أنفسهم من هذا السمع والبصر بذنوبهم ، فصارت

____________

1- انظر: الإنصاف، جعفر السبحاني: ج3، أدلة المنكرين للتحسين والتقبيح العقليين، ص32، 33 .

2- انظر تفاسير علماء أهل السنة، كما أشار سعد الدين التفتازاني في كتابه شرح المقاصد، وأشار ميمون بن محمّد النسفي في كتابه بحر الكلام إلى هذه الآيات ووجه الاستدلال بها، وقد بيّن التفتازاني والنسفي في هذا المجال عدم صحّة الأدلة التي احتج بها القائلون بجواز التكليف بما لا يطاق.

انظر: شرح المقاصد، سعد الدين التفتازاني: ج4، المقصد 5، الفصل 5، المبحث 5، ص299 ـ 301 .

وانظر: بحر الكلام، ميمون بن محمّد النسفي: الباب الرابع، الفصل الأوّل، المبحث الثالث، ص199ـ201 .

3- انظر: الفوائد البهية، محمّد حمّود العاملي: ج1، الفصل الأوّل ، الباب الخامس ، الأمر الثاني، ص305 .


الصفحة 283

الذنوب التي ارتكبوها سبباً لئلا يسمعوا وأن لا يبصروا الحقائق المعنوية .

الآية الثانية :

{ رَبَّنا وَلا تُحَمِّلْنا ما لا طاقَةَ لَنا بِهِ } [ البقرة: 286 ]

وجه الاستدلال :

إنّ هذه الآية تدل بوضوح على جواز تكليف ما لا يطاق ، فلو لم يكن التكليف للعاجز جائزاً لم يكن لهذا الدعاء معنى وفائدة .

يرد عليه :

هذه الآية :

لا تشير إلى "تكليف" ما لا يطاق .

وإنّما تشير إلى "تحميل" ما لا يطاق .

وهناك فرق بين "التكليف" و"التحميل" .

والفرق هو :

إنّ في "التكليف" يطلب المكلِّف من المكلَّف أن يقوم بفعل معيّن .

ولهذا يشترط في هذا المقام أن يمتلك المكلَّف القدرة والطاقة على ذلك الفعل .

ولكن "التحميل" ليس فيه طلب، وإنّما هو عبارة عن مصائب وابتلاءات وكوارث يحمّلها اللّه تعالى على الإنسان لأغراض حكيمة .

وهذه المصائب التي يواجهها الإنسان :

قد يطيقها ويتمكّن من الوقوف بوجهها والمحافظة على تعادله .

وقد لا يطيقها فتربك توازنه وتشل حركته وتدمّر قدراته وقواه .

النتيجة :

الكلام يدور في هذه الآية حول "تحميل المصائب" التي لا يطيق الإنسان صدّها وإبعاد نفسه عنها، وليس الكلام حول "التكليف" بما لا يطاق .


الصفحة 284

الآية الثالثة :

{ وَعَلَّمَ آدَمَ الأَسْماءَ كُلَّها ثُمَّ عَرَضَهُمْ عَلَى الْمَلائِكَةِ فَقالَ أَنْبِئُونِي بِأَسْماءِ هؤُلاءِ إِنْ كُنْتُمْ صادِقِينَ * قالُوا سُبْحانَكَ لا عِلْمَ لَنا إِلاّ ما عَلَّمْتَنا إِنَّكَ أَنْتَ الْعَلِيمُ الْحَكِيمُ [} البقرة: 31 ـ 32 ]

وجه الاستدلال :

إنّ اللّه تعالى كلّف الملائكة بأن يذكروا أسماء ما كانوا عالمين بها، ولا طريق لهم إلى علمها، وهذا ما يدل على أ نّه تعالى كلّفهم بما لا يطاق .

يرد عليه :

إنّ الأمر في قوله تعالى: { أَنْبِئُونِي بِأَسْماءِ هؤُلاءِ } للتعجيز لا للتكليف ، وهذا نظير قوله تعالى: { وَإِنْ كُنْتُمْ فِي رَيْب مِمّا نَزَّلْنا عَلى عَبْدِنا فَأْتُوا بِسُورَة مِنْ مِثْلِهِ وَادْعُوا شُهَداءَكُمْ مِنْ دُونِ اللّهِ إِنْ كُنْتُمْ صادِقِينَ } [ البقرة: 23 ] .

بعبارة أُخرى :

إنّ الغرض من أمره تعالى في هذا المقام بيان عجز المخاطبين ، وليس هذا الأمر من قبيل الأمر الحقيقي الذي يثاب فاعله ويعاقب تاركه، ولهذا لم يستحق الملائكة العقاب عندما لم ينبئوا ويخبروا اللّه تعالى بهذه الأسماء ، ولم يعدّ عدم تلبيتهم لهذا الأمر الإلهي ذنباً أو عصياناً(1) .

الآية الرابعة :

{ يَوْمَ يُكْشَفُ عَنْ ساق وَيُدْعَوْنَ إِلَى السُّجُودِ فَلا يَسْتَطِيعُونَ * خاشِعَةً أَبْصارُهُمْ تَرْهَقُهُمْ ذِلَّةٌ وَقَدْ كانُوا يُدْعَوْنَ إِلَى السُّجُودِ وَهُمْ سالِمُونَ} [ القلم: 42ـ43]

وجه الاستدلال :

إذا جاز تكليف هؤلاء في الآخرة بما لا يستطيعون جاز ذلك في الدنيا .

____________

1- انظر: المنقذ من التقليد، سديد الدين الحمصي: ج1، القول في تكليف ما لا يطاق، ص205 .


الصفحة 285

يرد عليه :

ليس الغرض من هذه الآية التكليف الحقيقي الذي يشترط فيه القدرة، بل الغاية منه إيجاد الحسرة والندامة في نفوس التاركين للسجود على ما فرّطوا في الدنيا عندما كانت أبدانهم تتمتّمع بالصحة والسلامة .

بعبارة أُخرى :

إنّ الآية بصدد بيان أنّ هؤلاء رفضوا امتثال أوامر اللّه تعالى في الدنيا عندما كانوا يستطيعون ذلك ، ولكنهم بعدما كُشف الغطاء عن أعينهم، ورأوا العذاب همّوا بالطاعة والسجود، ولكن أنّى لهم ذلك في الآخرة، فهم لا يستطيعون ذلك لعدم سلامة أبدانهم، أو نتيجة القبائح التي ارتكبوها في الدنيا، أو لاستقرار ملكة الاستكبار في سرائرهم(1) .

الآية الخامسة :

قال تعالى: { فَإِنْ خِفْتُمْ أَلاّ تَعْدِلُوا فَواحِدَةً } [ النساء: 3 ]

وقال تعالى: { وَلَنْ تَسْتَطِيعُوا أَنْ تَعْدِلُوا بَيْنَ النِّساءِ وَلَوْ حَرَصْتُمْ} [ النساء:129 ]

وجه الاستدلال :

إنّ اللّه عزّ وجلّ جوّز تعدّد الزوجات، وكلّف كلّ من يتزوّج أكثر من واحدة أن يراعي العدل بين زوجاته، ولكنه تعالى بيّن في الآية الثانية بأنّ مراعاة العدل بين الزوجات أمر لا يقدر عليه الإنسان . فنستنتج بأنّ "المتزوّج أكثر من واحدة" مكلّف من قبل اللّه تعالى بما لا يطاق .

يرد عليه :

إنّ المقصود من العدالة في قوله تعالى: { فَإِنْ خِفْتُمْ أَلاّ تَعْدِلُوا } غير المقصود من العدالة في قوله تعالى: { وَلَنْ تَسْتَطِيعُوا أَنْ تَعْدِلُوا } .

____________

1- انظر: الإلهيات ، محاضرات: جعفر السبحاني، بقلم: حسن محمّد مكي العاملي: 1/305 ـ 306 .


الصفحة 286

توضيح :

أقسام العدالة بين الزوجات :

1 ـ عدالة يمكن مراعاتها ، وهي العدالة في الملبس والمأكل والمسكن وغيرها من حقوق الزوجية التي تقع في دائرة اختيار الإنسان ، وهذه العدالة هي المقصودة في قوله تعالى: { فَإِنْ خِفْتُمْ أَلاّ تَعْدِلُوا } .

2 ـ عدالة لا يمكن مراعاتها، وهي العدالة في إقبال النفس وما يرتبط بالقلب وغيرها من الأُمور التي لا تقع في دائرة اختيار الإنسان ، وهذه العدالة هي المقصودة في قوله تعالى: { وَلَنْ تَسْتَطِيعُوا أَنْ تَعْدِلُوا } .

التكليف الإلهي حول مراعاة العدالة بين الزوجات :

إنّ "المتزوّج أكثر من واحدة" مكلّف فقط بمراعاة "العدالة" التي يقدر عليها، (وهي العدالة المذكورة في القسم الأوّل) ، وهو غير مكلف بمراعاة "العدالة" التي لا يقدر عليها (وهي العدالة المذكورة في القسم الثاني) . ولهذا لا يوجد في هاتين الآيتين ما يدل على وقوع التكليف بما لا يطاق .


الصفحة 287

الصفحة 288

الفصل التاسع

الثواب والعقاب

معنى الثواب والعقاب
   استحقاق الثواب والعقاب
   دوام أو انقطاع الثواب والعقاب
   التناسب بين الذنوب والعقاب الأخروي
   مناقشة رأي الأشاعرة حول الثواب والعقاب


الصفحة 289

الصفحة 290

المبحث الأوّل

معنى الثواب والعقاب

معنى الثواب (في اللغة) :

"الثواب" يعني "الرجوع"، ويطلق "الثواب" على أفعال العباد بمعنى ما يرجع إليهم من جزاء أعمالهم . ويستعمل الثواب في الخير والشر، ولكن الأكثر والمتعارف استعماله في الخير(1) .

تنبيه :

إنّ موضوع الثواب والعقاب موضوع مفصّل يرتبط بالمعاد ، ولكنّنا اقتصرنا في هذا الفصل على ذكر المواضيع المرتبطة بالعدل الإلهي فحسب .

معنى الثواب (في الاصطلاح العقائدي) :

الثواب هو النفع المستحق المقارن للتعظيم والإجلال(2) .

أي: الثواب عبارة عن أمر نافع يتم الحصول عليه نتيجة الاستحقاق، ويستلمه المستحق بحالة يحيطها التعظيم والإجلال .

____________

1- انظر: لسان العرب، ابن منظور: مادة (ثوب) .

مفردات ألفاظ القرآن ، الراغب الأصفهاني: مادة (ثوب) .

2- انظر: الذخيرة، الشريف المرتضى: الكلام في الأفعال، ص276 .

الاقتصاد، الشيخ الطوسي: القسم الثالث، الفصل الأوّل ، ص181 .

المسلك في أصول الدين، المحقّق الحلّي: النظر الثاني، البحث الرابع، المطلب الرابع، ص116 .

كشف المراد ، العلاّمة الحلّي: المقصد السادس، المسألة الخامسة، ص551 .

اللوامع الإلهية، مقداد السيوري: اللامع الثاني عشر، القطب الثاني، الفصل الأوّل ، البحث الأوّل ، ص433 .


الصفحة 291

توضيح قيود معنى الثواب(1) :

1 ـ قيد "المستحق": يخرج بهذا القيد "التفضّل" ، لأنّ التفضّل هو النفع الذي يُعطى من دون استحقاق .

2 ـ قيد "المقارن للتعظيم والإجلال": يخرج بهذا القيد "العوض"(2)، لأنّ العوض هو النفع المستحق الذي يُعطى من دون تقارنه بالتعظيم والإجلال .

من خصائص الثواب الإلهي :

لا يحسن إعطاؤه من دون استحقاق

إنّ اللّه تعالى يحسن منه الابتداء بإعطاء النفع لعباده على نحو "التفضّل"، ولكن الثواب هو النفع الذي لا يحسن إعطاؤه ابتداءً، وإنّما يُعطى لمن يستحق ذلك .

الدليل :

1 ـ إنّ الثواب عبارة عن منفعة مقرونة بالتعظيم ، وبما أنّ تعظيم من لا يستحق التعظيم غير حسن، فلهذا لا يحسن إعطاء الثواب الذي هو مقرون بالتعظيم إلاّ لمن يستحق التعظيم ، ولا يحسن اعطاؤه ابتداءً لمن لا يستحق ذلك(3) .

2 ـ إنّ اللّه تعالى جعل "التكليف" هو السبيل للحصول على الثواب ، فلو أمكن الحصول على الثواب من دون تكليف، فإنّ التكليف سيكون عبثاً لا فائدة فيه(4) .

____________

1- انظر: الاقتصاد ، الشيخ الطوسي: القسم الثالث ، الفصل الأوّل ، ص181 .

2- العوض عبارة عن: "النفع المستحق الخالي من التعظيم والإجلال" .

للمزيد راجع: الفصل الخامس ، من هذا الكتاب .

3- انظر: كشف المراد، العلاّمة الحلّي: المقصد السادس، المسألة الخامسة، ص552 .

4- انظر: شرح جمل العلم والعمل ، الشريف المرتضى: أبواب العدل، باب ما يجب اعتقاده في أبواب العدل، استحقاق الثواب والمدح بالطاعة ، ص139 .

قواعد المرام، ميثم البحراني: القاعدة السابعة، الركن الثالث ، البحث الثاني، ص159 .


الصفحة 292

معنى العقاب (في اللغة) :

العقاب هو الجزاء إزاء فعل السوء ، ويُقال: "عاقبه بذنبه" أي: أخذه به(1).

معنى العقاب (في الاصطلاح العقائدي) :

العقاب هو الضرر المستَحق المقرون بالاستخفاف والإهانة(2) .

أي: العقاب عبارة عن أمر ضار يتم الحصول عليه نتيجة الاستحقاق ، ويناله المستحق بحالة يحيطها الاستخفاف والإهانة .

توضيح قيود معنى العقاب :

1 ـ قيد "المستَحق": يخرج بهذا القيد الضرر المتضمّن للمصلحة ، من قبيل الآلام التي يبتلي اللّه تعالى بها الإنسان عند المرض و ... .

2 ـ قيد "المقارنة للاستخفاف والإهانة": يخرج بهذا القيد أيضاً الضرر المذكور في القيد السابق(3) .

____________

1- انظر: لسان العرب ، ابن منظور: مادة (عقب) .

2- راجع المصادر التي ذكرناها قبل قليل في هامش تعريف الثواب اصطلاحاً .

3- انظر: الاقتصاد، الشيخ الطوسي: القسم الثالث ، الفصل الأوّل ، ص181 .


الصفحة 293

المبحث الثاني

استحقاق الثواب والعقاب

موجبات استحقاق الثواب(1) :

1 ـ فعل الواجب .

2 ـ فعل ما له صفة الندب والاستحباب .

3 ـ الامتناع من فعل القبيح .

الفرق بين استحقاق المدح واستحقاق الثواب :

إنّ موجبات استحقاق المدح(2) ، هي نفسها موجبات استحقاق الثواب ،

لكن يشترط في(3) استحقاق الثواب إطاعة المولى(4).

____________

1- انظر: شرح جمل العلم والعمل ، الشريف المرتضى: أبواب العدل، باب ما يجب اعتقاده في أبواب العدل ، موجبات الثواب والشكر ، ص135 .

الاقتصاد، الشيخ الطوسي: القسم الثالث ، الفصل الأوّل ، ص182 .

المسلك في أصول الدين، المحقّق الحلّي: النظر الثاني، البحث الرابع، المطلب الرابع، ص116 .

اللوامع الإلهية، مقداد السيوري: اللامع الثاني عشر، القطب الثاني، الفصل الأوّل ، البحث الأوّل ، ص433 .

2- معنى المدح: قول ينبئ عن عظم حال الغير .

انظر: الذخيرة، الشريف المرتضى ، الكلام في الأفعال وما يستحق بها وعليها و ... ، ص276 .

الاقتصاد، الشيخ الطوسي: القسم الثالث ، الفصل الأوّل ، ص180 .

شروط المدح :

1 ـ أن يقصد به التعظيم .

2 ـ أن يكون اللفظ موضوعاً للتعظيم .


3- أن يكون المادح عالماً بعظم حال الممدوح ، والظن والاعتقاد لا يقوم مقام العلم في هذا المجال ، لأنّ المدح لا يكون إلاّ مستحقاً، ولا يصح ذلك إلاّ مع العلم .

تنبيه :

إنّ المدح يتحقّق عن طريق القول وعن طريق الفعل ، كقيام الإنسان لغيره مع القصد إلى تعظيمه ، ولكن الفعل لا يسمى مدحاً حقيقة، وإنّما يجوز تسميته مدحاً مجازاً .

انظر: الاقتصاد ، الشيخ الطوسي: القسم الثالث ، الفصل الأوّل ، ص180 ـ 181 .

4- من هذا المنطلق يستحق اللّه المدح دون الثواب إزاء فعله للواجب وللندب وتركه للقبيح .

للتوسّع راجع: الذخيرة، الشريف المرتضى: الكلام في الأفعال و ... ، ص276 .

شرح جمل العلم والعمل ، الشريف المرتضى: أبواب العدل ، باب ما يجب اعتقاده في أبواب العدل، موجبات الثواب والمدح ، ص135 .

الاقتصاد، الشيخ الطوسي: القسم الثالث، الفصل الأوّل ، ص182 ، 183 .


الصفحة 294

استحقاق الثواب :

1 ـ إنّ اللّه تعالى وعد المؤمنين أن يعطيهم الثواب إزاء التزامهم بتكاليفه ، وخُلف الوعد قبيح ، واللّه تعالى منّزه عن فعل القبيح(1) .

2 ـ إنّ اللّه تعالى تفضّل على العباد وجعل أعمالهم ملكاً لهم ، ثمّ جعل ما يثيبهم إزاء أعمالهم الصالحة أجراً لهم ، وقد قال تعالى: { إِنَّ اللّهَ اشْتَرى مِنَ الْمُؤْمِنِينَ أَنْفُسَهُمْ وَأَمْوالَهُمْ بِأَنَّ لَهُمُ الْجَنَّةَ } [ التوبة: 111 ] .

ومن هذا المنطلق تكون الإثابة الإلهية على طاعة العباد من باب "الاستحقاق" دون "التفضّل"(2) .

3 ـ إنّ العبد يثاب على التزامه بالتكاليف الإلهية من باب "الاستحقاق" دون "التفضّل" ، ولكنّه لا ينال المغفرة الإلهية إزاء الذنوب التي ارتكبها ، ولا ينال المراتب العليا في الجنة إلاّ بفضل اللّه تعالى ، ولهذا ينبغي للعباد أن يكون أملهم بفضل اللّه تعالى لا بعدله .

وهذا ما أكّدت عليه أحاديث أهل البيت(عليهم السلام) منها :

قال الإمام علي(عليه السلام) :

"اللهم احملني على عفوك ، ولا تحملني على عدلك"(3) .

قال الإمام علي بن الحسين(عليه السلام):

"واحملني بكرمك على التفضّل، ولا تحملني بعدلك على الاستحقاق"(4) .

____________

1- انظر: الاقتصاد، الشيخ الطوسي: القسم الثاني ، الفصل السادس: ص145 ـ 146 .

2- انظر: بداية المعارف الإلهية، محسن الخرازي: ج1، عقيدتنا بالعدل، ص98 .

3- نهج البلاغة ، الشريف الرضى: خطب أمير المؤمنين، رقم 227، ص477 .

4- الصحيفة السجادية الجامعة: دعاء 93: في طلب الحوائج إلى اللّه تعالى ، أوّل الدعاء: اللهم يا منتهى مطلب الحاجات ، ص86 .


الصفحة 295

وهذا ما يثبت "الاستحقاق" ، ولكنه يرشد العبد إلى أن يكون أمله بالفضل الإلهي، لا على ما يستحقه إزاء طاعته للّه تعالى .

تأجيل الثواب الإلهي :

إنّ في تأجيل الثواب إلى يوم القيامة ـ كما وعد اللّه ـ فضلا كبيراً منه تعالى على عباده المطيعين ، لأنّ الثواب الأُخروي يفوق الثواب الدنيوي الذي يعتريه النقص .

موجبات استحقاق العقاب(1) :

1 ـ فعل القبيح .

2 ـ الإخلال بالواجب .

الفرق بين استحقاق الذم واستحقاق العقاب :

إنّ موجبات استحقاق الذم(2) هي نفسها موجبات استحقاق العقاب ، ولكن يشترط في استحقاق العقاب أن يكون فاعل القبيح أو المخل بالواجب عالماً بأنّ منفعته ومصلحته تكمن في تركه للقبيح وفعله للواجب ، ومع ذلك يقوم بفعل القبيح وترك الواجب(3) .

____________

1- انظر: شرح جمل العلم والعمل ، الشريف المرتضى: أبواب العدل، موجبات الذم والعقاب: 136 ـ 137 .

الاقتصاد، الشيخ الطوسي: القسم الثالث ، الفصل الأوّل ، ص185 .

اللوامع الإلهية، مقداد السيوري: اللامع الثاني عشر، القطب الثاني، الفصل الأوّل ، البحث الأوّل، ص433 .

2- معنى الذم: قول ينبئ عن اتّضاع حال الغير .

انظر: الذخيرة، الشريف المرتضى: الكلام في الأفعال وما يستحق بها وعليها و ... ، ص276 .

الاقتصاد، الشيخ الطوسي: القسم الثالث: الفصل الأوّل ، ص181 .

وأمّا شروط الذم فهي مثل شروط المدح التي ذكرناها في الهامش قبل قليل .

أمّا ما يرتبط بتحقّق الذم عن طريق الفعل ، فالكلام فيه مثل ما ذكرناه في مسألة المدح .

راجع بداية هذا المبحث في الهامش .

3- انظر: الذخيرة، الشريف المرتضى: باب في أحكام العقاب وجهة استحقاقه وتفصيل أحواله ، ص295 .

الاقتصاد ، الشيخ الطوسي: القسم الثالث ، الفصل الأوّل ، ص189 .

للتوسّع راجع: الاقتصاد، الشيخ الطوسي: القسم الثالث ، الفصل الأوّل ، 189 .

الذخيرة ، الشريف المرتضى: باب في أحكام العقاب وجهة استحقاقه و ... ، ص295 .


الصفحة 296

استحقاق العقاب :

1 ـ يشترط في استحقاق العقاب :

أوّلاً: أن يكون المكلَّف عالماً بقبح القبيح ووجوب الواجب ، أو متمكّناً من العلم بذلك .

ثانياً: أن لا يكون المكلَّف مجبوراً في فعل القبيح والإخلال بالواجب .

وهناك شروط أُخرى تعبّدية يمكن التعرّف عليها عن طريق مراجعة الكتب الفقهية .

2 ـ إنّ العقاب ـ كما يثبت العقل ـ حقّ اللّه تعالى ، وله أن يعاقب العصاة كما أوعد، وله أن يعفو عنهم من باب التفضّل، لأنّ العفو لا يقدح في الوعيد، وخلف الوعيد غير قبيح(1) .

ولكن العقاب ـ كما يثبت الشرع ـ يقتضيه العدل الإلهي، ودليل ذلك(2):

أوّلاً: إنّ معاقبة العاصين من مستلزمات العدل، والعادل لا يساوي بين المطيع والعاصي وبين البريء والمجرم .

وقد قال تعالى: { أَ فَمَنْ كانَ مُؤْمِناً كَمَنْ كانَ فاسِقاً لا يَسْتَوُونَ } [ السجدة: 18 ]

ثانياً: يستلزم ترك معاقبة العاصين أن يكون التشريع وترتيب الجزاء على العمل لغواً وعبثاً، واللّه تعالى منزّه عن ذلك .

____________

1- انظر: شرح جمل العلم والعمل، الشريف المرتضى: أبواب العدل ، جواز عفو اللّه ، ص 144، 145 .

2- انظر: بداية المعارف الإلهية، محسن الخرازي: ج1، عقيدتنا بالعدل، ص99 .


الصفحة 297

المبحث الثالث

دوام أو انقطاع الثواب والعقاب(1)

دوام أو انقطاع الثواب :

إنّ الثواب يُستحق دائماً، والدليل على ذلك ما ورد في الشرع والذي أجمعت عليه الأُمة بأنّ الثواب يستحق دائماً(2) .

الطريق إلى معرفة دوام الثواب :

1 ـ إنّ أصل استحقاق الثواب يُعلم بالعقل، ولكن الطريق إلى معرفة دوام الثواب هو الدليل الشرعي دون الدليل العقلي(3)، وذلك لعدم وجود دليل عقلي على دوام الثواب ، وإنّما المصدر الوحيد لمعرفة ذلك هو الشرع فقط(4) .

2 ـ لا يصح القول بأنّ من الأدلة العقلية على دوام الثواب هو أنّ المدح يستحق الدوام ، وأنّ ما اقتضى دوام المدح هو الذي يقتضي دوام الثواب .

الدليل: لأنّ وجه استحقاق المدح ليس بعينه وجه استحقاق الثواب ، وذلك لأنّ

____________

1- سنكتفي في هذا المبحث ـ مراعاة للاختصار ـ بذكر بعض المصادر في الهامش بصورة موجزة، ويستطيع القارئ مشاهدة هذه المصادر بصورة مفصّلة في نهاية المبحث .

2- انظر: الذخيرة: 280 ـ 281، شرح جمل العلم والعمل : 141 ـ 142، الاقتصاد : 184 ، المنقذ من التقليد : 2 / 27 .

3- ذهب نصير الدين الطوسي في كتابه تجريد الاعتقاد إلى أنّ الطريق إلى معرفة دوام الثواب هو الدليل العقلي، وأيّده العلاّمة الحلّي في كتابه كشف المراد في شرح تجريد الاعتقاد .

انظر: تجريد الاعتقاد ، نصير الدين الطوسي: المقصد السادس ، صفات الثواب والعقاب ، ص302 .

كشف المراد ، العلاّمة الحلّي: المقصد السادس، المسألة السادسة ، ص555 ـ 556 .

4- انظر: الذخيرة: 280 ـ 281، شرح جمل العلم والعمل: 142 .


الصفحة 298

الثواب ـ كما ذكرنا ـ يشترط فيه إطاعة المولى دون المدح(1) .

3 ـ لا يصح القول بأنّ من الأدلة العقلية على دوام الثواب هي أنّ الثواب لو لم يكن دائماً لم يكن الترغيب واقعاً موقعه .

الدليل: لأنّ الترغيب يحصل إذا كان في مقابله منافع عظيمة كثيرة، وإن لم تبلغ هذه المنافع حدّ الدوام(2) .

4 ـ لا يصح القول بأنّ من الأدلة العقلية على دوام الثواب هو أنّ انقطاعه يؤدّي إلى الغم والحسرة، وهذا ما يتنافى مع الثواب .

الدليل: لأنّ اللّه تعالى بإمكانه أن يصرف المثابين عن التفكير حول انقطاع ثوابهم ، ويلهيهم بما هم فيه من اللذات العظيمة(3) .

بعبارة أُخرى :

إنّ خلوص الثواب من الشوائب لا يعلم إلاّ عن طريق الشرع ، وليس في العقل أيّة دلالة على ضرورة خلوص الثواب من الشوائب ، لأنّ الثواب قد يكون عظيماً بحيث يوجب اللذة من دون الالتفات إلى الشوائب الموجودة فيه(4) .

دوام أو انقطاع العقاب :

أجمع المسلمون على أنّ عقاب الكفر دائم، وقد دلّت الأدلة الشرعية بوضوح على ذلك .

وأمّا المعاصي ما دون الكفر فإنّ عقوبتها تكون ـ كما ورد في الشرع ـ

____________

1- للتوسّع راجع: الذخيرة: 281 ـ 282، الاقتصاد: 184، المسلك في أصول الدين: 118، المنقذ من التقليد : 2/29 .

ووافق مقداد السيوري هذا الرأي.

انظر: إرشاد الطالبين ، مقداد السيوري: مباحث العدل، هل العلم بدوام الثواب ... ، ص418 .

2- انظر: شرح جمل العلم والعمل: 143، المسلك في أصول الدين: 118 .

3- انظر: الذخيرة: 285 .

ووافق مقداد السيوري هذا الرأي.

انظر: إرشاد الطالبين، مقداد السيوري: مباحث العدل، هل العلم بدوام الثواب ... ، ص418 .

4- انظر: الهامش السابق .


الصفحة 299

منقطعة(1) .

دليل انقطاع عقاب المعاصي :

إنّ الثواب ـ كما علمنا ـ دائم ، ولا يخفى بأنّ الثواب الدائم لا يجتمع مع العقاب الدائم، فلهذا ينبغي الاذعان بأنّ من يستحق الثواب لا يكون عقابه دائمياً، بل يلزم أن يكون ذلك بصورة منقطعة(2) .

الطريق إلى معرفة دوام وانقطاع العقاب :

1 ـ إنّ أصل استحقاق العقاب ودوامه أو انقطاعه يُعلم عن طريق الدليل الشرعي دون الدليل العقلي، وذلك لعدم وجود دليل عقلي على ذلك ، وإنّما مصدر معرفة ذلك هو الشرع فقط(3) .

2 ـ لا يصح القول بأنّ من الأدلة العقلية على دوام العقاب هو أنّ الذمّ يستحق الدوام، وأنّ ما اقتضى دوام الذم هو الذي يقتضي دوام العقاب .

الدليل: لأنّ وجه استحقاق الذم ليس بعينه وجه استحقاق العقاب ، لأنّ العقاب فيه شرط ـ ذكرناه سابقاً ـ دون الذم(4).

3 ـ لا يصح القول بأنّ من الأدلة العقلية على دوام العقاب هي أنّ العقاب لو لم يكن دائماً لم يكن الزجر واقعاً موقعه.

الدليل: لأنّ الزجر يحصل إزاء الضرر العظيم وإن لم يبلغ حدّ الدوام .

كما أنّ أصل استحقاق العقاب لا يعلم بالعقل ، فكيف يعلم دوامه بالعقل(5) .

4 ـ لا يصح القول بأنّ من الأدلة العقلية على دوام العقاب هو أنّ انقطاعه يؤدّي إلى السرور ، وهذا ما يتنافى مع العقاب.

____________

1- انظر: شرح جمل العلم والعمل: 142 ـ 143، المسلك في أصول الدين: 119، المنقذ من التقليد: 2/27 .

2- انظر: شرح جمل العلم والعمل: 142 .

3- انظر: الذخيرة: 280، الاقتصاد: 189، غنية النزوع ، ابن زهرة الحلبي: 2/230، المنقذ من التقليد: 2/27 .

4- انظر: الذخيرة: 281، شرح جمل العلم والعمل: 143، غنية النزوع: 2/230، المنقذ من التقليد: 2/29 .

5- انظر: شرح جمل العلم والعمل: 143 .


الصفحة 300

الدليل: لأنّ اللّه تعالى بإمكانه أن يصرف المعاقبين عن التفكير حول انقطاع عقابهم ، ويشغلهم بما هم فيه من العذاب العظيم .

الخلود في العذاب :

إنّ الخلود في العذاب الأُخروي مختص بمن أدّت سيئاته إلى انقطاعه الكامل عن الرحمة الإلهية، وذلك لقوله تعالى: { بَلى مَنْ كَسَبَ سَيِّئَةً وَأَحاطَتْ بِهِ خَطِيئَتُهُ فَأُولئِكَ أَصْحابُ النّارِ هُمْ فِيها خالِدُونَ } [ البقرة: 81 ] .

أي: أحاطت به خطيئته بحيث أوجبت زوال أيّة قابلية أو استعداد لنزول الرحمة عليه، وخروجه من النقمة(1).

قال الشيخ الصدوق: "اعتقادنا في النار أ نّها ... لا يخلّد فيها إلاّ أهل الكفر والشرك ، وأمّا المذنبون من أهل التوحيد، فإنّهم يخرجون منها بالرحمة التي تدركهم والشفاعة التي تنالهم"(2).

قال الشيخ المفيد: "اتّفقت الإمامية على أنّ الوعيد بالخلود في النار متوجّه إلى الكفّار خاصة دون مرتكبي الذنوب من أهل المعرفة باللّه تعالى والإقرار بفرائضه من أهل الصلاة"(3).

سبب الخلود في العذاب :

قال الإمام جعفر بن محمّد الصادق(عليه السلام):

"إنّما خُلّد أهل النار في النار، لأنّ نياتهم كانت في الدنيا أن لو خلّدوا فيها أن يعصوا اللّه أبداً .

وإنّما خُلّد أهل الجنة في الجنة، لأنّ نياتهم كانت في الدنيا أن لو بقوا فيها أن يطيعوا اللّه أبداً ..."(4) .

____________

1- انظر: الميزان ، العلاّمة الطباطبائي: ج12، تفسير سورة إبراهيم(عليه السلام) آية 42 ـ 52، كلام في معنى الانتقام ونسبته إليه تعالى ، ص87 .

2- الاعتقادات ، الشيخ الصدوق: باب 29: باب الاعتقاد في الجنة والنار، ص53 .

3- أوائل المقالات ، الشيخ المفيد: القول في الوعيد، ص46 .

4- الكافي ، الشيخ الكليني: ج2، كتاب الإيمان والكفر، باب النيّة، ح5، ص85 .

مصادر هذا المبحث بصورة مفصّلة :

انظر: الذخيرة ، الشريف المرتضى: فصل في صفات الثواب وأحكامه والكلام في دوامه وانقطاعه ، ص280، 281، 285 .

شرح جمل العلم والعمل ، الشريف المرتضى: أبواب العدل، باب ما يجب اعتقاده في أبواب العدل، في أنّ دوام الثواب والعقاب سمعي، ص141، 142، 143 .

الاقتصاد ، الشيخ الطوسي: القسم الثالث ، الفصل الأوّل، ص184 .

غنية النزوع ، ابن زهرة الحلبي: ج2، الفصل الأوّل ، ص228 ـ 236 .

المسلك في أصول الدين ، المحقّق الحلّي: النظر الثاني، البحث الرابع، المطلب الرابع، ص118 .

المنقذ من التقليد، سديد الدين الحمصي: ج2، القول في دوام الثواب ودوام العقاب ... ، ص27، 29 .


الصفحة 301

الصفحة 302

المبحث الرابع

التناسب بين الذنوب والعقاب الأخروي(1)

قد يستشكل البعض بأنّ العقوبة الأُخروية قاسية من حيث الكميّة والكيفية ، وطويلة من حيث المدّة بحيث لا يوجد تناسب بينها وبين مخالفة الإنسان لأوامر ونواهي اللّه تعالى ، وهذا مما لا ينسجم مع العدل الإلهي .

جواب هذا الإشكال :

إنّ الإجابة على هذا الإشكال تتطلّب بيان أنواع العقوبة التي تنقسم إلى عدّة أنواع .

أنواع العقوبات :

أوّلاً : العقوبة الاعتبارية(2) :

وهي العقوبة التي تقنّن ، ليكون أثرها الردع عن ارتكاب المخالفة ، وتكون هذه العقوبة من قبيل العقوبات الجزائية المنتشرة في المجتمعات البشرية والموضوعة بواسطة التقنين الإلهي وغير الإلهي .

فائدة العقوبة الاعتبارية :

الردع عن ارتكاب المخالفة والحيلولة دون تكرارها من قبل صاحب المخالفة أو من قبل غيره .

____________

1- انظر: العدل الإلهي، مرتضى المطهري، ترجمة محمّد عبد المنعم الخاقاني: الفصل السادس: الجزاء الأخروي، ثلاثة أنواع من المكافأة ، ص255 ـ 270 .

2- إنّ المقصود من "الاعتبار" في هذا المقام هو أنّ العلاقة بين المخالفة والعقوبة هنا "جعلية" ، بحيث يتم الاتّفاق عليها، وليست العلاقة هنا "واقعية" أو "حقيقية" .


الصفحة 303

التناسب بين المخالفة والعقوبة الاعتبارية :

لا يخفى أنّ الضرورة توجب وجود التناسب بين العقوبة الاعتبارية وبين المخالفة ، لأنّ الهدف من هذه العقوبة هو الردع عن ارتكاب المخالفة، وليس الهدف منها التشفّي والانتقام ، ولهذا ينبغي أن يراعي المقنّن لهذا النمط من العقوبة جانب التناسب بين المخالفة والعقوبة .

تنبيه :

إنّ العقوبة الاعتبارية الرادعة تكون نافعة في الحياة الدنيوية فقط ، وهي غير نافعة في الحياة الأُخروية أبداً، لأنّ الحياة الأُخروية ليست دار عمل حتّى يكون المقصود من معاقبة فاعل القبيح أن لا يرتكب القبيح مرّة أُخرى .

ثانياً: العقوبة السببيّة :

إنّ اللّه تعالى جعل نظام الأسباب في هذا العالم ، بحيث يكون لبعض الأُمور والأسباب أثر وضعي يناله الإنسان عند تخطّيه لحدود هذا النظام .

مثال :

1 ـ إنّ اللّه تعالى خلق النار سبباً للإحراق ، والشخص الذي لا يبالي بهذا النظام السببي ويضع يده في النار ، فإنّه سيصاب بالأذى، ويكون هذا الأذى عقوبة له إزاء مخالفته لهذا النظام .

2 ـ إنّ تناول الإنسان للسم يؤدّي ـ وفق نظام الأسباب ـ إلى تسمّمه أو موته ، لأنّ التسمّم أو الموت أثر وضعي ونتيجة طبيعية لشرب السمّ ، وكلّ من لا يراعي هذا الأمر ، فهو لا ينال سوى عقوبة مخالفته لنظام الأسباب .

تنبيه :

إنّ القاعدة الأساسية الحاكمة على العقوبة السببية هي العلّة والمعلول ، فالنار وشرب السم علّة، والاحتراق والتسمّم أو الموت معلول لهما، وإذا جاءت العلّة التامّة فإنّ المعلول يأتي تبعاً لها بصورة قاطعة .


الصفحة 304

التناسب بين المخالفة والعقوبة السببية :

إنّ العقوبة السببية التي ينالها الإنسان نتيجة تجاوزه لنظام الأسباب ليست عقوبة اعتبارية وقانونية حتّى يقال لابدّ من مراعاة التناسب بين المخالفة والعقوبة، بل إنّ لهذه العقوبة أثراً وضعياً يعمل وفق نظام الأسباب الذي جعله اللّه تعالى في هذا العالم .

بعبارة أُخرى :

إنّ مسألة التناسب بين المخالفة والعقوبة تتعلّق بالعقوبة الاعتبارية التي تكون فيها العلاقة بين المخالفة والعقوبة علاقة اعتبارية واتّفاقية .

وأمّا إذاكانت العلاقة بين المخالفة والعقوبة علاقة واقعية ، فلا يكون مجال للحديث عن مسألة التناسب بين المخالفة والعقوبة، لأنّ العقوبة فيها تكون نتيجة لازمة للعمل .

مثال :

1 ـ إنّ من الخطأ أن يقال حول من يشرب السم فيموت: إنّ هذا المسكين قد ارتكب مخالفة لمدّة خمس دقائق، فلماذا عوقب بهذا العقاب القاسي الذي أدّى إلى موته ؟

2 ـ إذا قيل لشخص: لا تلق بنفسك من قمّة الجبل وإلاّ سيكون جزاؤك الموت ، فإنّه لا يحق له الاعتراض قائلا: ما هو التناسب بين معاندتي وهذا الجزاء الشاق .

3 ـ إنّ غفلة السائق لحظة واحدة قد تؤدّي به إلى أضرار فادحة تدوم مدّة العمر، والعمل هنا يتمّ فترة وجيزة ولكن العقوبة تكون دائمية ، ومع هذا لا يصح القول بأنّ العقوبة لماذا لا تناسب المخالفة في هذا المجال ؟

ثالثاً: العقوبة التكوينية :

ترتبط العقوبة الأخروية بالذنوب ارتباطاً تكوينياً ، وهذا الارتباط أقوى من العقوبة التي ذكرناها في القسم السابق، بحيث لا تكون فيه الصلة بين المخالفة والعقوبة مثل العقوبة الاعتبارية ولا مثل العقوبة السببية، وإنّما تكون الصلة بينهما


الصفحة 305

صلة "الاتّحاد" .

معنى ذلك :

إنّ الثواب الذي يجده المحسن في الآخرة عبارة عن تجسيم لأعماله الحسنة التي قام بها في الدنيا .

وإنّ العقاب الذي يجده المسيء في الآخرة عبارة عن تجسيم لأعماله السيئة التي ارتكبها في الدنيا .

الشواهد القرآنية :

1 ـ { يَوْمَ تَجِدُ كُلُّ نَفْس ما عَمِلَتْ مِنْ خَيْر مُحْضَراً وَما عَمِلَتْ مِنْ سُوء تَوَدُّ لَوْ أَنَّ بَيْنَها وَبَيْنَهُ أَمَداً بَعِيداً } [ آل عمران: 30 ]

2 ـ { وَوَجَدُوا ما عَمِلُوا حاضِراً وَلا يَظْلِمُ رَبُّكَ أَحَداً } [ الكهف: 49 ]

3 ـ { يَوْمَئِذ يَصْدُرُ النّاسُ أَشْتاتاً لِيُرَوْا أَعْمالَهُمْ * فَمَنْ يَعْمَلْ مِثْقالَ ذَرَّة خَيْراً يَرَهُ * وَمَنْ يَعْمَلْ مِثْقالَ ذَرَّة شَرًّا يَرَهُ } [ الزلزلة: 6 ـ 8 ]

4 ـ { إِنَّ الَّذِينَ يَأْكُلُونَ أَمْوالَ الْيَتامى ظُلْماً إِنَّما يَأْكُلُونَ فِي بُطُونِهِمْ ناراً وَسَيَصْلَوْنَ سَعِيراً } [ النساء: 10 ] أي: إنّ الذين يأكلون مال اليتيم ظلماً، فهم ـ في الواقع ـ يأكلون ناراً، ولكنهم لا يدركون هذه الحقيقة في هذه الدنيا، وبمجرّد انتقالهم إلى عالم الآخرة سيجدون النار في بطونهم .

5 ـ { يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللّهَ وَلْتَنْظُرْ نَفْسٌ ما قَدَّمَتْ لِغَد ... } [ الحشر: 18 ]أي: سيحصد الإنسان في الآخرة ما زرعه لنفسه في الدنيا، ولهذا ينبغي أن يكون الإنسان حذراً فيما يقدّمه لآخرته .

النتيجة :

إنّ الجزاء الذي يحصل عليه الإنسان في الآخرة تجسيم لأعماله التي قام بها في الدنيا، وإنّ النعيم والعذاب في الآخرة هما نفس العمل الصالح والسيء الذي قام به الإنسان في الدنيا .


الصفحة 306

تنبيه :

إنّ القول بتجسيم أعمال الإنسان لا يعني حصر النعيم والعذاب الأخروي في هذا المجال وإنكار جنة ونار منفصلتين عن وجود الإنسان وعمله ، لأنّ النصوص الدينية تبيّن بوضوح بأنّ لكلٍّ من الجنة والنار وجودين مستقلين يرد إليهما الإنسان حسب أعماله .

التناسب بين المخالفة والعقوبة التكوينية :

إنّ العقوبة التكوينية التي يجدها الإنسان في الآخرة لها علاقة تكوينية بالمخالفة التي ارتكبها في الدنيا، وهذه العقوبة عبارة عن حضور نفس المخالفة يوم القيامة ، فلهذا لا يوجد مجال للبحث حول التناسب وعدمه في هذا النمط من العقوبات التي هي عين المخالفة وتجسيم لها .

الغرض الإلهي من العقاب الأخروي :

تبيّن مما ذكرناه في مبحث التناسب بين المخالفة والعقاب الأُخروي، أنّ السؤال حول الغرض الإلهي من العقاب الأُخروي غير صحيح، لأنّ العذاب الأُخروي أثر وضعي للأعمال القبيحة التي ارتكبها الإنسان في الدنيا، وهو عبارة عن حضور نفس العمل القبيح يوم القيامة .

بعبارة أُخرى :

إنّ العقوبة الأُخروية تجسيم للذنوب والمعاصي التي ارتكبها الإنسان في الدنيا ، وهذه العقوبة نظير احتراق يد من يضع يده في النار فتحترق ، فكما لا يصح السؤال عن غرض هذا الاحتراق ، فإنّه لا يصح السؤال عن غرض العقاب الأُخروي ، وقد قال تعالى: { وَما كَانَ الله ليظَلمَهُمْ وَلكِنْ كانُوا أَنْفُسَهُمْ يَظْلِمُونَ}[ العنكبوت: 40 ].


الصفحة 307

المبحث الخامس

مناقشة رأي الأشاعرة حول الثواب والعقاب

يرى الأشاعرة بأنّ الثواب والعقاب من أفعال اللّه عزّ وجلّ ، واللّه تعالى يفعل بعباده ما يشاء، فإن شاء أثابهم، وإن شاء عاقبهم .

أقوال بعض علماء أهل السنة :

قال الفضل بن روزبهان: "مذهب الأشاعرة ... أ نّه [ تعالى ] لو عذّب عباده بأنواع العذاب من غير صدور الذنب عنهم يجوز له ذلك ... فالعباد كلّهم ملك للّه تعالى، وله التصرّف فيهم كيف يشاء"(1) .

قال القاضي عضد الدين الإيجي: "الثواب فضل وعد به ، فيفي به من غير وجوب"(2) .

قال سعد الدين التفتازاني في كتابه شرح المقاصد: "لا يجب على اللّه تعالى شيء، لا ثواب على الطاعة ولا العقاب على المعصية"(3).

قال أبو حامد الغزالي: "ندّعي أ نّه تعالى إذا كلّف العباد فأطاعوه، لم يجب عليه الثواب ، بل إن شاء أثابهم، وإن شاء عاقبهم، وإن شاء أعدمهم ولم يحشرهم ، ولا

____________

1- دلائل الصدق ، محمّد حسن المظفر : ج1 ، المسألة 3 ، المبحث 11 ، المطلب 7 ، مناقشة الفضل ، ص422 .

2- المواقف ، عضد الدين الإيجي: ج3، الموقف 6، المرصد 2، المقصد 6، ص497 .

ثم علّل المؤلف سب ضرورة وفائه تعالى بالثواب وإن لم تبلغ هذه الضرورة حدّ الوجوب قائلا: "لأنّ الخلف في الوعد نقص، تعالى اللّه عنه".

3- شرح المقاصد، سعد الدين التفتازاني: ج5، المقصد 6، الفصل 2، المبحث 9، ص127 .

ولا يخفى أن ما أنكره سعد الدين التفتازاني هو الوجوب، ولكنه ذكر: "إلاّ أنّ الخلف في الوعد نقص لا يجوز أن ينسب إلى اللّه تعالى ، فيثيب المطيع البته إنجازاً لوعده ..." شرح المقاصد: 5/126 .


الصفحة 308

يبالي لو غفر لجميع الكافرين وعاقب جميع المؤمنين!"(1) .

يرد عليه :

ناقشنا هذا الرأي في الفصول السابقة، وملخّص ما يمكن الإشارة إليه في هذا المقام :

1 ـ إنّ اللّه تعالى يفعل ما يشاء ، ولكن لا يخفى بأنّ اللّه تعالى حكيم وعادل، وهو لا يشاء جَزافاً وعبثاً، وإنّما تكون مشيئته وفق حكمته وعدله، ولهذا لا يصدر من اللّه تعالى أي ظلم أو فعل قبيح .

2 ـ إنّ ملكية الشيء لا تعني امتلاك المالك حقّ التصرّف بها على خلاف موازين الحكمة والعدل .

ولهذا نجد العقلاء يذمّون من يتلف أمواله بلا سبب عقلائي، مع علمهم بمالكيته لتلك الأموال .

واللّه تعالى على رغم كونه مالكاً لكلّ شيء وقادراً على كلّ شيء، ولكنه مع ذلك حكيم ، وإنّ حكمته تمنعه من فعل القبيح .

ولهذا قال تعالى: { وَما كانَ رَبُّكَ لِيُهْلِكَ الْقُرى بِظُلْم وَأَهْلُها مُصْلِحُونَ }[ هود: 117 ] .

____________

1- الاقتصاد في الاعتقاد ، أبو حامد الغزالي: القطب الثالث ، الدعوى الخامسة، ص116 .


الصفحة 309