الفصل السابع
الجبر والتفويض
معنى الجبر والاختيار
مذهب الجبرية
أقسام الجبر
الأدلة المبطلة للجبر والمثبتة للاختيار
ردّ أدلة القول بالجبر
رأي الأشاعرة حول خلق اللّه لأفعال الإنسان
الاستطاعة وأثر قدرة الإنسان في أفعاله
الكسب عند الأشاعرة
التفويض عند المعتزلة
مناقشة نظرية التفويض
القدرية
أفعال العباد عند مذهب أهل البيت(عليهم السلام)
الأمر بين الأمرين
المبحث الأوّل
معنى الجبر والاختيار (لغة واصطلاحاً)
معنى الجبر (في اللغة) :
الجبر هو الإكراه والإرغام والقهر .
والجبر في الفعل هو الحمل على الفعل بالقسر والغلبة(1) .
معنى الجبر (في الاصطلاح العقائدي) :
هو إجبار اللّه العباد على ما يفعلون ، خيراً كان أو شراً، حسناً كان أو قبيحاً، دون أن يكون للعباد أية إرادة أو قدرة أو اختيار على الرفض والامتناع(2).
بعبارة أُخرى :
إنّ أفعال الإنسان كلّها للّه تعالى ، والإنسان كالآلة الجامدة يسيّره اللّه بإرادته واختياره ، من دون أن يمتلك الإنسان أية إرادة أو اختيار في أفعاله ، وإنّما يصدر الفعل منه وهو مجبر عليه .
معنى الاختيار (في اللغة والاصطلاح العقائدي) :
الاختيار هو التمكّن من فعل الشيء وتركه(3) .
____________
1- راجع: لسان العرب ، ابن منظور: مادّة (جبر) . 2- انظر: المصطلحات الإسلامية ، مرتضى العسكري: 148 . 3- راجع: لسان العرب ، ابن منظور: مادّة (خير) . وللمزيد راجع: المصطلحات الإسلامية ، مرتضى العسكري: 149 .
المبحث الثاني
مذهب الجبرية
ذهب المذهب الجبري إلى أنّ الإنسان مجبور في جميع أفعاله ، وهو كالريشة في مهب الريح، أو كالخشبة بين يدي الأمواج ، وأنّ نسبة الأفعال إلى الإنسان مجازية كما تنسب إلى النباتات والجمادات ، فيقال: أثمرت الشجرة، وجرى الماء، وتحرّك الحجر، وطلعت الشمس وما شابه ذلك(1).
أوّل طائفة إسلامية قالت بالجبر :
الجهمية
أصحاب جهم بن صفوان(2) وكانت عقيدتهم بأنّ الإنسان لا يقدر على شيء، ولا يوصف بالاستطاعة ، وإنّما هو مجبور في أفعاله ; لا قدرة له ولا إرادة ولا اختيار، وإنّما يخلق اللّه تعالى فيه الأفعال كما يخلقها في سائر الجمادات، وتنسب الأفعال إلى الإنسان مجازاً كما تنسب إلى الجمادات، فيقال: أثمرت الشجرة، وتحرّك الحجر و ...(3) .
____________
1- انظر: مقالات الإسلاميين ، أبو الحسن الأشعري: ذكر قول الجهمية، ص279 . الملل والنحل ، الشهرستاني: ج1 ، الباب الأوّل ، الفصل الثاني: الجبرية ، 1 ـ الجهمية، ص87 . 2- جهم بن صفوان: هو أبو محرز جهم بن صفوان الراسبي. قال عنه الذهبي في تذكرة الحفاظ (رقم 1584): "الضال المبتدع ، رأس الجهمية ، هلك في زمان صغار التابعين ، وما علمته روى شيئاً، ولكنه زرع شراً عظيماً" . وذكر عنه الطبري في تاريخه (حوادث سنة 128): كان كاتباً للحارث بن سريج الذي خرج في خراسان في آخر دولة بني أمية . 3- انظر: مقالات الإسلاميين ، أبو الحسن الأشعري: ذكر قول الجهمية، ص279 . الفرق بين الفرق ، عبد القادر الاسفرائيني: الباب الثالث ، الفصل السادس ، ص211 . الملل والنحل ، الشهرستاني: ج1 ، الباب الأوّل ، الفصل الثاني: ص86 .
تنبيهان :
1 ـ انقرض هذا المذهب في أواخر القرن الرابع الهجري، ولم يبق له أثر(1).
2 ـ إنّ نظرية الجبر ـ بصورة عامة ـ لها جذور تاريخية قبل الإسلام ، ثمّ بقيت هذه النظرية بعد مجيء الإسلام معشعشة في عقول بعض المسلمين الذين لم يؤسّسوا معتقداتهم على أساس المباني الإسلامية الصحيحة .
دوافع القول بالجبر :
أوّلاً ـ اللجوء إلى أصل يرفع عن كاهل الإنسان مسؤولية الالتزام ، ومن ثمّ الحصول على الحرّية المطلقة ، والانحلال عن كلّ قيد، واتّباع الأهواء وتلبية الرغبات والشهوات النفسانية من دون الالتزام بأي مبدأ .
ثانياً ـ مبادرة بعض السلطات الجائرة إلى ترويج هذا المفهوم من أجل:
1 ـ تبرير أعمالهم المنحرفة والإجرامية .
2 ـ الاستمرار بسياسة التنكيل والبطش ضدّ مخالفيهم .
3 ـ إخماد الثورات التي تقوم ضدّهم من قبل الجهات المعارضة لهم .
4 ـ توفير الأجواء المناسبة لاستقرار عروشهم وانغماسهم في ملذّاتهم الدنيوية .
مفاسد القول بالجبر :
1 ـ تحطيم أركان أساسية من المنظومة الدينية، سنذكرها في المبحث الرابع من هذا الفصل عند بيان الأدلة المبطلة للجبر والمثبتة للاختيار .
2 ـ اندفاع الإنسان إلى الكسل والخمول والانقياد للوضع المتردّي، وعدم بذل الجهد والسعي لتغيير هذا الوضع نتيجة عدم الاعتقاد بامتلاك القدرة على التأثير والتغيير .
3 ـ تبرئة النفس عن ارتكاب الأعمال المخالفة للدين والأخلاق ، وجعل هذه
____________
1- انظر: العروة الوثقى ، جمال الدين الأفغاني ومحمّد عبده ، إعداد: هادي خسرو شاهي: ص115 .
العقيدة ذريعة للاتّجاه نحو الفساد والانحلال .
4 ـ إطلاق أيدي الظالمين لإهلاك الحرث والنسل ، وارتكاب كلّ ما يؤدّي إلى الدمار والفساد ، وتقييد أيدي المظلومين والمستضعفين عن القيام بأي ردّ فعل أمام الظالمين .
المبحث الثالث
أقسام الجبر
1 ـ الجبر الديني :
يتمّ تصويره عن طريق جعل الفعل البشري محكوماً بإرادة إلهية تتحكّم به كيفما تشاء .
2 ـ الجبر الفلسفي :
يتمّ تصويره عن طريق طرح مجموعة شبهات فلسفية تؤدّي إلى القول بالجبر .
3 ـ الجبر المادي :
يتم تصويره عن طريق جعل الفعل البشري محكوماً بالعلل المادية من قبيل الوراثة والتعليم والعوامل المحيطيّة و ... .
توضيح الجبر المادي :
إنّ ملاحظة العوامل المكوّنة لشخصية الإنسان تفرض الحكم بأنّ الإنسان ليس له سوى الانقياد لما تملي عليه هذه العوامل .
العوامل المكوّنة لشخصية الإنسان :
1 ـ الوراثة :
إنّ الإنسان يتلقّى عن طريق الوراثة السجايا والصفات الحسنة أو الدنيئة لتكون العامل الأساس في بلورة سلوكه في المستقبل .
2 ـ الثقافة والتعليم :
إنّ التعليم يحدّد للإنسان زاوية رؤيته إلى الحياة، فيكون سلوكه بعد ذلك وفق هذه الرؤية المفروضة عليه .
3 ـ المحيط والبيئة :
إنّ الأجواء التي يترعرع فيها الإنسان هي التي تحدّد نفسيته، وتحدّد له الطريق الذي ينبغي السير فيه .
يلاحظ عليه :
لا يوجد شكّ في تأثير هذه العوامل على تكوين شخصية الإنسان ، ولكن لا يبلغ تأثير هذه العوامل درجة سلب الاختيار من الإنسان ، بل تبقى لإرادة الإنسان واختياره القدرة على مواجهة هذه العوامل وعدم الانقياد لها عن طريق:
1 ـ التفكّر والتدبّر في صالح أعماله وطالح أفعاله وما يترتّب عليهما من آثار .
2 ـ ترك الأجواء السلبية التي يعيش فيها، والهجرة إلى أجواء إيجابية(1) .
بعبارة أُخرى :
إنّ هذه العوامل ليس لها أي أثر في سلب اختيار الإنسان ، لأ نّها لا تشكّل العلّة التامّة في صدور الفعل البشري ، بل هي عوامل تحفّز الإنسان على القيام ببعض الأفعال، ويبقى الإنسان قادراً على مخالفة هذه العوامل والصمود أمام ضغوطاتها .
____________
1- انظر: الإلهيات ، محاضرات: جعفر السبحاني، بقلم: حسن محمّد مكي العاملي: 2 / 317 ـ 318 .
المبحث الرابع
الأدلة المبطلة للجبر والمثبتة للاختيار
الأدلة المبطلة للجبر :
1 ـ بطلان الشرايع والتكليف :
إنّ من وظائف الأنبياء إرشاد الناس إلى التكاليف الإلهية ، ولا يمكن أداء هذه التكاليف إلاّ إذا كان الإنسان قادراً على فعل الشيء وتركه ، ولهذا يكون مجيئ الأنبياء وإتيانهم بالشرائع والتكاليف دليلا على نفي الجبر عن ساحة أفعال وسلوك الإنسان ، لأنّ القول بالجبر يؤدّي إلى القول ببطلان الشرائع والتكليف .
2 ـ سقوط الثواب والعقاب :
لا يصح إثابة شخص أو معاقبته على فعل ليس من صُنعه ، فإذا كان الإنسان مجبوراً في أفعاله وليس له دور في الفعل الذي يصدر عنه ، فكيف يمكن إثابته على طاعة لم يفعلها ، أو معاقبته على معصية لم يرتكبها .
3 ـ التساوي بين المحسن والمسيئ :
لو كان الإنسان مجبراً في أفعاله لم يكن للمحسن ميزة على المسيء، ولم يكن فرقٌ بين المؤمن والكافر، بل سيكونان متساويين لأ نّهما ليسا إلاّ أداة تعكس ما أُجبرا عليه ، فلهذا لا يصح بعد ذلك مدح أو ذم أحد على أفعاله .
4 ـ عبثية الترغيب والتخويف :
إنّ ترغيب العباد على الأعمال الصالحة وتخويفهم من تركها لا داعي له فيما لو كان الإنسان مجبوراً في أفعاله ، لأنّ الترغيب والترهيب لا ينفعان إلاّ إذا كان
الإنسان مختاراً وقادراً على فعل أو عدم فعل ما يؤمر به أو يُنهى عنه .
5 ـ عبثية مساعي المربّين :
إنّ القول بالجبر يؤدّي إلى أن تكون مساعي المربّين لإصلاح المجتمعات وحثّهم الناس على الفضيلة والأخلاق أمراً عبثياً لا فائدة منه، فتذهب جهود هؤلاء أدراج الرياح نتيجة عدم امتلاك الناس القدرة والاختيار على تغيير سلوكهم وأفعالهم .
6 ـ نسبة الظلم إلى اللّه تعالى :
يلزم القول بالجبر أن يكون اللّه تعالى ظالماً ـ والعياذ باللّه ـ نتيجة جبره للعباد على المعصية ثمّ معاقبته إياهم إزاء المعاصي التي أجبرهم عليها، كما سينسب ظلم العباد بعضهم لبعض إلى اللّه فيما لو قلنا بأنّ اللّه تعالى هو الفاعل وليس للإنسان أي دور وأثر في صدور أفعاله ، لأنّ فاعل الظلم يسمّى ظالماً .
7 ـ احتجاج العاصي على اللّه تعالى :
لو كان الإنسان مجبوراً في أفعاله، فإنّ العاصي سيكون من حقّه الاحتجاج على اللّه تعالى حينما يريد اللّه تعالى معاقبته على معاصيه ، لأ نّه سيقول: كنت مجبوراً على فعل المعاصي، فكيف تعذّبني على أمر لم يكن لي الاختيار في فعله ؟ في حين لا يصح احتجاج الإنسان على اللّه تعالى .
الأدلة المثبتة للاختيار :
1 ـ يجد كلّ إنسان من صميم ذاته أ نّه قادر على فعل بعض الأعمال أو تركها حسب ما يراه من مصلحة أو مفسدة أو نفع أو ضرر .
2 ـ يفرّق كلّ إنسان عاقل بين الفعل الاختياري الذي يصدر عنه كتحريك يده ، وبين أفعاله الاضطرارية كحركة يد المرتعش وحركة الدم في العروق وعملية الهضم وإفرازات الغدد وغيرها من الأفعال التي لا اختيار له في صدورها(1).
____________
1- انظر: نهج الحقّ، العلاّمة الحلّي: المسألة الثانية، مبحث: مكابرة الجبرية بضرورة العقل ، ص102 .
ردّ القرآن الكريم على القائلين بالجبر :
1 ـ { سَيَقُولُ الَّذِينَ أَشْرَكُوا لَوْ شاءَ اللّهُ ما أَشْرَكْنا وَلا آباؤُنا وَلا حَرَّمْنا مِنْ شَيْء كَذلِكَ كَذَّبَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ حَتّى ذاقُوا بَأْسَنا قُلْ هَلْ عِنْدَكُمْ مِنْ عِلْم فَتُخْرِجُوهُ لَنا إِنْ تَتَّبِعُونَ إِلاَّ الظَّنَّ وَإِنْ أَنْتُمْ إِلاّ تَخْرُصُونَ } [ الأنعام: 148 ]
توضيح :
قال الذين أشركوا: إنّ اللّه تعالى أجبرنا على الشرك ، ولو شاء اللّه ما أشركنا، فردّ اللّه تعالى على مقولتهم هذه ، وبيّن بأنّ هذه المقولة غير مبتنية على الأسس العلمية ، وإنّما هي ناشئة من الظنون غير المعتبرة والادّعاءات الكاذبة .
2 ـ { وَقالُوا لَوْ شاءَ الرَّحْمنُ ما عَبَدْناهُمْ ما لَهُمْ بِذلِكَ مِنْ عِلْم إِنْ هُمْ إِلاّ يَخْرُصُونَ } [ الزخرف: 20 ]
توضيح :
هذه الآية تشبه الآية السابقة، وقد بيّنت بأنّ الذين أشركوا باللّه تعالى ، ثمّ قالوا بأنّ اللّه أجبرهم على ما فعلوا ولو شاء اللّه ما أشركوا ، فإنّهم ذهبوا إلى هذا القول نتيجة جهلهم بالواقع ونتيجة قولهم الكذب على اللّه تعالى .
3 ـ إنّ إبليس أوّل من قال بالجبر، فقال كما جاء في القرآن الكريم حكاية عنه:
{ رَبِّ بِما أَغْوَيْتَنِي لأُزَيِّنَنَّ لَهُمْ فِي الأَرْضِ وَلأُغْوِيَنَّهُمْ أَجْمَعِينَ } [ الحجر: 39 ]
وكان هذا الأمر من جملة أسباب طرده عن رحمة اللّه تعالى .
بعض الآيات القرآنية النافية للجبر والمثبتة للاختيار :
إنّ القرآن الكريم مليء بالآيات البيّنات الدالة على نفي الجبر عن أفعال الإنسان وإثبات الاختيار له في سلوكه وتصرفاته، منها(1) :
الصنف الأوّل :
الآيات الدالة على إضافة الفعل إلى العبد ونسبته إليه ، وأ نّه يمتلك الاختيار فيما
____________
1- انظر: نهج الحقّ، العلاّمة الحلّي: المسألة الثالثة، ص105 ـ 112 .
يفعله من خير أو شر ، منها:
1 ـ { فَوَيْلٌ لِلَّذِينَ يَكْتُبُونَ الْكِتابَ بِأَيْدِيهِمْ ثُمَّ يَقُولُونَ هذا مِنْ عِنْدِ اللّهِ لِيَشْتَرُوا بِهِ ثَمَناً قَلِيلاً فَوَيْلٌ لَهُمْ مِمّا كَتَبَتْ أَيْدِيهِمْ وَوَيْلٌ لَهُمْ مِمّا يَكْسِبُونَ } [ البقرة: 79 ]
2 ـ { إِنَّ اللّهَ لا يُغَيِّرُ ما بِقَوْم حَتّى يُغَيِّرُوا ما بِأَنْفُسِهِمْ } [ الرعد: 11 ]
3 ـ { قالَ بَلْ سَوَّلَتْ لَكُمْ أَنْفُسُكُمْ أَمْراً فَصَبْرٌ جَمِيلٌ وَاللّهُ الْمُسْتَعانُ عَلى ما تَصِفُونَ } [ يوسف: 18 ]
4 ـ { فَطَوَّعَتْ لَهُ نَفْسُهُ قَتْلَ أَخِيهِ فَقَتَلَهُ فَأَصْبَحَ مِنَ الْخاسِرِينَ } [ المائدة: 30 ]
5 ـ { كُلُّ نَفْس بِما كَسَبَتْ رَهِينَةٌ } [ المدّثّر: 38 ]
6 ـ { كُلُّ امْرِئ بِما كَسَبَ رَهِينٌ } [ الطور: 21 ]
7 ـ { مَنْ عَمِلَ صالِحاً فَلِنَفْسِهِ وَمَنْ أَساءَ فَعَلَيْها وَما رَبُّكَ بِظَـلاّم لِلْعَبِيدِ }[ فصّلت: 46 ]
8 ـ { لا يُكَلِّفُ اللّهُ نَفْساً إِلاّ وُسْعَها لَها ما كَسَبَتْ وَعَلَيْها مَا اكْتَسَبَتْ }[ البقرة: 286 ]
الصنف الثاني :
الآيات الدالة على نسبة أفعال العباد إليهم، ونفي الظلم عن اللّه تعالى ، منها :
1 ـ { ذلِكَ بِما قَدَّمَتْ أَيْدِيكُمْ وَأَنَّ اللّهَ لَيْسَ بِظَـلاّم لِلْعَبِيدِ } [ آل عمران: 182 ]
2 ـ { ذلِكَ بِما قَدَّمَتْ يَداكَ وَأَنَّ اللّهَ لَيْسَ بِظَـلاّم لِلْعَبِيدِ } [ الحجّ: 10 ]
3 ـ { الْيَوْمَ تُجْزى كُلُّ نَفْس بِما كَسَبَتْ لا ظُلْمَ الْيَوْمَ إِنَّ اللّهَ سَرِيعُ الْحِسابِ }[ غافر: 17 ]
4 ـ { إِنَّ اللّهَ لا يَظْلِمُ مِثْقالَ ذَرَّة وَإِنْ تَكُ حَسَنَةً يُضاعِفْها وَيُؤْتِ مِنْ لَدُنْهُ أَجْراً عَظِيماً } [ النساء: 40 ]
5 ـ { وَما ظَلَمْناهُمْ وَلكِنْ كانُوا أَنْفُسَهُمْ يَظْلِمُونَ } [ النحل: 118 ]
6 ـ { وَلا يُظْلَمُونَ فَتِيلاً } [ النساء: 49 ]
7 ـ { فَالْيَوْمَ لا تُظْلَمُ نَفْسٌ شَيْئاً وَلا تُجْزَوْنَ إِلاّ ما كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ } [ يس: 54 ]
الصنف الثالث :
الآيات الدالة على وجود الإرادة والاختيار في العباد على إحداث أفعالهم ، وأ نّهم مخيّرون في ما يعملونه من خير أو شر، منها :
1 ـ { اعْمَلُوا ما شِئْتُمْ إِنَّهُ بِما تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ } [ فصّلت: 40 ]
2 ـ { لِمَنْ شاءَ مِنْكُمْ أَنْ يَتَقَدَّمَ أَوْ يَتَأَخَّرَ } [ المدّثّر: 37 ]
3 ـ { فَمَنْ شاءَ فَلْيُؤْمِنْ وَمَنْ شاءَ فَلْيَكْفُرْ إِنّا أَعْتَدْنا لِلظّالِمِينَ ناراً }[ الكهف:29 ]
4 ـ { كَـلاّ إِنَّهُ تَذْكِرَةٌ * فَمَنْ شاءَ ذَكَرَهُ } [ المدّثّر: 54 ـ 55 ]
5 ـ { إِنَّ هذِهِ تَذْكِرَةٌ فَمَنْ شاءَ اتَّخَذَ إِلى رَبِّهِ سَبِيلاً } [ المزمل: 19 ]
الصنف الرابع :
الآيات الدالة على ذمّ المخالفين لأوامر اللّه تعالى، ومعاتبتهم عن طريق الاستفهام الإنكاري، وهذا مايدل على أنّ الإنسان يمتلك الاختيار في أفعاله ، لأ نّه لو كان مجبوراً لما صح ذمه أو معاتبته إزاء مخالفته لأوامر اللّه تعالى ، ومن هذه الآيات:
1 ـ { وَما مَنَعَ النّاسَ أَنْ يُؤْمِنُوا إِذْ جاءَهُمُ الْهُدى إِلاّ أَنْ قالُوا أَ بَعَثَ اللّهُ بَشَراً رَسُولاً } [ الإسراء: 94 ]
2 ـ { وَماذا عَلَيْهِمْ لَوْ آمَنُوا بِاللّهِ وَالْيَوْمِ الآخِرِ } [ النساء : 39 ]
3 ـ { كَيْفَ تَكْفُرُونَ بِاللّهِ وَكُنْتُمْ أَمْواتاً فَأَحْياكُمْ ثُمَّ يُمِيتُكُمْ ثُمَّ يُحْيِيكُمْ ثُمَّ إِلَيْهِ تُرْجَعُونَ } [ البقرة: 28 ]
4 ـ { فَما لَهُمْ عَنِ التَّذْكِرَةِ مُعْرِضِينَ } [ المدّثّر: 49 ]
5 ـ { لِمَ تَلْبِسُونَ الْحَقَّ بِالْباطِلِ وَتَكْتُمُونَ الْحَقَّ وَأَنْتُمْ تَعْلَمُونَ } [ آل عمران :71]
الصنف الخامس :
الآيات الدالة على أنّ اللّه تعالى يجزي العباد على أعمالهم وما كسبته أيديهم ، وهذا ما يدل على أ نّهم أصحاب اختيار في أفعالهم ، لأ نّهم لو كانوا مجبورين لما صحّت مجازاتهم ، ومن هذه الآيات :
1 ـ { الْيَوْمَ تُجْزى كُلُّ نَفْس بِما كَسَبَتْ لا ظُلْمَ الْيَوْمَ إِنَّ اللّهَ سَرِيعُ الْحِسابِ }[ غافر: 17 ]
2 ـ { الْيَوْمَ تُجْزَوْنَ ما كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ } [ الجاثية: 28 ]
3 ـ { مَنْ جاءَ بِالْحَسَنَةِ فَلَهُ عَشْرُ أَمْثالِها } [ الأنعام: 160 ]
4 ـ { لِتُجْزى كُلُّ نَفْس بِما تَسْعى } [ طه: 15 ]
5 ـ { الْيَوْمَ تُجْزَوْنَ عَذابَ الْهُونِ بِما كُنْتُمْ تَقُولُونَ عَلَى اللّهِ غَيْرَ الْحَقِّ }[ الأنعام: 93 ]
6 ـ { لِيَجْزِيَ اللّهُ كُلَّ نَفْس ما كَسَبَتْ إِنَّ اللّهَ سَرِيعُ الْحِسابِ } [ إبراهيم: 51 ]
7 ـ { وَمَنْ أَعْرَضَ عَنْ ذِكْرِي فَإِنَّ لَهُ مَعِيشَةً ضَنْكاً } [ طه: 124 ]
الصنف السادس :
الآيات الدالة على المسارعة إلى الأعمال الخيرية لطلب المغفرة من اللّه تعالى ، وتلبية أوامره وتعاليمه ، وهذا ما يدل على إثبات الاختيار للإنسان ، لأ نّه لو كان مجبوراً لما صح تشجيعه على عمل الخير وطلب المغفرة ، لأنّ هذا التشجيع سيكون عبثاً فيما لو لم يستطع الإنسان القيام بتلبيته ، ومن هذه الآيات :
1 ـ { وَسارِعُوا إِلى مَغْفِرَة مِنْ رَبِّكُمْ } [ آل عمران: 133 ]
2 ـ { وَمَنْ لا يُجِبْ داعِيَ اللّهِ فَلَيْسَ بِمُعْجِز فِي الأَرْضِ } [ الأحقاف: 32 ]
3 ـ { وَأَنِيبُوا إِلى رَبِّكُمْ وَأَسْلِمُوا لَهُ } [ الزمر: 54 ]
4 ـ { وَاتَّبِعُوا أَحْسَنَ ما أُنْزِلَ إِلَيْكُمْ } [ الزمر: 55 ]
الصنف السابع :
الآيات الدالة على اعتراف المجرمين بذنوبهم في يوم القيامة، وهذا ما يدل على أ نّهم كانوا أصحاب اختيار حين ارتكابهم للذنوب، لأ نّهم لو كانوا مجبورين لأنكروا فعلهم للذنب، ونسبوا ذلك إلى اللّه تعالى ، ومن هذه الآيات :
1 ـ { كُلَّما أُلْقِيَ فِيها فَوْجٌ سَأَلَهُمْ خَزَنَتُها أَ لَمْ يَأْتِكُمْ نَذِيرٌ * قالُوا بَلى قَدْ جاءَنا نَذِيرٌ فَكَذَّبْنا وَقُلْنا ما نَزَّلَ اللّهُ مِنْ شَيْء إِنْ أَنْتُمْ إِلاّ فِي ضَلال كَبِير } [ الملك: 8 ـ 9 ]
2 ـ { فَاعْتَرَفُوا بِذَنْبِهِمْ فَسُحْقاً لأَصْحابِ السَّعِيرِ } [ الملك: 11 ]
3 ـ { ما سَلَكَكُمْ فِي سَقَرَ * قالُوا لَمْ نَكُ مِنَ الْمُصَلِّينَ * وَلَمْ نَكُ نُطْعِمُ الْمِسْكِينَ * وَكُنّا نَخُوضُ مَعَ الْخائِضِينَ * وَكُنّا نُكَذِّبُ بِيَوْمِ الدِّينِ * حَتّى أَتانَا الْيَقِينُ * فَما تَنْفَعُهُمْ شَفاعَةُ الشّافِعِينَ } [ المدّثّر: 42 ـ 48 ]
الصنف الثامن :
الآيات الدالة على ندم المجرمين وطلبهم العودة إلى الدنيا ليعملوا الصالحات عندما يحدق بهم العذاب ، واعترافهم بذنوبهم وما عملوا من سيّئات ، وهذا ما يدل على أ نّهم كانوا يعلمون بأ نّهم أصحاب اختيار في أفعالهم ، لأ نّهم لو كانوا مجبورين لما ندموا، بل كان موقفهم تبرئة أنفسهم مما أجبروا عليه ، ومن هذه الآيات :
1 ـ { قالُوا رَبَّنا أَمَتَّنَا اثْنَتَيْنِ وَأَحْيَيْتَنَا اثْنَتَيْنِ فَاعْتَرَفْنا بِذُنُوبِنا فَهَلْ إِلى خُرُوج مِنْ سَبِيل } [ غافر: 11 ]
2 ـ { رَبِّ ارْجِعُونِ * لَعَلِّي أَعْمَلُ صالِحاً } [ المؤمنون: 99 ـ 100 ]
3 ـ { وَلَوْ تَرى إِذِ الْمُجْرِمُونَ ناكِسُوا رُؤُسِهِمْ عِنْدَ رَبِّهِمْ رَبَّنا أَبْصَرْنا وَسَمِعْنا فَارْجِعْنا نَعْمَلْ صالِحاً إِنّا مُوقِنُونَ } [ السجدة: 12 ]
4 ـ { أَوْ تَقُولَ حِينَ تَرَى الْعَذابَ لَوْ أَنَّ لِي كَرَّةً فَأَكُونَ مِنَ الْمُحْسِنِينَ }[ الزمر: 58 ]
5 ـ { رَبَّنا أَخْرِجْنا نَعْمَلْ صالِحاً غَيْرَ الَّذِي كُنّا نَعْمَلُ } [ فاطر: 37 ]
الصنف التاسع :
الآيات الدالة على الاستعانة باللّه وطلب الرحمة والهداية منه على الأعمال الخيّرة ، فلو كان الإنسان مجبوراً في أفعاله لم يصح تشجيعه على الاستعانة باللّه ، لأنّ التشجيع يكون لمن يمتلك الاختيار في الفعل والترك ، فيتم تشجيعه ليكون ذلك محفزّاً له للقيام بفعل معيّن أو ترك فعل معين، ومن هذه الآيات :
1 ـ { اسْتَعِينُوا بِاللّهِ وَاصْبِرُوا } [ الأعراف: 128 ]
2 ـ { وَإِمّا يَنْزَغَنَّكَ مِنَ الشَّيْطانِ نَزْغٌ فَاسْتَعِذْ بِاللّهِ إِنَّهُ سَمِيعٌ عَلِيمٌ }[ الأعراف: 200 ]
3 ـ { فَإِذا قَرَأْتَ الْقُرْآنَ فَاسْتَعِذْ بِاللّهِ مِنَ الشَّيْطانِ الرَّجِيمِ } [ النحل: 98 ]
4 ـ { إِيّاكَ نَعْبُدُ وَإِيّاكَ نَسْتَعِينُ } [ الحمد: 5 ]
الصنف العاشر :
الآيات الدالة على طلب العباد المغفرة من اللّه تعالى إزاء مخالفتهم لأوامره تعالى، فلو كان هؤلاء مجبورين في أفعالهم ، فلا داعي لهم لطلب المغفرة ، لأنّ ذلك يكون لمن يشعر بالتقصير ، والمجبور لا يشعر بذلك . ومن هذه الآيات :
1 ـ { قالا رَبَّنا ظَلَمْنا أَنْفُسَنا وَإِنْ لَمْ تَغْفِرْ لَنا وَتَرْحَمْنا لَنَكُونَنَّ مِنَ الْخاسِرِينَ }[ الأعراف: 23 ]
2 ـ { وَقالُوا سَمِعْنا وَأَطَعْنا غُفْرانَكَ رَبَّنا وَإِلَيْكَ الْمَصِيرُ } [ البقرة: 285 ]
3 ـ { فَاسْتَغْفَرَ رَبَّهُ وَخَرَّ راكِعاً وَأَنابَ } [ ص: 24 ]
4 ـ { وَالَّذِينَ إِذا فَعَلُوا فاحِشَةً أَوْ ظَلَمُوا أَنْفُسَهُمْ ذَكَرُوا اللّهَ فَاسْتَغْفَرُوا لِذُنُوبِهِمْ وَمَنْ يَغْفِرُ الذُّنُوبَ إِلاَّ اللّهُ } [ آل عمران: 135 ]
بعض الأحاديث الشريفة المبطلة للجبر والمثبتة للاختيار :
1 ـ قال الإمام علي(عليه السلام) ردّاً على نظرية الجبر في الأفعال: " ... لو كان كذلك لبطل الثواب والعقاب والأمر والنهي والزجر من اللّه ، وسقط معنى الوعد والوعيد، فلم تكن لائمة للمذنب ولا محمدة للمحسن ..."(1) .
2 ـ الإمام جعفر بن محمّد الصادق(عليه السلام): " ... اللّه أعدل من أن يجبرهم [ أي: يجبر العباد ] على المعاصي ثمّ يعذبّهم عليها ..."(2) .
3 ـ الإمام جعفر بن محمّد الصادق(عليه السلام): " ... إنّ اللّه عزّ وجلّ أرحم بخلقه من أن يجبر خلقه على الذنوب ثمّ يعذّبهم عليها ..."(3) .
4 ـ الإمام جعفر بن محمّد الصادق(عليه السلام): " ... رجل يزعم أنّ اللّه عزّ وجلّ أجبر الناس على المعاصي، فهذا قد ظلم اللّه في حكمه ..."(4) .
5 ـ الإمام جعفر بن محمّد الصادق(عليه السلام): "إنّ اللّه خلق الخلق ، فعلم ما هم صائرون إليه ، وأمرهم ونهاهم ، فما أمرهم به من شيء فقد جعل لهم السبيل إلى تركه، ولا يكونون آخذين ولا تاركين إلاّ بإذن اللّه"(5) .
أثر الاختيار في أفعال الإنسان :
1 ـ تكمن قيمة الإنسان وأفضليته على سائر الخلق في كونه كائناً يمتلك العقل والاختيار ، فلو قلنا بأنّ الإنسان مجبور في أفعاله ، فإنّ ذلك سيؤدّي إلى سلب قيمته وجعله بمثابة الجمادات في هذا العالم .
2 ـ إنّ الاختيار هو الذي يجعل الإنسان مسؤولا عن أفعاله وتصرّفاته .
3 ـ إنّ الاختيار هو الذي يجعل الإنسان مستحقاً للمدح والذم والثواب والعقاب .
____________
1- الأصول من الكافي، الكليني: ج1، كتاب التوحيد، باب: الجبر والقدر و ... ، ح1 ، ص155 . 2- الأصول من الكافي، الكليني: ج1، كتاب التوحيد، باب: الجبر والقدر و...، ح11، ص159 . 3- التوحيد، الشيخ الصدوق: باب نفي الجبر والتفويض، ح3، ص350 . 4- المصدر السابق: ح5، ص351 . 5- الأصول من الكافي، الكليني: ج1، كتاب التوحيد، باب: الجبر والقدر و ... ، ح5، ص158 .
المبحث الخامس
أدلة القول بالجبر والردّ عليها
الدليل الأوّل :
إنّ إرادة الإنسان لا تمتلك القوام الذاتي ، ولا يمتلك الإنسان القدرة على إيجاد إرادته بنفسه ، بل هو محتاج في إيجاد إرادته إلى إرادة اللّه تعالى ، ولا تحدث ارادة الإنسان إلاّ بإرادة اللّه تعالى(1) .
يرد عليه :
1 ـ اختار اللّه تعالى أن يكون العباد أصحاب إرادة في أفعالهم ، فأعطاهم الإرادة ، ثمّ أعطاهم قدرة الاختيار لتوجيه إرادتهم كيفما يشاؤون .
بعبارة أُخرى :
إنّ اللّه تعالى هو الذي منح العباد هذه الميزة بأن تكون لهم الإرادة في أفعالهم ، فالإرادة ـ في الواقع ـ آلة لصدور الفعل من العبد ، وإذا كانت آلة الاختيار من اللّه تعالى ، فإنّ ذلك لا يستلزم الجبر .
2 ـ إنّ إرادة اللّه عزّ وجلّ لم تتعلّق بصدور أفعال العباد منه تعالى بصورة مباشرة ومن دون واسطة ، بل تعلّقت إرادة اللّه تعالى في مجال أفعال الإنسان الاختيارية أن لا تصدر من الإنسان إلاّ بعد إرادة الإنسان واختياره لها(2) .
الدليل الثاني :
إنّ اللّه تعالى يعلم بأفعال العباد التي ستقع في المستقبل .
وما علم اللّه تعالى وقوعه فهو واجب الوقوع .
____________
1- انظر: المواقف، عضد الدين الإيجي : ج3، الموقف 5 ، المرصد 6 ، المقصد 1 ، ص223 ـ 224 . 2- انظر: الميزان ، العلاّمة الطباطبائي: ج1 ، تفسير سورة البقرة، آية 26 ـ 27 ، ص99 ـ 100 .
وما علم اللّه تعالى عدم وقوعه فهو ممتنع الوقوع .
ودون ذلك ينقلب العلم الإلهي إلى الجهل ، وهو محال .
ومن هنا يثبت بأنّ الإنسان مجبور على فعل ما هو في علم اللّه تعالى(1) .
يرد عليه :
1 ـ لو صحّ القول بأنّ الإنسان مجبور في أفعاله نتيجة علم اللّه تعالى بها، فسيكون اللّه تعالى أيضاً مجبوراً في أفعاله نتيجة علمه تعالى بما سيقع من أفعاله ، فيلزم ذلك أن نقول بأنّ اللّه تعالى مجبور بأن يفعل ما يعلم! وهذا باطل(2) .
2 ـ إنّ اللّه تعالى لا يختار أن يعلم بأنّ الشخص الفلاني سيفعل كذا ، ليكون هذا العلم علّة لذلك الفعل ، وإنّما علمه تعالى عبارة عن انكشاف المعلوم عنده كما سيكون في الواقع(3) .
3 ـ يتعلّق علمه تعالى بكل شيء حسب الخصوصيات المتوفّرة في ذلك الشيء .
ومن هنا يكون تعلّق العلم الإلهي بأفعال الإنسان باعتبارها أفعال تصدر من فاعل يمتلك الاختيار ، وهذا ما يؤكد وقوع أفعال الإنسان باختياره .
بعبارة أُخرى :
قال المجبّرة بأنّ ما علم اللّه وقوعه فهو واجب الوقوع .
فنقول لهم: علم اللّه تعالى بأنّ أفعال العباد لا تقع إلاّ باختيارهم ، لأ نّه شاء أن يكون العباد أصحاب اختيار .
إذن يجب أن تقع أفعال العباد باختيارهم ، لأنّ عدم وقوعها بهذه الصفة يوجب ـ
____________
1- انظر: المواقف ، عضد الدين الإيجي: ج3، الموقف 5، المرصد 6، المقصد 1 ، ص223 . 2- انظر: تلخيص المحصل ، نصير الدين الطوسي: الركن الثالث ، القسم الثالث: ص340 . إشراق اللاهوت ، عبد المطلب العُبيدلي: المقصد العاشر، المسألة الرابعة ، ص390 . 3- انظر: المنقذ من التقليد ، سديد الدين الحمصي: ج1، الكلام في التكليف وحسنه و ... ، ص247 . إشراق اللاهوت ، عبد المطلب العُبيدلي: المقصد العاشر، المسألة الثالثة ، المبحث الثالث ، ص389 .
حسب ادّعاء المجبرة ـ انقلاب علم اللّه إلى الجهل .
وبهذا يثبت أنّ الإنسان مختار وغير مجبور في أفعاله .
النتيجة :
إنّ "العلم" مجرّد انكشاف يحكي المعلوم ويبيّنه كما هو عليه، وليس للعلم أي تأثير على المعلوم في الواقع الخارجي .
مثال توضيحي :
إنّ نسبة المعلوم إلى العلم كنسبة الشيء إلى المرآة .
فالمرآة لا تؤثّر في الشيء، وإنّما تبيّنه كما هو عليه في الواقع الخارجي .
فإذا أرتنا المرآة شيئاً بصورة قبيحة ، فليس هذا القبح مفروضاً من المرآة على ذلك الشيء ، بل لأنّ ذلك الشيء قبيح في نفسه ، عكست المرآة ما هو عليه ، فأرتنا ذلك الشيء بصورة قبيحة(1) .
أمثلة عدم تأثير العلم في المعلوم :
1 ـ إخبار المتخصص عن الأنواء الجوية وتقلّبات الهواء ، فلو كان العلم عاملا من عوامل إيجاد الشيء، لكان هذا المخبر من جملة أسباب وقوع هذه التقلّبات الجوّية .
2 ـ إخبار الفلكي عن وقوع الكسوف أو الخسوف ، إذ لو كان العلم مؤثّراً في إيجاد المعلوم، لكان هذا الفلكي من جملة أسباب وقوع هذا الكسوف والخسوف .
3 ـ إخبار المدرّس عن مستوى الطالب في الامتحان القادم نتيجة معرفته به خلال فترة التدريس ، فإذا صدق إخبار المدرّس ، فلا يعني أنّ علم المدرِّس هو السبب في وصول الطالب إلى النتيجة التي أخبرها المدرِّس .
4 ـ إخبار الطبيب الحاذق عن الحالة التي سيواجهها المريض ، فإذا وقع الأمر كما قال الطبيب، فلا يعني أنّ الطبيب كان سبباً فيما أصاب المريض .
____________
1- انظر: المنقذ من التقليد ، سديد الدين الحمصي: ج1، الكلام في التكليف وحسنه و ... ص246 .
المبحث السادس
رأي الأشاعرة حول خلق اللّه لأفعال العباد
إنّ اللّه عزّ وجلّ هو المتفرّد بالخلق والإيجاد ، وهو خالق كلّ شيء بلا استثناء، ولا خالق في الكون سوى اللّه تعالى ، واللّه هو الخالق لأفعال الإنسان .
من أقوال أبي الحسن الأشعري حول خلق اللّه لأفعال العباد :
1 ـ " ... لا خالق إلاّ اللّه ، وإنّ أعمال العباد مخلوقة للّه بقدرته ... وإنّ العباد لا يقدرون أن يخلقوا شيئاً ..."(1) .
2 ـ " ... لا خالق إلاّ اللّه ، وإنّ سيئات العباد يخلقها اللّه ، وإنّ أعمال العباد يخلقها اللّه عزّ وجلّ ، وإنّ العباد لا يقدرون أن يخلقوا شيئاً"(2) .
3 ـ " ... من قضاء اللّه تعالى هو خلق ما هو جور كالكفر والمعاصي ..."(3) .
4 ـ " ... أمّا أنا فأقول: إنّ الشر من اللّه تعالى بأن خلقه شراً لغيره لا له"(4) .
أدلة الأشاعرة على خلقه تعالى لأفعال العباد :
الدليل الأوّل :
الآيات القرآنية الدالة على خلقه تعالى لكلّ شيء، فإنّ هذه الآيات تفيد العموم، فيشمل ذلك أفعال العباد، فتكون أفعال العباد مخلوقة للّه .
ومن هذه الآيات قوله تعالى :
1 ـ { اللّهُ خالِقُ كُلِّ شَيْء } [ الزمر: 62 ]
____________
1- الإبانة، أبو الحسن الأشعري: الفصل الثاني ، ص37 . 2- مقالات الإسلاميين ، أبو الحسن الأشعري: حكاية جملة قول أصحاب الحديث وأهل السنة ، ص291 . 3- اللمع ، أبو الحسن الأشعري: الباب الخامس، ص81 . 4- المصدر السابق: ص84 .
2 ـ { ذلِكُمُ اللّهُ رَبُّكُمْ خالِقُ كُلِّ شَيْء } [ غافر: 62 ]
3 ـ { يا أَيُّهَا النّاسُ اذْكُرُوا نِعْمَتَ اللّهِ عَلَيْكُمْ هَلْ مِنْ خالِق غَيْرُ اللّهِ } [ فاطر: 3 ]
4 ـ { أَلا لَهُ الْخَلْقُ وَالأَمْرُ تَبارَكَ اللّهُ رَبُّ الْعالَمِينَ } [ الأعراف: 54 ]
5 ـ { إِنّا كُلَّ شَيْء خَلَقْناهُ بِقَدَر } [ القمر: 49 ]
يرد عليه :
1 ـ إنّ المنهج السليم يقتضي شمولية النظر إلى آيات القرآن الكريم ، وعدم الاقتصار على الآيات الدالة على خلقه تعالى لكلّ شيء وإهمال الآيات التي تنسب الخالقية إلى غير اللّه تعالى ، من قبيل :
أوّلاً: قوله تعالى حكاية عن عيسى(عليه السلام): { أَنِّي أَخْلُقُ لَكُمْ مِنَ الطِّينِ كَهَيْئَةِ الطَّيْرِ }[ آل عمران: 49 ]
ثانياً: قوله تعالى لعيسى(عليه السلام): { وَإِذْ تَخْلُقُ مِنَ الطِّينِ كَهَيْئَةِ الطَّيْرِ }[ المائدة: 110 ]
ثالثاً: قوله تعالى للسامري وجماعته: { وَتَخْلُقُونَ إِفْكاً } [ العنكبوت: 17 ]
رابعاً: قوله تعالى: { فَتَبارَكَ اللّهُ أَحْسَنُ الْخالِقِينَ } [ المؤمنون: 14 ]
خامساً: قوله تعالى: { وَتَذَرُونَ أَحْسَنَ الْخالِقِينَ } [ الصّافات: 125 ]
النتيجة :
إنّ الأشاعرة اتّبعوا منهجية التجزئة والتبعيض في التعاطي مع الآيات القرآنية ، فتمسّكوا بالآيات التي تتلائم مع نظريتهم في خلق أفعال العباد ، وأعرضوا عما يتغاير مع ما ذهبوا إليه .
2 ـ يدرك الباحث عند نظرته الشمولية إلى الآيات القرآنية بأنّ الآيات التي تنسب خلق كلّ شيء إلى اللّه عزّ وجلّ ليست إلاّ في مقام بيان إحاطته تعالى الكاملة وقدرته التامّة ونفوذ أمره الشامل لجميع الكون بلا استثناء ، ولا يوجد أي
تناف بين هذه الشمولية وبين قدرة العباد على الخلق ، لأنّ قدرة العباد تستمد وجودها من اللّه تعالى ، واللّه تعالى قادر على سلبها في كلّ آن .
3 ـ سُئل الإمام علي بن موسى الرضا(عليه السلام) عن أفعال العباد: أهي مخلوقة للّه تعالى، فقال (عليه السلام) :
"لو كان خالقاً لها لما تبرّأ منها، وقد قال سبحانه: { أَنَّ اللّهَ بَرِيءٌ مِنَ الْمُشْرِكِينَ }[ التوبة: 3 ] ، ولم يرد البراءة من خلق ذواتهم ، وإنّما تبرّأ من شركهم وقبائحهم"(1) .
4 ـ سُئل الإمام علي بن موسى الرضا(عليه السلام): هل غير الخالق الجليل خالق ؟
قال(عليه السلام): "إن اللّه تبارك وتعالى يقول: { تَبارَكَ اللّهُ أَحْسَنُ الْخالِقِينَ } فقد أخبر أنّ في عباده خالقين وغير خالقين ، منهم عيسى صلى اللّه عليه، خلق من الطين كهيئة الطير بإذن اللّه ، فنفخ فيه ، فصار طائراً بإذن اللّه ، والسامري خلق لهم عجلا جسداً له خوار"(2) .
5 ـ إنّ القول بأنّ اللّه تعالى خالق كلّ شيء لا يعني أ نّه تعالى هو السبب المباشر لخلق كلّ شيء، بل قد يكون الخلق صادراً من الإنسان ، ولكنه يُنسب إلى اللّه عزّ وجلّ ، لأ نّه تعالى هو الذي أعطى الإنسان القدرة على الخلق .
مثال ذلك :
يبيّن القرآن الكريم هذه الحقيقة بأنّ مجرّد نسبة الفعل إلى اللّه عزّ وجلّ لا يعني كونه تعالى هو السبب المباشر لهذا الفعل ، بل قد يصدر الفعل من غير اللّه ، ولكنّه ينسب إلى اللّه تعالى للعلّة التي ذكرناها .
ومن هذه الموارد :
أوّلاً ـ فعل التوفّي :
1 ـ نسبته إلى ملك الموت: { قُلْ يَتَوَفّاكُمْ مَلَكُ الْمَوْتِ الَّذِي وُكِّلَ بِكُمْ }[ السجدة: 11 ]
2 ـ نسبته إلى اللّه تعالى: { اللّهُ يَتَوَفَّى الأَنْفُسَ حِينَ مَوْتِها } [ الزمر: 42 ]
____________
1- بحار الأنوار ، العلاّمة المجلسي: ج5، كتاب العدل والمعاد ، باب 1 ، ذيل ح29 ، ص20 . 2- المصدر السابق: ج4، كتاب التوحيد، باب5 ، ح1 ، ص147 ـ 148 .
ثانياً ـ فعل الرزق :
1 ـ نسبته إلى العباد: { وَلا تُؤْتُوا السُّفَهاءَ أَمْوالَكُمُ الَّتِي جَعَلَ اللّهُ لَكُمْ قِياماً وَارْزُقُوهُمْ فِيها وَاكْسُوهُمْ وَقُولُوا لَهُمْ قَوْلاً مَعْرُوفاً } [ النساء: 5 ]
2 ـ نسبته إلى اللّه تعالى: { إِنَّ اللّهَ هُوَ الرَّزّاقُ ذُو الْقُوَّةِ الْمَتِينُ } [ الذاريات: 58 ]
ثالثاً ـ فعل الزرع :
1 ـ نسبته إلى العباد: { كَزَرْع أَخْرَجَ شَطْأَهُ فَآزَرَهُ فَاسْتَغْلَظَ فَاسْتَوى عَلى سُوقِهِ يُعْجِبُ الزُّرّاعَ(1) } [ الفتح: 29 ]
2 ـ نسبته إلى اللّه تعالى: { أَ فَرَأَيْتُمْ ما تَحْرُثُونَ * أَ أَنْتُمْ تَزْرَعُونَهُ أَمْ نَحْنُ الزّارِعُونَ } [ الواقعة: 63 ـ 64 ]
رابعاً ـ فعل الغلبة :
1 ـ نسبته إلى العباد: { كَتَبَ اللّهُ لأَغْلِبَنَّ أَنَا وَرُسُلِي } [ المجادلة: 21 ]
2 ـ نسبته إلى اللّه تعالى: { كَتَبَ اللّهُ لأَغْلِبَنَّ أَنَا ... } [ المجادلة: 21 ]
فنسب اللّه عزّ وجلّ فعل الغلبة لنفسه ولرسله في وقت واحد .
خامساً ـ فعل الخلق (وهو المرتبط بهذا المبحث)
1 ـ نسبته إلى العباد: { أَنِّي أَخْلُقُ لَكُمْ مِنَ الطِّينِ كَهَيْئَةِ الطَّيْرِ } [ آل عمران: 49 ]
{ فَتَبارَكَ اللّهُ أَحْسَنُ الْخالِقِينَ } [ المؤمنون: 14 ]
2 ـ نسبته إلى اللّه تعالى: { اللّهُ خالِقُ كُلِّ شَيْء } [ الزمر: 62 ]
ملاحظة مهمة :
ذكرنا بأنّ الفعل الذي يصدر من الإنسان ينسب أيضاً إلى اللّه تعالى ، وذلك لأ نّه
____________
1- قوله: (الزُّرّاعَ ) تتضمن نسبة فعل الزراعة إلى الإنسان .
تعالى هو الذي أعطى الإنسان القدرة على القيام بالفعل .
ولكن لا يخفى بأنّ هذه النسبة لا تصح إلاّ في الأفعال الحسنة التي يرتضيها اللّه تعالى، وأمّا الأفعال القبيحة الصادرة من الإنسان، فلا تصحُّ نسبتها إلى اللّه تعالى أبداً .
دليل ذلك :
إنّ اللّه تعالى أعطى الإنسان القدرة ليصرفها في الأُمور الحسنة ، فإذا صرفها الإنسان في الأُمور القبيحة ، فإنّ هذه الأفعال لا تصح نسبتها إلى اللّه تعالى، وإنّما تُنسب إلى الإنسان ، ويكون الإنسان هو المتحمّل لمسؤوليتها .
آيات قرآنية أُخرى استدل بها الأشاعرة على خلقه تعالى لأفعال العباد :
الآية الأُولى :
قوله تعالى: { وَاللّهُ خَلَقَكُمْ وَما تَعْمَلُونَ } [ الصّافات: 96 ]
استدلال الأشاعرة: إنّ هذه الآية صريحة بأنّ اللّه هو الخالق للإنسان ، وهو الخالق لأفعاله وأعماله وما يصدر عنه(1) .
يرد عليه :
1 ـ إنّ هذه الآية وردت في سياق آيات احتجاج النبي إبراهيم(عليه السلام) على قومه الذين كانوا ينحتون الأصنام ، ثمّ يعبدونها من دون اللّه ، فقال لهم إبراهيم(عليه السلام): { أَ تَعْبُدُونَ ما تَنْحِتُونَ * وَاللّهُ خَلَقَكُمْ وَما تَعْمَلُونَ } .
2 ـ ليس لهذه الآية أية صلة بمسألة أفعال العباد ، لأنّ وحدة السياق في هذه الآية والتي قبلها تقضي كون "ما" موصولة فيكون معنى الآية: أتعبدون الأصنام التي تنحتونها واللّه خلقكم وخلق المادة التي منها تنحتون أصنامكم(2) .
3 ـ إنّ الآية في مقام محاججة إبراهيم(عليه السلام) لقومه واستنكاره على عبادتهم
____________
1- انظر: المواقف، عضد الدين الإيجي: ج3، الموقف 5، المرصد 6 ، المقصد 1 ، ص226 . شرح المقاصد، سعد الدين التفتازاني: ج4، المقصد 5 ، الفصل 5 ، المبحث 1 ، ص240 ـ 241 . 2- وهذه المادة هي الحجر أو الخشب أو غير ذلك مما كان يصنع المشركون منه أصنامهم .
للأصنام ، وليس من المعقول أن يقول إبراهيم(عليه السلام) لقومه في هذا المقام: لماذا تعبدون الأصنام وقد خلق اللّه عبادتكم للأصنام؟!
الآية الثانية :
قوله تعالى: { وَإِنْ تُصِبْهُمْ حَسَنَةٌ يَقُولُوا هذِهِ مِنْ عِنْدِ اللّهِ وَإِنْ تُصِبْهُمْ سَيِّئَةٌ يَقُولُوا هذِهِ مِنْ عِنْدِكَ قُلْ كُلٌّ مِنْ عِنْدِ اللّهِ } [ النساء: 78 ]
استدلال الأشاعرة: إنّ هذه الآية تدل على أنّ جميع أفعال الإنسان ـ حسنة كانت أو سيئة ـ هي من عند اللّه، وأنّ اللّه هو الذي يخلقها(1) .
يرد عليه :
إنّ "الحسنة" في اللغة لا تنحصر في معنى "الطاعة والإيمان" .
كما أنّ "السيئة" في اللغة لا تنحصر في معنى "المعصية والكفر" .
فمن معاني "الحسنة" في اللغة: النعم، الرحمة، الخير والشيء الحسن .
ومن معاني "السيئة" في اللغة: القحط، الكوارث ، والمحن والعذاب .
معنى الحسنة والسيئة في هذا المقام :
إنّ معنى الحسنة في هذا المقام هو النعم والخير ، ومعنى السيئة هو القحط والكوارث(2)، لأنّ النعم والخير والقحط والكوارث تصيب الإنسان من الغير .
ولكن الطاعة والمعصية والكفر والإيمان تصدر من الإنسان نفسه .
وهناك فرق بين ما "يصيب الإنسان" وما "يصدر منه" .
وقد جاء في هذه الآية التعبير بكلمة "تصبهم" ولم يقل الباري عزّ وجلّ "تصدر منهم" .
تتمة :
____________
1- انظر: التفسير الكبير، الفخر الرازي: ج4، تفسير آية 78 من سورة النساء، ص145 . 2- انظر: مجمع البيان ، الطبرسي: ج3، تفسير آية 78 من سورة النساء ، ص120 ـ 121 .
وردت "الحسنة" بمعنى النعم والخير والرخاء ، ووردت "السيئة" بمعنى القحط والبلاء والعذاب في آيات قرآنية أُخرى منها:
1 ـ { إِنْ تَمْسَسْكُمْ حَسَنَةٌ تَسُؤْهُمْ وَإِنْ تُصِبْكُمْ سَيِّئَةٌ يَفْرَحُوا بِها } [ آل عمران : 120 ]
2 ـ { وَيَسْتَعْجِلُونَكَ بِالسَّيِّئَةِ قَبْلَ الْحَسَنَةِ } [ الرعد: 6 ]
3 ـ { فَإِذا جاءَتْهُمُ الْحَسَنَةُ قالُوا لَنا هذِهِ وَإِنْ تُصِبْهُمْ سَيِّئَةٌ يَطَّيَّرُوا بِمُوسى وَمَنْ مَعَهُ } [ الأعراف: 131 ]
تكملة أدلّة الأشاعرة على خلقه تعالى لأفعال العباد :
الدليل الثاني :
إنّ القول بوجود خالق غير اللّه يستلزم إثبات خالق آخر مع اللّه تعالى ، ومن ادّعى ذلك فقد أشرك في خالقيّة اللّه تعالى ، لأنّ اللّه عزّ وجلّ منزّه عن الشريك في الخلق والإيجاد(1).
يرد عليه :
1 ـ إنّ هذا الاشتراك في إطلاق بعض الصفات على اللّه تعالى والعبد لا يوجب الشرك ، ولهذا لا يوجد أي مانع من اشتراك العبد مع الباري عزّ وجلّ في بعض الأوصاف، من قبيل: الوجود، العلم ، الإرادة، القدرة والتملّك(2).
2 ـ المذموم هو إثبات تعدّد خالقَين مستقلين بقدرتهم وتمام شؤون أفعالهم ، أمّا إثبات خالق غير اللّه، وهو محتاج إلى اللّه عزّ وجلّ في أصل وجوده وقدرته وتمكّنه وفعله ، فلا محذور ولا إشكال فيه أبداً(3).
3 ـ إنّ عبيد السلطان إذا فعلوا شيئاً بمعونة السلطان ، لا يقال إنّهم سلاطين مثله ،
____________
1- انظر: بحر الكلام، ميمون النسفي: الباب الثالث ، الفصل الثاني، المبحث الثالث ، ص167 . 2- انظر: دلائل الصدق، محمّد حسن المظفر: ج1، مبحث: إنّا فاعلون، مناقشة المظفر، ص437 . 3- انظر: المصدر السابق، ص436 .
ولا يكون ذلك عيباً في السلطان ، فلهذا لا يوجد أي مانع أن يكون الإنسان خالقاً لشيء عن طريق القدرة التي منحها اللّه تعالى له(1) .
4 ـ لو كان مجرّد إطلاق وصف الخالقية لغير اللّه تعالى شركاً، لكان عيسى ـ والعياذ باللّه ـ مشركاً في قوله: { أَنِّي أَخْلُقُ لَكُمْ مِنَ الطِّينِ كَهَيْئَةِ الطَّيْرِ }[ آل عمران: 49 ] ولكان عيباً في قوله تعالى { فَتَبارَكَ اللّهُ أَحْسَنُ الْخالِقِينَ }[ المؤمنون: 14 ] ، لأنّ هذه الآية تثبت بوضوح وجود من يوصف بالخالقية غير اللّه تعالى .
الدليل الثالث للأشاعرة :
لو كان الإنسان خالقاً لأفعال نفسه ، لكان عالماً بتفاصيل أفعاله ، وهذا معنى قوله سبحانه: { أَ لا يَعْلَمُ مَنْ خَلَقَ وَهُوَ اللَّطِيفُ الْخَبِيرُ } [ الملك: 14 ] ، وبما أنّ الإنسان غير عالم بتفاصيل أفعاله وجب القطع بأنّ الإنسان غير خالق لها(2) .
يرد عليه :
إنّ العلم بتفاصيل الخلق يشمل الخلق من اللاشيء ، ولكن الإنسان لا يقوم بخلق أفعاله من اللاشيء ، بل يقوم بتركيب مجموعة أشياء للوصول إلى شيء جديد له من الخصائص ما تفترق عن خصائص أجزائه .
وكلّما يكون الإنسان أعرف بخصائص الأجزاء التي يتعامل معها لتكوين الأشياء الجديدة يكون أكثر علماً بتفاصيل ما يقوم بخلقه(3) .
____________
1- انظر: المصدر السابق . 2- انظر: الأربعين في أصول الدين، فخر الدين الرازي: ج1، المسألة الثانية والعشرون، ص323 ـ 324 . كتاب المواقف، عضد الدين الإيجي: ج3، الموقف 5 ، المرصد 6، المقصد 1 ، ص209 . 3- قال المحقّق نصير الدين الطوسي في ردّه على إشكال الأشاعرة في هذا المقام: "الإيجاد لا يستلزم العلم إلاّ مع اقتران القصد، فيكفي الإجمال" . تجريد الاعتقاد ، نصير الدين الطوسي: المقصد الثالث ، الفصل الثالث، مبحث: نفي الجبر ، ص199 .
الدليل الرابع للأشاعرة :
لو جاز أن يكون المؤمن خالقاً للإيمان لخلقه ممتعاً مريحاً .
ولو جاز أن يكون الكافر خالقاً للكفر لخلقه حسناً .
ولكن المؤمن والكافر لا يستطيعان ذلك .
ومن هنا يثبت بأنّ للإيمان والكفر خالقاً آخر، وهو اللّه تعالى(1) .
يرد عليه :
إنّ الصفات تنقسم إلى قسمين :
1 ـ الصفات الواقعية: وهي الصفات التي تحتاج إلى خالق ، من قبيل الحرارة والبرودة .
2 ـ الصفات الانتزاعية: وهي الصفات التي لا تحتاج إلى خالق، بل هي صفات تُنتزع من مقايسة شيء مع شيء آخر من قبيل صفتي الصغر والكبر .
فإنّ وصف "الصغر" أو "الكبر" للشيء لا يحتاج إلى خلق .
وإنّ ما يحتاج إلى خلق فهو "الشيء" .
وأمّا "الصغر" أو "الكبر" فهو صفة تنتزع من مقايسة شيء مع شيء آخر .
وبالنسبة إلى دليل الأشاعرة:
فإنّ وصف "التعب" للإيمان لا يحتاج إلى خلق .
وإنّ وصف "القُبح" للكفر لا يحتاج إلى خلق .
وإنّ ما يحتاج إلى خلق فهو "الفعل" الذي يجعل الإنسان مؤمناً أو كافراً .
وأمّا "التعب" فهو صفة تنتزع من فعل "الإيمان" لأنّ "الإيمان" يجعل الإنسان مسؤولا أمام اللّه تعالى ، فيستتبع الإتعاب .
وأمّا "القبح" فهو صفة تُنتزع من فعل "الكفر" لأنّ "الكفر" على خلاف الفطرة
____________
1- انظر: اللمع ، أبو الحسن الأشعري: الباب الخامس، ص71 ـ 72 .
والحقيقة(1) .
توضيح ذلك :
إنّ "التعب" الذي يتّصف به الإيمان ، أو "القبح" الذي يتّصف به الكفر يكون خارج الإيمان والكفر ، وهو شيء خارج اختيار الإنسان ، وما هو في دائرة اختيار الإنسان هو خلق العمل الذي يجعله في عداد المؤمنين أو الكافرين ، وأمّا الأثر الذي سيتركه هذا العمل في الواقع الخارجي وردود الأفعال التي سيواجهها الإنسان نتيجة خلقه لهذا العمل فهي أُمور خارجة عن اختياره .
الدليل الخامس للأشاعرة :
لا شكّ في أنّ "الحركة الاضطرارية" التي تصدر من الإنسان مخلوقة للّه تعالى ، فما دلّ على أنّ "الحركة الاضطرارية" مخلوقة للّه تعالى، هو الدليل على أنّ "الحركة الاختيارية" أيضاً مخلوقة للّه تعالى ، وذلك لوحدة ملاكهما، وهو "الحدوث"(2).
يرد عليه :
إنّ اشتراك "الحركة الاضطرارية" و"الحركة الاختيارية" في الملاك إنّما يدل
على وجود خالق لكلتا هاتين الحركتين ، وأمّا أن يكون خالق "الحركة الاضطرارية" هو نفس خالق "الحركة الاختيارية" فلا يوجد عليه دليل(3) .
توضيح ذلك :
إنّ سبب نسبة "الحركة الاضطرارية" إلى اللّه تعالى هو خروجها عن اختيار
____________
1- انظر: الإلهيات، محاضرات: جعفر السبحاني، بقلم: حسن محمّد مكي العاملي: 2 / 271 . 2- انظر: اللمع ، أبو الحسن الأشعري: الباب الخامس ، ص74 ـ 75 . 3- انظر: الإلهيات ، محاضرات: جعفر السبحاني، بقلم: حسن محمّد مكي العاملي: 2 / 272 .
الإنسان وإرادته ، وأمّا "الحركة الاختيارية" فهي واقعة باختيار الإنسان وإرادته ، فلا وجه لمقايسة إحداهما بالأخرى(1) .
____________
1- انظر: المصدر السابق .
المبحث السابع
الاستطاعة وأثر قدرة الإنسان في أفعاله عند الأشاعرة
إنّ استطاعة الإنسان عبارة عن قدرته على الفعل على أساس "إن شاء فعل وإن لم يشأ لم يفعل" .
رأي الأشاعرة حول قدرة العبد في أفعاله :
1 ـ "إنّ أفعال العباد الاختيارية واقعة بقدرة اللّه سبحانه وتعالى ، وليس لقدرتهم تأثير فيها، بل اللّه سبحانه أجرى عادته بأن يوجد في العبد قدرة واختياراً، فإذا لم يكن هناك مانع أوجد [ تعالى ] فيه [ أي: في العبد ] فعله المقدور مقارناً لهما [ أي: يخلق اللّه بقدرته فعل العبد مقارناً للقدرة غير المؤثّرة التي يخلقها في العبد ] ... وهذا مذهب الشيخ أبي الحسن الأشعري"(1).
2 ـ إنّ الاستطاعة من اللّه تعالى يخلقها في العبد مقارنة مع خلقه تعالى للفعل الذي يصدر من العبد ، ولهذا تكون هذه الاستطاعة ليست متقدّمة على الفعل ولا متأخّرة عنه(2) .
3 ـ "إنّ المؤثّر في حصول هذا الفعل [ فعل العبد ] هو قدرة اللّه تعالى ، وليس لقدرة العبد في وجوده أثر، وهذا قول أبي الحسن الأشعري"(3) .
خلاصة رأي الأشاعرة :
إنّ اللّه تعالى هو الذي يخلق أفعال الإنسان، وهو الذي يخلق في نفس الوقت القدرة في الإنسان .
____________
1- المواقف ، عضد الدين الإيجي: ج3، الموقف 5 ، المرصد 6 ، المقصد 1 ، ص214 . 2- انظر: بحر الكلام ، ميمون النسفي: الباب الثالث ، الفصل الثاني، المبحث الثالث، ص166 ـ 167 . 3- القضاء والقدر، فخر الدين الرازي: خلق الأفعال ، ص31 .
ولكن هذه القدرة التي يخلقها اللّه تعالى في الإنسان هي قدرة معطّلة ومشلولة لا يستند إليها فعل أو ترك ، وليس للإنسان أي قدرة أو استطاعة في حدوث أفعاله، وإنّما هو مجرّد وعاء للفعل الذي يخلقه اللّه تعالى فيه .
يرد عليه :
1 ـ إنّ إنكار تأثير قدرة العبد على فعله الاختياري مكابرة وإنكار لأوضح الواضحات .
2 ـ إنّ الضرورة كما تحكم بوجود القدرة في أفعال الإنسان الاختيارية ، فهي تحكم بتأثيرها في هذه الأفعال .
3 ـ إذا لم يكن لقدرة الإنسان أي تأثير في أفعاله الاختيارية ، فسوف يكون خلق اللّه تعالى لهذه القدرة في العبد أمراً عبثاً لا فائدة فيه .
4 ـ إنّ إثبات القدرة بلا تأثير يشبه إثبات الباصرة للأعمى بلا إبصار ، وإثبات السامعة للأصم بلا سمع !
5 ـ إذا لم يكن لقدرة الإنسان أي تأثير في أفعاله الاختيارية ، فمن أين يعلم وجود هذه القدرة، إذ لا دليل عليها غيره ؟
6 ـ قال أبو المعالي الجويني (ت 478هـ ) :
"أمّا نفي هذه القدرة والاستطاعة فمما يأباه العقل والحس ، وأمّا إثبات قدرة لا أثر لها بوجه فهو كنفي القدرة أصلا ... فلابدّ إذن من نسبة فعل العبد إلى قدرته حقيقة ... فالفعل يستند وجوده إلى القدرة، والقدرة يستند وجودها إلى سبب آخر ... حتّى ينتهي إلى سبب الأسباب [ وهو اللّه تعالى ]"(1) .
7 ـ قال سعد الدين التفتازاني (ت 791هـ ):
"بالضرورة إنّ لقدرة العبد وإرادته مدخلا في بعض الأفعال ، كحركة البطش دون
____________
1- الملل والنحل ، الشهرستاني: ج1، الباب الأوّل ، الفصل الثالث: الصفاتية، 1 ـ الأشعرية، ص98 ـ99 .
البعض كحركة الارتعاش"(1) .
أدلة الأشاعرة على نفي تأثير قدرة العبد :
الدليل الأوّل :
إنّ فعل العبد لا يقع بقدرته، بل يقع بقدرة اللّه عزّ وجلّ ، وذلك لشمول قدرته تعالى ، فلهذا لا تؤثّر قدرة العبد في أفعاله ، لامتناع اجتماع قدرتين مؤثّرتين على مقدور واحد(2) .
يرد عليه :
1 ـ إنّ عموم قدرته عزّ وجلّ لا تعني قيامه تعالى بكلّ شيء بصورة مباشرة وبلا واسطة ، بل اللّه سبحانه شاء أن يمنح بعض مخلوقاته القدرة على التأثير بإذنه .
2 ـ إنّ قدرة الإنسان تستمد وجودها من قدرة اللّه تعالى ، فإذا أراد اللّه شيئاً وأراد الإنسان نقيضه ، وقع مراد اللّه تعالى دون مراد الإنسان ، لأنّ قدرة اللّه تعالى فوق قدرة الإنسان ، فلا يقع أي تعارض بين القدرتين .
الدليل الثاني للأشاعرة :
إذا كان الإنسان موجداً لفعله بقدرته، فلابدّ أن يتمكّن من فعله وتركه، ويتوقف هذا التمكّن على وجود سبب يرجّح أَحد طرفي الفعل أو الترك ، وهذا السبب :
1 ـ إذا كان من الإنسان: لزم التسلسل ، لأنّ إيجاد هذا السبب أيضاً يحتاج إلى سبب آخر ، وهكذا إلى ما لا نهاية، وهو باطل .
2 ـ إذا كان من اللّه عزّ وجلّ ، فيلزم:
حصول الفعل عند خلق اللّه تعالى للسبب .
____________
1- شرح العقائد النسفية، سعد الدين التفتازاني: القول في أنّ للعباد أفعالا اختيارية، ص58 . 2- انظر: المواقف ، عضد الدين الإيجي: ج3، الموقف 5 ، المرصد 6 ، المقصد 1 ، ص209 . شرح المقاصد، سعد الدين التفتازاني: ج4 ، المقصد 5 ، الفصل 5 ، المبحث 1، ص227 .
وعدم حصول الفعل عند عدم خلقه تعالى لهذا السبب .
فلا يكون لقدرة الإنسان أي أثر في إيجاد الفعل(1) .
يرد عليه :
1 ـ لو كانت إرادة الإنسان متوقفة على وجود إرادة ثانية، فإنّ هذا الكلام أيضاً ينطبق على إرادة اللّه عزّ وجلّ ، فيلزم فيها التسلسل والاحتياج إلى إرادات لا نهاية لها، وهو باطل .
2 ـ إنّ وجود الفعل يتوقّف على وجود العلّة التامة لإيجاده ، وصدور فعل الإنسان يتوقّف على مجموعة مقدّمات وعلى إرادة غير مسبوقة بإرادة أُخرى ، بل هي إرادة مستندة إلى الاختيار الذاتي الثابت للنفس الإنسانية .
الدليل الثالث للأشاعرة :
استدلّت الأشاعرة على نفي استطاعة الإنسان بقوله تعالى: { قُلْ لا أَمْلِكُ لِنَفْسِي نَفْعاً وَلا ضَرّاً إِلاّ ما شاءَ اللّهُ } [ الأعراف: 188 ](2) .
يرد عليه :
1 ـ إنّ الاستثناء الموجود في هذه الآية يدلّ على بطلان مذهب الأشاعرة ، لأنّ هذا الاستثناء يدل على أنّ الإنسان يمتلك الاستطاعة ، ولكن هذه الاستطاعة مستثناة بشرط وهو المشيئة الإلهية ، في حين يرى الأشاعرة بأنّ الإنسان لا يمتلك الاستطاعة أبداً .
2 ـ إنّ الآية تدل على أنّ الإنسان يمتلك لنفسه الاستطاعة ، ولكن هذه الاستطاعة إنّما تكون في إطار مشيئة اللّه تعالى، وهو معنى "لا حول ولا قوة إلاّ باللّه" وعبارة "إلاّ باللّه" تفيد ثبوت حول وقوة للإنسان ، ولكن هذا "الحول" لا يكون إلاّ بعد أن يمكّن اللّه تعالى الإنسان منه .
____________
1- انظر: المواقف ، عضد الدين الإيجي: ج3، الموقف 5 ، المرصد 6 ، المقصد 1 ، ص217 . 2- انظر: التفسير الكبير ، الفخر الرازي: ج5، تفسير آية 188 من سورة الأعراف ، ص425 ـ 426 .