الصفحة 213

المبحث الثامن

الكسب عند الأشاعرة

الكسب في اللغة: هو السعي والعمل(1) .

الكسب عند الأشاعرة :

المراد من "كسب العبد للفعل" هو مقارنة خلق اللّه تعالى لفعل العبد مع القدرة التي يمنحها اللّه للعبد، من غير أن يكون لقدرة العبد أي تأثير أو مدخل في وجود الفعل، لأنّ العبد ليس إلاّ محلاً للفعل الذي يخلقه اللّه تعالى فيه، وهذا مذهب الشيخ أبي الحسن الأشعري(2).

توضيح ذلك :

1 ـ إذا قصد الإنسان فعلاً من الأفعال، فسيخلق اللّه تعالى في تلك اللحظة شيئين:

الأوّل: ذلك الفعل المقصود.

الثاني: قدرة للإنسان تقترن بذلك الفعل.

فالموجد لفعل الإنسان في الواقع هو اللّه تعالى، وليس لقدرة الإنسان أي أثر في إيجاد فعله سوى اقترانها بذلك الفعل، وهذا الاقتران هو الكسب.

2 ـ الكسب هو "الاقتران العادي بين القدرة المحدثة [ أي: قدرة الإنسان ]والفعل، فاللّه تعالى أجرى العادة بخلق الفعل عند قدرة العبد وإرادته، لا بقدرة العبد وإرادته، فهذا الاقتران هو الكسب"(3).

____________

1- انظر: لسان العرب، ابن منظور: مادة (كسب).

2- انظر: المواقف، عضد الدين الايجي: ج3، الموقف 5 ، المرصد 6 ، المقصد 1 ، ص214 .

3- ضحى الإسلام، أحمد أمين: ج3، الفصل الأوّل: المعتزلة، العدل ص57 .


الصفحة 214

خلاصة رأي الأشعري حول أفعال العباد :

1 ـ أفعال العباد مخلوقة للّه تعالى.

2 ـ يخلق اللّه في العبد قدرة عند خلقه تعالى لفعل العبد.

3 ـ هذه القدرة التي يخلقها اللّه تعالى غير مؤثّرة.

4 ـ ليس للعبد أي تأثير في إيجاد فعله.

5 ـ فعل العبد يخلقه اللّه تعالى ويكسبه العبد.

6 ـ الكسب هو اقتران قدرة العبد بخلق اللّه تعالى لذلك الفعل.

رد نظرية الكسب عند الأشاعرة :

1 ـ إنّ هذا الكسب لا يستطيع أن يكون ملاكاً للطاعة والعصيان أو مناطاً للثواب والعقاب، لأنّه عبارة عن المقارنة الواقعة بين خلقه تعالى لفعل العبد وبين خلقه تعالى للقدرة في العبد، وهذه المقارنة خارجة عن اختيار الإنسان، فلا تصحُّ إناطة الثواب والعقاب عليها.

2 ـ إنّ القول بالكسب لا ينقذ الموقف الأشعري من الجبر، لأنّ الأصل عند الأشعري هو أنّ اللّه تعالى خالق لكلّ شيء، والكسب شيء، فيكون اللّه تعالى هو الخالق للكسب، فلا يبقى للعبد أي دور في الأفعال التي تصدر عنه(1).

3 ـ إنّ الكسب لايدل على كون الإنسان فاعلاً لفعله، لأنّ فعل الشيء عبارة عن إيجاده والتأثير في وجوده، والأشاعرة لايقولون به، وإنّما يقولون:

إنّنا محل فعل اللّه سبحانه، والمحل ليس بفاعل، فإنّ من بنى في محل بناءً، لايقال إنّ المحل بان(2).

4 ـ من أقوال أحد علماء أهل السنّة حول الكسب(3):

____________

1- وقد صرح عبد القادر الاسفراييني بذلك قائلاً: "إنّ اللّه سبحانه خالق الأجسام والأعراض خيرها وشرها، وأنّه خالق أكساب العباد، ولا خالق غير اللّه".

الفرق بين الفرق، الاسفراييني: الباب الخامس، الفصل الثالث، الركن السادس ص338.

2- انظر: دلائل الصدق، محمّد حسن المظفر: ج1، إنّا فاعلون ص435.

3- من العقيدة إلى الثورة، د.حسن حنفي: ج3، الباب الثالث: الإنسان المتعيّن، الفصل السابع: خلق الأفعال، ص117، 118، 126، 128، 129.


الصفحة 215

"لفظة الكسب قد لا تعني شيئاً على الإطلاق، إنّما أُريد بها التمويه على الجمهور أنّها تفيد شيئاً غير الجبر، وهي في الحقيقة لا تفيد إلاّ الجبر".

"الكسب اسم بلا مسمى، لفظ بلا معنى... وتكشف عن مجرّد الرغبة في إثبات الجبر بطريقة ملتوية".

"الحقيقة أنّ الكسب نظرية في الجبر، لأنّ كليهما ينفي استقلال قدرة العبد وتأثيرها في العالم".

"الكسب الأشعري في ذاته غير معقول وليس له أساس نظري".

"يعتمد الكسب على عدّة حجج كلّها خاطئة، وكلّها تثبت أنّ الإنسان ليس صاحب أفعاله، وأنّ هناك قوة أُخرى مسيطرة عليها".

دور قدرة الإنسان في الكسب عند الأشاعرة :

نفي تأثير قدرة الإنسان :

"والمراد بكسبه [ العبد ] إيّاه [ الفعل ] مقارنته لقدرته وإرادته من غير أن يكون هناك منه [ العبد ] تأثير أو مدخل في وجوده سوى كونه محلاً له، وهذا مذهب الشيخ أبي الحسن الأشعري"(1).

يرد عليه :

لا يمتلك الإنسان وفق هذه النظرية أي دور في حدوث أفعاله، وإذا كان اللّه خالقاً لفعل العبد من دون أن يكون لقدرة العبد أي أثر في ذلك، فكيف يصح نسبة الفعل إلى العبد، وكيف يتحمّل الإنسان مسؤولية عمله إذا لم يكن لقدرته أي تأثير في وقوع فعله.

ولهذا ناقش جماعة من أعلام الأشاعرة هذا الرأي منهم :

1 ـ فخرالدين الرازي :

قال: "زعم أبو الحسن الأشعري أنّه لا تأثير لقدرة العبد في مقدوره أصلاً، بل

____________

1- كتاب المواقف، عضد الدين الايجي: ج3، الموقف 5 ، المرصد 6 ، المقصد 1 ، ص214.


الصفحة 216

القدرة والمقدور واقعان بقدرة اللّه تعالى" .

ثم قال :

"إنّ العبد إمّا أن يكون مستقلاً بإدخال الشيء في الوجود، وإمّا لا يكون، فهذا نفي وإثبات ولا واسطة بينهما.

فإن كان الأوّل فقد سلّمتم قول المعتزلة.

وإن كان الثاني كان العبد مضطراً، لأنّ اللّه تعالى:

إذا خلقه في العبد حصل لا محالة.

وإذا لم يخلقه فيه فقد استحال حصوله، وكان العبد مضطراً، فتعود الإشكالات وعند هذا التحقيق يظهر أنّ الكسب اسم بلا مسمى"(1).

2 ـ الشيخ شلتوت :

قال: "إنّ هذه المقارنة الحاصلة بخلق اللّه للفعل عند قدرة العبد، ليست من مقدور العبد ولا من فعله حتّى ينسب الفعل بها إليه ويجازى عليه،...فأيّ مزيّة للقدرة بهذه المقارنة في نسبة الأفعال إلى العبد؟ وبذلك يكون العبد في واقع أمره مجبوراً لا اختيار له"(2).

3 ـ أحمد أمين :

قال: "هو [ الكسب الأشعري ] شكل جديد في التعبير عن الجبر، فهو [ أبو الحسن الأشعري ] يرى أنّ القدرة الحادثة لا تؤثّر في المقدور، ولم ينكر أنّ هذا الذي سماه كسباً من خلق اللّه، فلِمَ هذا الدوران، والنتيجة القول بالجبر؟"(3).

4 ـ الشيخ الشعراني:

مضمون كلامه: كان أبو الحسن الأشعري ، يقول: ليس للقدرة الحادثة أثر، وإنّما

____________

1- محصّل أفكار المتقدمين والمتأخرين، فخرالدين الرازي: القسم الثالث: في الأفعال، ص199 .

2- تفسير القرآن الكريم، الشيخ شلتوت: ص240، نقلاً عن: بحوث في الملل والنحل، جعفر سبحاني: 2 / 153 .

3- ضحى الإسلام، أحمد أمين: ج3، الفصل الأوّل: المعتزلة، العدل ص57.


الصفحة 217

تعلّقها بالمقدور مثل تعلّق العلم بالمعلوم في عدم التأثير. وقد اعتُرض عليه بأنّ القدرة الحادثة إذا لم يكن لها أثر، فوجودها وعدمها سواء، فإنّ القدرة التي لا يقع بها المقدور تكون بمثابة العجز ، ولقوّة هذا الاعتراض فإنّ قول بعض أصحاب الأشعري يلزمه الجبر(1).

آراء بعض أهل علماء السنة القائلين بتأثير قدرة العبد :

1 ـ رأى القاضي أبي بكر الباقلاني (ت403هـ ):

إنّ قدرة العبد الحادثة وإرادته الحادثة لها تأثير في فعله، ولكن هذا التأثير لا يكون في أصل إيجاد الفعل وحدوثه، بل يكون في صفات الفعل.

بعبارة أُخرى :

إنّ إيجاد الفعل من اللّه سبحانه، وليس للقدرة الحادثة دور في إيجاد الفعل، ولكنّها مؤثّرة في صفة الفعل من كونه حركة اختيارية(2).

يلاحظ عليه :

1 ـ إنّ التفكيك بين صفة الفعل ووجوده وإن كان صحيحاً في وعاء الذهن وعالم الاعتبار، ولكنه غير صحيح في الواقع الخارجي.

2 ـ إنّ صفات الفعل لا تخلو من صورتين:

الأولى : أن تكون من الأمور الوجودية، فتكون ـ عندئذ ـ مخلوقة للّه سبحانه ولا يكون للعبد نصيب فيها.

الثانية : أن تكون من الأمور العدمية، فلا يكون ـ عندئذ ـ للكسب واقعية خارجية، بل يكون أمراً ذهنياً غنياً عن الإيجاد والقدرة. فحينئذ لا يكون العبد مصدراً لشيء حتّى يثاب أو يعاقب عليه.

____________

1- انظر: اليواقيت والجواهر في بيان عقائد الأكابر، عبد الوهاب الشعراني: الفصل الرابع، المبحث الرابع والعشرون: في بيان أنّ اللّه تعالى خالق لأفعال العباد كما هو خالق لذواتهم ، ص251 ـ 252 .

2- انظر: الملل والنحل، الشهرستاني: ج1، الباب الأوّل: المسلمون، الفصل الثالث، ص97 .


الصفحة 218

2 ـ رأي الجويني (ت 478هـ ) :

ذهب الجويني إلى(1) :

1 ـ أنّ نفي أثر قدرة الإنسان واستطاعته ممّا يأباه العقل والحس .

2 ـ إنّ إثبات قدرة لا أثر لها بوجه يكون كنفي القدرة أصلا .

3 ـ لابدّ من نسبة فعل العبد إلى قدرته حقيقة .

4 ـ إنّ نسبة فعل العبد إلى قدرته حقيقة، لا تكون على وجه الإحداث والخلق، لأنّ الخلق يشعر باستقلال إيجاده من العدم والإنسان غير مستقل .

5 ـ الفعل يستند وجوده إلى القدرة، والقدرة يستند وجودها إلى سبب آخر حتّى ينتهي الأمر إلى مسبّب الأسباب الذي هو الخالق للأسباب ومسبباتها .

6 ـ إنّ كلّ سبب مهما استغنى من وجه، فهو محتاج من وجه، والباري تعالى هو الغني المطلق الذي لا حاجة له ولا فقر .

تنبيهان :

1 ـ لا يصح إطلاق لفظ "الكسب" الوارد في القرآن الكريم على المعنى الذي اصطلحه الأشاعرة، لأنّ اصطلاح الأشاعرة متأخّر عن عصر النزول، فاللازم حمل هذا اللفظ الوارد في القرآن الكريم على معناه اللغوي وهو "السعي والعمل" .

مثال :

قال تعالى: { وَقِيلَ لِلظّالِمِينَ ذُوقُوا ما كُنْتُمْ تَكْسِبُونَ } [ الزمر: 24 ]

فإنّ المقصود من "الكسب" في هذه الآية هو "السعي والعمل" .

ولا تعني هذه الآية: ذوقوا العذاب بما كنتم محلا للفعل الذي خلقه اللّه فيكم بقدرته، لأ نّه ليس من العدل أن يذيق اللّه عباده العذاب لأ نّه جعلهم محلا لأفعاله تعالى(2) .

2 ـ ذهب بعض الأشاعرة إلى أنّ معنى "الكسب" هو أنّ اللّه تعالى يخلق

____________

1- انظر: المصدر السابق: ص98 ـ 99 .

2- انظر: دلائل الصدق ، محمّد حسن المظفر: ج1، مخالفة الجبرية لنصوص القرآن ، ص474 .


الصفحة 219

بقدرته فعل العبد بعد قصد واختيار العبد لذلك الفعل، والكسب هو إجراء العادة بخلقه تعالى لفعل الإنسان عند اختيار الإنسان لذلك الفعل، وبهذا يكون الإنسان هو المسؤول في دائرة قصده واختياره(1) .

يلاحظ عليه:

إنّ القصد والاختيار من جملة الأفعال، فإذا جاز صدورهما من العبد فليجز صدور أصل الفعل منه، وأي فرق بينهما؟ وأي حاجة وضرورة إلى هذا التفريق الذي يؤدّي إلى نسبة خلق جميع الأفعال القبيحة إليه تعالى(2) .

____________

1- انظر: نهج الحقّ، العلاّمة الحلّي: المسألة الثالثة: في صفاته تعالى، في إبطال الكسب، ص126 .

2- انظر: نهج الحقّ، العلاّمة الحلّي: المسألة الثالثة: في صفاته تعالى، في إبطال الكسب، ص126 .


الصفحة 220

المبحث التاسع

رأي المعتزلة حول أفعال العباد

1 ـ إنّ اللّه تعالى حكيم وعادل، ولا يجوز أن يضاف إليه شرٌّ ولا ظلم، والذي يخلق الظلم يقال له ظالم، واللّه تعالى منزّه عن نسبة الظلم إليه(1).

2 ـ قال تعالى: { ما تَرى فِي خَلْقِ الرَّحْمنِ مِنْ تَفاوُت } [ الملك: 3 ]

إنّ المقصود من التفاوت في هذه الآية ليس التفاوت في أصل المخلوقات، لأنّ هذا التفاوت موجود نراه بوضوح، بل المقصود التفاوت من جهة الحكمة، ومن هنا لا يصح نسبة أفعال العباد إلى اللّه تعالى لأ نّها متفاوتة وفيها العدل والظلم(2).

3 ـ إنّ نسبة الفعل البشري إلى اللّه تعالى تستلزم نسبة القبائح إليه تعالى، وهذا لا يتناسب مع جلالة شأنه تعالى.

4 ـ المستفاد من الآيات القرآنية الكثيرة هو إسناد أفعال العباد إليهم دون اللّه عزّ وجلّ، منها قوله تعالى:

{ فَوَيْلٌ لِلَّذِينَ يَكْتُبُونَ الْكِتابَ بِأَيْدِيهِمْ } [ البقرة: 79 ]

{ إِنَّ اللّهَ لا يُغَيِّرُ ما بِقَوْم حَتّى يُغَيِّرُوا ما بِأَنْفُسِهِمْ } [ الرعد: 11 ]

قال القاضي عبد الجبار المعتزلي :

1 ـ "إنّ أفعال العباد غير مخلوقة فيهم، وأنّهم المحدثون لها"(3) .

____________

1- انظر: شرح الأصول الخمسة، القاضي عبد الجبار: الأصل الثاني، فصل: في خلق الأفعال ، ص345 .

الملل والنحل، الشهرستاني: ج1، الباب الأوّل: المسلمون، الفصل الأوّل: المعتزلة، ص45 و47 .

2- انظر: شرح الأصول الخمسة، القاضي عبدالجبار: الأصل الثاني، فصل: في خلق الأفعال ص355.

3- شرح الأصول الخمسة، القاضي عبد الجبار: الأصل الثاني، فصل: في خلق الأفعال، ص323.


الصفحة 221

2 ـ "اتّفق كلّ أهل العدل على أنّ أفعال العباد من تصرّفهم وقيامهم وقعودهم حادثة من جهتهم، وأنّ اللّه عز وجل أقدرهم على ذلك، ولا فاعل لها ولا محدث سواهم"(1) .

3 ـ "إنّ تصرفاتنا محتاجة إلينا ومتعلّقة بنا لحدوثها"(2) .

____________

1- المغني في أبواب التوحيد والعدل، القاضي عبد الجبار: ج8، الكلام في المخلوق، ص3.

2- شرح الأصول الخمسة، القاضي عبد الجبار، الأصل الثاني، فصل: في خلق الأفعال، ص363.


الصفحة 222

المبحث العاشر

التفويض عند المعتزلة

معنى التفويض (في اللغة) :

التفويض هو إيكال فعل الشيء إلى الآخرين على وجه الاستقلال في التصرّف دون أن يكون للمفوِّض (بكسر الواو) سلطان في فعل المفوَّض إليه (بفتح الواو)، وورد: فوّض إليه الأمر: "صيّره إليه وجعله الحاكم فيه"(1).

معنى التفويض (في الاصطلاح العقائدي) :

إنّ اللّه تعالى فوّض أفعال العباد إليهم وتركهم لحالهم يفعلون على وجه الاستقلال التام دون أن يكون له تعالى سلطان على أفعالهم(2).

نظرية التفويض(3) :

1 ـ خلق اللّه تعالى العالم على أساس نظام الأسباب، وأتمّ عمله بذلك، وكلّ مايحدث بعد ذلك في العالم لا علاقة له باللّه تعالى أبداً.

____________

1- لسان العرب: مادة (فوض).

2- انظر: المصطلحات الإسلامية، مرتضى العسكري: 148.

3- المشهور نسبة هذه النظرية إلى المعتزلة .

تنبيه: لم أجد في كلام القاضي عبد الجبار المعتزلي مايدل على نفي إضافة أفعال العباد إلى اللّه تعالى بصورة مطلقة، بل قال القاضي عبد الجبار :

"لا يجوز إضافتها [ أي: إضافة أفعال العباد ] إلى اللّه تعالى إلاّ على ضرب من التوسّع والمجاز، وذلك بأن تقيّد بالطاعات، فيقال أنّها من جهة اللّه تعالى ومن قبله، على معنى أنّه أعاننا على ذلك، ولطف لنا ووفّقنا، وعصمنا عن خلافه".

شرح الأصول الخمسة، القاضي عبد الجبار: الأصل الخامس، فصل: في القضاء والقدر، ص778 ـ 779.

وهذا مايدل على اعتقاد القاضي عبد الجبار بتدخّل اللّه في أفعال العباد الحسنة عن طريق إعانتهم وتوفيقهم واللطف بهم وعصمتهم عن خلافه.


الصفحة 223

2 ـ نقل اللّه تعالى القدرة من سلطانه القاهر إلى سلطان الإنسان، وقطع كلّ علاقة بينه وبينها، كما تنقل ملكية المتاع من البائع إلى المشتري، إلاّ أنّه تعالى طلب من الإنسان أن يستعمل قدرته في الخير لا في الشر.

3 ـ خلق اللّه تعالى الإنسان وأقدره على خلق أفعاله وفوّض إليه الاختيار والإرادة، فالعبد مستقل في إيجاد أفعاله وفق مشيئته وإرادته، وتستند أفعاله إليه بشكل تامّ ومستقل(1)، ولا توجد أيّة صلة بين فعل الإنسان وبينه تعالى سوى القوة التي أودعها في العبد للمرّة الأُولى.

من أقوال القاضي عبد الجبار :

1 ـ قال في تفسيره لقوله تعالى: { فَمَنْ شاءَ فَلْيُؤْمِنْ وَ مَنْ شاءَ فَلْيَكْفُرْ }[ الكهف : 29 ] : "فقد فوّض الأمر في ذلك إلى اختيارنا"(2).

2 ـ "إنّ هذه التصرفات محتاجة إلينا ومتعلّقة بنا في الاحتياج إلى محدث وفاعل، وإنّما احتاجت إلينا لحدوثها"(3).

من دوافع القول بالتفويض :

1 ـ الحرص على حريم العدل الإلهي، وتنزيه اللّه تبارك وتعالى عما يصدر من العباد من ظلم وقبائح.

2 ـ رد فعل إزاء انتشار التيار الفكري القائل بالجبر، بحيث أدّى هذا الأمر إلى الإفراط في الدفاع عن اختيار الإنسان، والمبادرة إلى قطع العلاقة بين الإنسان وبين اللّه تعالى.

3 ـ التأكيد على القدرة البشرية وتحمّل مسؤولية الاختيار من أجل استنهاض

____________

1- ورد هذا المعنى في: المواقف، عضد الدين الايجي: ج3، الموقف 5 ، المرصد 6 ، المقصد 1، ص214.

2- شرح الأصول الخمسة، القاضي عبد الجبار: الأصل الثاني: العدل، ص362.

3- المصدر السابق: ص340.


الصفحة 224

المظلومين ومواجهتهم للحكومات الجائرة لاسترداد حقوقهم.


الصفحة 225

المبحث الحادي عشر

مناقشة نظرية التفويض

أدلة التفويض :

لولا استقلال العبد بالفعل على سبيل الاختيار(1):

1 ـ بطل التكليف بالأوامر والنواهي، لأنّ العبد إذا لم يكن موجداً لفعله، مستقلاً في إيجاده، لم يصح عقلاً أن يقال له: افعل كذا ولا تفعل كذا .

2 ـ بطل التأديب الذي ورد به الشرع، إذ لا معنى لتأديب من لا يستقل بإيجاد فعله .

3 ـ ارتفع المدح والذم والثواب والعقاب عن العبد، إذ ليس الفعل مستنداً إليه مطلقاً حتّى يمدح به أو يذم، أو يثاب عليه أو يعاقب .

يرد عليه :

لا يشترط في صحة التكليف والتأديب والمدح والذم والثواب والعقاب أن يكون الإنسان مستقلاً في فعله، بل الملاك في صحة جميع هذه الأمور هو صدور الفعل من الإنسان بقدرته واختياره فحسب.

أساس نظرية التفويض :

إنّ الإنسان يحتاج إلى اللّه تعالى في أصل وجوده وقدرته، ثمّ يكون مستقلاً في استخدام هذه القدرة في الفعل والترك.

____________

1- انظر: المواقف، عضد الدين الإيجي: ج3، الموقف 5، المرصد 6، المقصد 1، ص222 .


الصفحة 226

معنى ذلك :

إنّ الممكن يحتاج إلى الواجب عند حدوثه فقط، ثم يستغني عنه في البقاء، لأنّ "الحدوث" شيء و"البقاء" شيء آخر، وإنّ الأشياء لا تحتاج في بقاء ذاتها إلى العلّة الموجدة لها.

مثال حاجة الممكن إلى العلة حدوثاً واستغنائه عنها بقاءً:

البيت المشيّد، فإنّه بحاجة إلى البنّاء ليبنيه ويقيم جدرانه في بداية أمره، فإذا وُجد البيت، استغنى البيت عن البنّاء، وسيستمر وجوده وإن مات البنّاء، لأنّ ذلك لا يؤثّر على وجود البيت المشيّد.

يرد عليه :

تنقسم العلل إلى قسمين:

أ ـ العلّة الحقيقية: وهي العلّة التي تخلق الوجود من العدم.

ب - العلّة المعدّة: وهي العلّة التي ليس من شأنها سوى تحقّق عدد من المقدّمات.

وإنّ البنّاء هو "علّة معدّة" وليس "علّة حقيقية"، ومهمته تجميع الأجزاء من موضع إلى آخر، فيكون اجتماع الأجزاء واستقرارها في مواضعها علّة لحدوث شكل البناء، ثمّ تكون الخصائص الماديّة الكامنة في مادة البناء من قابلية التماسك ونحوها هي العلّة المبقية للبناء إلى مدّة معيّنة.

بعبارة أُخرى :

إنّ عمل البنّاء في الفعل هو ضمّ بعض الأجزاء إلى بعض، والحركة تنتهي بانتهاء عمله، وأمّا بقاء المبنى فهو مرهون بالقوّة الكامنة التي أودعها اللّه تعالى في أجزائه، وليس للبنّاء أيّ صنع فيها(1).

____________

1- للمزيد راجع: الحكمة المتعالية في الأسفار العقلية الأربعة، صدر الدين الشيرازي: ج1، فصل 14، احتياج الممكن إلى العلة حدوثاً وبقاءً، ص215 ـ 221.


الصفحة 227

الآثار السلبية لنظرية التفويض :

1 ـ تستلزم هذه النظرية الشرك في الخالقية، لأنّها توجب الاعتقاد بوجود خالقين مستقلين أحدهما اللّه تعالى والثاني الإنسان الذي يكون خالقاً مستقلاً من دون احتياجه إلى اللّه تعالى في بقائه وتأثيراته.

ولهذا قال الإمام علي(عليه السلام):

" ... وإن زعمت أنّك مع اللّه تستطيع، فقد زعمت أنّك شريك معه في ملكه ... "(1) .

2 ـ تنافي هذه النظرية أصل احتياج الإنسان إلى اللّه عز وجل، فتؤدّي بالإنسان إلى الشعور بالغنى عن ذات الخالق، والحرمان من دوام الاتّصال باللّه تعالى والتوكّل عليه والاستعانة به.

3 ـ تؤدّي هذه النظرية إلى تحديد القدرة الإلهية وسلب سلطانه تعالى على عباده في مجال أفعالهم، فيؤدّي هذا الأمر إلى إنكار أن يكون للّه تعالى صنع في أفعال العباد بالتوفيق والخذلان.

رد التفويض في القرآن الكريم :

1 ـ { يا أَيُّهَا النّاسُ أَنْتُمُ الْفُقَراءُ إِلَى اللّهِ وَاللّهُ هُوَ الْغَنِيُّ الْحَمِيدُ } [ فاطر: 15 ]

2 ـ { وَما هُمْ بِضارِّينَ بِهِ مِنْ أَحَد إِلاّ بِإِذْنِ اللّهِ } [ البقرة: 102 ]

3 ـ { كَمْ مِنْ فِئَة قَلِيلَة غَلَبَتْ فِئَةً كَثِيرَةً بِإِذْنِ اللّهِ } [ البقرة: 249 ]

4 ـ { وَما كانَ لِنَفْس أَنْ تُؤْمِنَ إِلاّ بِإِذْنِ اللّهِ } [ يونس: 100 ]

5 ـ { وَما كانَ لِنَفْس أَنْ تَمُوتَ إِلاّ بِإِذْنِ اللّهِ } [ آل عمران: 145 ]

الآيات الدالة على تصرّفه تعالى في أمور عباده :

1 ـ { وَلَوْ لا فَضْلُ اللّهِ عَلَيْكُمْ وَرَحْمَتُهُ لاَتَّبَعْتُمُ الشَّيْطانَ إِلاّ قَلِيلاً } [ النساء:83 ]

2 ـ { أَمَّنْ يُجِيبُ الْمُضْطَرَّ إِذا دَعاهُ وَ يَكْشِفُ السُّوءَ } [ النمل: 62 ]

____________

1- التوحيد، الشيخ الصدوق: باب 56: باب الاستطاعة، ح23، ص343 .


الصفحة 228

3 ـ { إِيّاكَ نَعْبُدُ وَإِيّاكَ نَسْتَعِينُ } [ الحمد: 5 ]

4 ـ { وَقالَ رَبُّكُمُ ادْعُونِي أَسْتَجِبْ لَكُمْ } [ غافر: 60 ]

5 ـ { وَإِذا سَأَلَكَ عِبادِي عَنِّي فَإِنِّي قَرِيبٌ أُجِيبُ دَعْوَةَ الدّاعِ إِذا دَعانِ فَلْيَسْتَجِيبُوا لِي وَلْيُؤْمِنُوا بِي لَعَلَّهُمْ يَرْشُدُونَ } [ البقرة: 186 ]

6 ـ { وَنُوحاً إِذْ نادى مِنْ قَبْلُ فَاسْتَجَبْنا لَهُ فَنَجَّيْناهُ وَأَهْلَهُ مِنَ الْكَرْبِ الْعَظِيمِ }[ الأنبياء: 76 ]

7 ـ { وَأَيُّوبَ إِذْ نادى رَبَّهُ أَنِّي مَسَّنِيَ الضُّرُّ وَأَنْتَ أَرْحَمُ الرّاحِمِينَ * فَاسْتَجَبْنا لَهُ } [ الأنبياء : 83 ـ 84 ]

8 ـ { وَذَا النُّونِ إِذْ ذَهَبَ مُغاضِباً ... * فَاسْتَجَبْنا لَهُ وَنَجَّيْناهُ مِنَ الْغَمِّ وَكَذلِكَ نُنْجِي الْمُؤْمِنِينَ } [ الأنبياء: 87 ـ 88 ]

9 ـ { قُلِ اللّهُمَّ مالِكَ الْمُلْكِ تُؤْتِي الْمُلْكَ مَنْ تَشاءُ وَتَنْزِعُ الْمُلْكَ مِمَّنْ تَشاءُ وَتُعِزُّ مَنْ تَشاءُ وَتُذِلُّ مَنْ تَشاءُ بِيَدِكَ الْخَيْرُ إِنَّكَ عَلى كُلِّ شَيْء قَدِيرٌ } [ آل عمران: 26 ]

10 ـ { إِنْ يَنْصُرْكُمُ اللّهُ فَلا غالِبَ لَكُمْ وَإِنْ يَخْذُلْكُمْ فَمَنْ ذَا الَّذِي يَنْصُرُكُمْ مِنْ بَعْدِهِ وَعَلَى اللّهِ فَلْيَتَوَكَّلِ الْمُؤْمِنُونَ } [ آل عمران: 160 ]

ردّ التفويض في أحاديث أئمة أهل البيت(عليهم السلام) :

1 ـ الإمام جعفر بن محمّد الصادق(عليه السلام): " ... ورجل يزعم أنّ الأمر مفوّض إليهم ، فهذا وهّن اللّه في سلطانه ..."(1) .

2 ـ الإمام جعفر بن محمّد الصادق(عليه السلام) قال: قال رسول اللّه(صلى الله عليه وآله وسلم): " ... من زعم أنّ الخير والشر بغير مشيّة اللّه فقد أخرج اللّه من سلطانه ..."(2) .

3 ـ الإمام جعفر بن محمّد الصادق(عليه السلام): "إنّ القدرية مجوس هذه الأمة ، وهم الذين أرادوا أن يصفوا اللّه بعدله فأخرجوه من سلطانه ..."(3) .

____________

1- بحار الأنوار ، العلاّمة المجلسي: ج5، كتاب العدل والمعاد ، أبواب العدل ، ب1 ، ح14، ص9 ـ 10 .

2- التوحيد، الشيخ الصدوق: باب 59: باب نفي الجبر والتفويض، ح2، ص350 .

3- المصدر السابق: باب60: باب القضاء والقدر ، ح29 ، ص372 .


الصفحة 229

4 ـ الإمام جعفر بن محمّد الصادق(عليه السلام) سأله محمّد بن عَجْلان: فوّض اللّه الأمر إلى العباد ؟ فقال(عليه السلام): "اللّه أكرم من أن يفوّض إليهم"(1).

5 ـ الإمام جعفر بن محمّد الصادق(عليه السلام) قال للحسن البصري: " ... إيّاك أن تقول بالتفويض! فإنّ اللّه جلّ وعزّ لم يفوّض الأمر إلى خلقه وهناً منه وضعفاً ..."(2) .

6 ـ الإمام جعفر بن محمّد الصادق(عليه السلام): "لعن اللّه المعتزلة أرادت أن توحّد فألحدت ، ورامت أن ترفع التشبيه فأثبتت"(3) .

7 ـ وقال(عليه السلام): "مساكين القدرية، أرادوا أن يصفوا اللّه عزّ وجلّ بعدله فأخرجوه من قدرته وسلطانه"(4) .

8 ـ الإمام جعفر بن محمّد الصادق(عليه السلام): " ... من زعم أ نّه يقوى على عمل لم يرده اللّه عزّ وجلّ ، فقد زعم أنّ إرادته تغلب إرادة اللّه ..."(5).

9 ـ الإمام علي بن موسى الرضا(عليه السلام)، سأله الوشاء: اللّه فوّض الأمر إلى العباد؟ فقال(عليه السلام): "اللّه أعزّ من ذلك"(6) .

____________

1- المصدر السابق: باب59: باب نفي الجبر والتفويض ، ح6، ص351 .

2- بحار الأنوار ، العلاّمة المجلسي: ج24، كتاب الإمامة، باب59، ح1 ، ص233 .

3- المصدر السابق: ج5، كتاب العدل والمعاد، أبواب العدل، ب1، ح8 ، ص8 .

4- المصدر السابق: ج5، كتاب العدل والمعاد، أبواب العدل، ب1، ح93 ، ص54 .

5- بحار الأنوار، العلاّمة المجلسي ج4، كتاب التوحيد، أبواب أسمائه تعالى، باب1، ح6 ، ص161 .

6- المصدر السابق: ج5، كتاب العدل والمعاد، أبواب العدل، ب1، ح20 ، ص16 .


الصفحة 230

المبحث الثاني عشر

القـدرية

قال رسول اللّه(صلى الله عليه وآله وسلم): "القدرية مجوس هذه الأمة"(1) .

من هم القدرية ؟

قال القاضي عبد الجبار المعتزلي: "اعلم أنّ القدرية عندنا إنّما هم المجبرة والمشبّهة، وعندهم المعتزلة ، فنحن نرميهم بهذا اللقب وهم يرموننا به"(2).

أدلة نسبة القدرية إلى القائلين بالقدر (الجبرية) :

1 ـ إنّ اسم القدرية هو اسم إثبات ، ولا يستحقه إلاّ المثبت للقدر ، والمجبرة هم الذين يثبتون القدر، ويقولون كلّ شيء بقدر اللّه(3) .

2 ـ إنّ الجبرية هم الذين يولعون بالإكثار من قولهم : لا يكون شيء إلاّ بقضاء اللّه تعالى وقدره ، وهم أشدّ الناس حرصاً على استخدام مصطلح القدر، فلهذا يجب أن يكونوا هم القدرية(4).

3 ـ إنّ المتبادر من القدرية هم القائلون بالقدر، كما أنّ المتبادر من العدلية أ نّهم مثبتو العدل لا منكريه ، لأنّ تفسير القدرية بمنكري القدر بعيد جدّاً وهو غير مأنوس في اللغة العربية .

____________

1- عوالي اللئالي،ابن أبي جمهور الاحسائي، ج1، الفصل الثامن ، ح175، ص166 .

بحار الأنوار ، العلاّمة المجلسي: ج5، كتاب العدل والمعاد، أبواب العدل، باب 1، ذيل ح4، والنص المروي عن رسول اللّه(صلى الله عليه وآله وسلم): "القدرية مجوس أمتي" .

المعجم الأوسط ، الطبراني: 3/65 .

كنز العمال ، المتقي الهندي: الفصل الأوّل ، ح553، ص118 .

2- شرح الأصول الخمسة، القاضي عبد الجبار: الأصل الرابع ، ص772 .

3- انظر: المصدر السابق: ص775 ـ 776 .

4- شرح الأصول الخمسة، القاضي عبد الجبار: الأصل الرابع ، ص775 ـ 776 .


الصفحة 231

4 ـ ذكر الرسول(صلى الله عليه وآله وسلم) بأنّ القدرية خصماء الرحمن ، والمجبرة هم الذين يخاصمون اللّه تعالى إذا عاقبهم على المعاصي، فيقولون: إنّك أنت الذي خلقت فينا المعصية وأردتها منّا ، فمالك تعذّبنا وتعاقبنا على ذلك(1) .

أدلة نسبة القدرية إلى النافين للقدر (المفوّضة) :

1 ـ إنّ القدري هو الذي يثبت القدر لنفسه دون ربّه عزّ وجلّ ، ويقول بأ نّه هو الخالق والمقدّر لأفعاله دون اللّه تعالى .

2 ـ إنّ المفوّضة هم القدرية لأ نّهم أفرطوا وبالغوا في نفيه(2).

3 ـ إنّ من يضيف القدر إلى نفسه ، ويدّعي كونه الفاعل والمقدّر أولى باسم القدري ممن يضيفه إلى ربّه(3) .

4 ـ ذكر الرسول (صلى الله عليه وآله وسلم) بأنّ القدرية خصماء الرحمن ، والمفوّضة يسلبون حقّ اللّه تعالى في خلقه لأفعال العباد، وينسبون هذا الخلق إلى أنفسهم ، ومن يكون كذلك فهم المخاصمون للّه تعالى .

وجه تشبيه المجبرة بالمجوس :

1 ـ قال المجوس بأنّ اللّه تعالى يخلق ثمّ يتبرّأ ممّا خلق ، وقال المجبرة بأنّ اللّه تعالى يخلق القبائح ثمّ يتبرّأ منها(4) .

2 ـ قال المجوس بأنّ القادر على فعل الخير لا يقدر على فعل الشر وبالعكس ، فوافقهم المجبرة وقالوا بأنّ الإنسان الذي يخلق اللّه فيه الإيمان لا يقدر على الكفر وبالعكس(5) .

3 ـ قال المجوس بأنّ مزاج العالم شيء واحد، وهو حَسَن من النور ، وقبيح من

____________

1- انظر: المصدر السابق: ص774 .

2- شرح المقاصد، سعد الدين التفتازاني: ج4، المقصد 5 ، الفصل 5 ، المبحث 1 ، ص267 ـ 268 .

3- المصدر السابق .

4- انظر: كشف المراد ، العلاّمة الحلّي: المقصد الثالث ، الفصل الثالث ، المسألة الثامنة، ص435 .

5- انظر: المصدر السابق .


الصفحة 232

الظلمة ، وشاركهم المجبرة وقالوا: إنّ الكفر شيء واحد، وهو يَحسُن من اللّه تعالى من حيث خلقه تعالى له ويقبح من العبد من حيث كسبه له(1) .

4 ـ جوّز المجوس تكليف ما لا يطاق ، وقال المجبّرة أيضاً بأنّ اللّه تعالى كلّف الكافر بالإيمان مع أ نّه لا يمكنه فعله ، ونهاه عن الكفر مع أ نّه لا يتصوّر الانفكاك عنه(2).

5 ـ إنّ الأمر الظاهر في المجوس عملهم الفواحش ثمّ إسنادها إلى اللّه تعالى ، وهو ما يذهب إليه المجبرة .

وجه تشبيه المفوّضة بالمجوس :

1 ـ قال المفوّضة بأنّ الإنسان هو المستقل في خلق أفعاله ، فأثبتوا خالقين ، والمجوس أيضاً ذهبوا إلى وجود خالقين ، أحدهما خالق الخير والآخر خالق الشر .

2 ـ قال المفوّضة كالمجوس بأنّ اللّه تعالى خير محض وهو غير قادر على خلق الشرّ والفساد(3) .

3 ـ إنّ المفوّضة كالمجوس لم يجعلوا للّه إرادة ولا سلطاناً في بعض الأُمور(4).

القدرية في الأحاديث الشريفة :

وردت "القدرية" في أحاديث رسول اللّه(صلى الله عليه وآله وسلم) وأهل بيته(عليهم السلام) تارة في القائلين بالقدر وهم "المجبّرة"، وأُخرى في النافين للقدر وهم "المفوّضة" .

ويبدو أنّ المراد من القدرية عند الرسول وأهل بيته(عليهم السلام) هم الذين يقولون في القدر بخلاف الحقّ ، وهو يشمل "المجبّرة" و"المفوّضة" .

____________

1- انظر: شرح الأصول الخمسة، القاضي عبد الجبار: الأصل الرابع ، فصل: في القضاء والقدر ، ص773 .

2- انظر: المصدر السابق .

3- كتاب التوحيد، أبو منصور الماتريدي: مسألة في ذم القدرية، ص314 .

4- المصدر السابق: ص315 .


الصفحة 233

الأحاديث الدالة على أنّ القدرية هم المجبّرة :

1 ـ قال رسول اللّه(صلى الله عليه وآله وسلم): "لُعنت القدرية والمرجئة على لسان سبعين نبياً" ، قيل: ومن هم القدرية يا رسول اللّه؟

فقال(صلى الله عليه وآله وسلم): "قوم يزعمون أنّ اللّه سبحانه وتعالى قدّر عليهم المعاصي وعذّبهم عليها"(1) .

2 ـ ورد أنّ رجلا قدم على النبي(صلى الله عليه وآله وسلم) فقال له رسول اللّه(صلى الله عليه وآله وسلم): "أخبرني بأعجب شيء رأيت" . قال: رأيت قوماً ينكحون أمهاتهم وبناتهم وأخواتهم ، فإذا قيل لهم: لم تفعلون ذلك ؟ قالوا: قضاء اللّه تعالى علينا وقدره .

فقال النبي(صلى الله عليه وآله وسلم): "سيكون من أُمتي أقوام يقولون مثل مقالتهم ، أولئك مجوس أمّتي"(2) .

3 ـ قال الإمام علي(عليه السلام) عند انصرافه من صفين: " ... فو اللّه ما علوتم تلعة ولا هبطتم بطن واد إلاّ بقضاء من اللّه وقدر" ، فقاله له شيخ شامي: عند اللّه أحتسب عنائي .

فقال(عليه السلام): "مهلا يا شيخ ، لعلّك تظن قضاءً حتماً وقدراً لازماً ... تلك مقالة عبدة الأوثان وخصماء الرحمن وقدرية هذه الأمة ومجوسها"(3) .

الأحاديث الدالة على أنّ القدرية هم المفوّضة :

1 ـ قال رسول اللّه(صلى الله عليه وآله وسلم): "إنّ لكلّ أمة مجوس ، ومجوس هذه الأمة الذين يقولون لا قدر ، ويزعمون أنّ المشية والقدرة إليهم ولهم"(4) .

2 ـ قال الإمام محمّد بن علي الباقر(عليه السلام): " ... القدرية الذين يقولون: لا قدر ، ويزعمون أ نّهم قادرون على الهدى والضلالة"(5) .

3 ـ قال الإمام جعفر بن محمّد الصادق(عليه السلام): "إنّ القدرية مجوس هذه الأمة، وهم الذين أرادوا أن يصفوا اللّه بعدله، فأخرجوه من سلطانه ..."(6) .

____________

1- بحار الأنوار ، العلاّمة المجلسي: ج5، كتاب العدل والمعاد، أبواب العدل ، ب1، ح73، ص47 .

2- بحار الأنوار ، العلاّمة المجلسي: ج5، كتاب العدل والمعاد، أبواب العدل ، ب1، ح74، ص47 .

3- التوحيد ، الشيخ الصدوق : باب60: باب القضاء والقدر و ... ، ح28، ص369 ـ 370 .

4- بحار الأنوار ، العلاّمة المجلسي: ج5، كتاب العدل والمعاد، أبواب العدل ، ب7، ح14، ص197 .

5- المصدر السابق: ب1، ح13، ص9 .

6- المصدر السابق: ج5 ، ب3 ، هامش ص98 .


الصفحة 234

4 ـ قال الإمام جعفر بن محمّد الصادق(عليه السلام) لقدري: "اقرأ سورة الحمد ..." فجعل القدري يقرأ سورة الحمد حتّى بلغ قول اللّه تبارك وتعالى: { إيّاكَ نَعْبُدُ وَإيّاكَ نَسْتَعينُ } .

فقال له الإمام الصادق: "قف، من تستعين ؟ وما حاجتك إلى المعونة إن [ كان ] الأمر إليك؟" ، فبهت الذي كفر ، واللّه لا يهدي القوم الظالمين(1) .

5 ـ عن علي بن موسى الرضا(عليه السلام) حول قوله تعالى: { إِنَّ اللّهَ لا يُغَيِّرُ ما بِقَوْم حَتّى يُغَيِّرُوا ما بِأَنْفُسِهِمْ } [ الرعد: 11 ] .

قال(عليه السلام): "إنّ القدرية يحتجون بأوّلها وليس كما يقولون، ألا ترى أنّ اللّه تبارك وتعالى يقول: { وَإِذا أَرادَ اللّهُ بِقَوْم سُوْءاً فَلا مَرَدَّ لَهُ } ..."(2) .

____________

1- بحار الأنوار ، العلاّمة المجلسي: ج92، كتاب القرآن، باب29، ح44، ص239 ـ 240 .

2- المصدر السابق: ج5، كتاب العدل والمعاد، أبواب العدل ، ب1، ح4، ص5 .


الصفحة 235

المبحث الثالث عشر

أفعال العباد عند مذهب أهل البيت (عليهم السلام)

رأي مذهب أهل البيت(عليهم السلام) حول خلق أفعال العباد :

1 ـ سُئل الإمام علي بن موسى الرضا(عليه السلام) عن أفعال العباد: أهي مخلوقة للّه تعالى؟ فقال(عليه السلام): "لو كان خالقاً لها لما تبرّء منها، وقد قال سبحانه: { أَنَّ اللّهَ بَرِيءٌ مِنَ الْمُشْرِكِينَ } ولم يرد البراءة من خلق ذواتهم ، وإنّما تبرّء من شركهم وقبائحهم"(1).

2 ـ إنّ الإنسان هو الذي يخلق أفعاله بالقدرة التي منحها اللّه تعالى له ، "والضرورة قاضية بإسناد الأفعال إلينا"(2) .

3 ـ قال الشيخ الحرّ العاملي: "مذهب الإمامية والمعتزلة أنّ أفعال العباد صادرة عنهم وهم خالقون لها"(3) .

تنبيه مهم :

إنّ "الخلق" ينقسم إلى قسمين :

الأوّل: إيجاد "شيء" من "لا شيء" .

وهذا القسم من الخلق مختص باللّه تعالى فقط ، ولا يقدر عليه إلاّ اللّه عزّ وجلّ .

____________

1- تصحيح اعتقادات الإمامية ، الشيخ المفيد: ج5، فصل في أفعال العباد ، ص44 .

الفصول المهمة، الشيخ الحرّ العاملي: ج1، أبواب أصول الدين، باب 47، ح7 [ 266 ] ، ص258 ـ 259 .

بحار الأنوار ، العلاّمة المجلسي: ج5 ، كتاب العدل والمعاد، باب 1، ذيل ح29، ص20 .

2- تجريد الاعتقاد، نصير الدين الطوسي: المقصد الثالث ، الفصل الثالث ، نفي الجبر، ص199 .

3- الفصول المهمة، الحرّ العاملي: ج1، أبواب أصول الدين ، باب 47، ذيل ح4 [ 263 ] ، ص257 .


الصفحة 236

من الآيات القرآنية المشيرة إلى هذا الخلق :

قال تعالى: { أَلا لَهُ الْخَلْقُ وَالأَمْرُ تَبارَكَ اللّهُ رَبُّ الْعالَمِينَ } [ الأعراف: 54 ]

والخلق هنا بمعنى إيجاد "شيء" من "لا شيء"(1).

الثاني: الخلق بمعنى التقدير والتصوير والصنع ، من قبيل القيام بتركيب مجموعة أشياء للوصول إلى شيء جديد له من الخصائص ما تفترق عن خصائص أجزائه ، أو من قبيل وقوع الأحداث التي تتم عن طريق تحريك جزء من مكان إلى مكان آخر .

وهذا القسم من "الخلق" يدخل في مقدور الإنسان .

من الآيات القرآنية المشيرة إلى هذا الخلق :

قوله تعالى حكاية عن عيسى(عليه السلام): { أَنِّي أَخْلُقُ لَكُمْ مِنَ الطِّينِ كَهَيْئَةِ الطَّيْرِ }[ آل عمران: 49 ] .

أي: أنّي أقدّر لكم وأصوّر لكم من الطين مثل صورة الطير(2)، وليس المراد من "الخلق" هنا "إيجاد شيء من لا شيء" .

النتيجة :

إنّ خلق الإنسان لأفعاله يكون من قبيل القسم الثاني للخلق، وهو عبارة عن القيام بتركيب مجموعة أشياء أو تحريكها للوصول إلى شيء جديد ، ولا يكون خلق الإنسان من قبيل القسم الأوّل للخلق وهو خلق "شيء" من "لا شيء" ، لأنّ هذا الخلق من مختصات اللّه تعالى فحسب .

قال الإمام جعفر بن محمّد الصادق(عليه السلام):

"في الربوبية العظمى والإلهية الكبرى:

لا يكوّن الشيء لا من شيء إلاّ اللّه .

____________

1- انظر: التبيان في تفسير القرآن ، الشيخ الطوسي: ج4، تفسير آية 54 من سورة الأعراف ، وقد عبّر الشيخ الطوسي عن معنى إيجاد شيء من لا شيء بكلمة "الاختراع" .

2- انظر: المصدر السابق: ج2، تفسير آية 49 من سورة آل عمران .


الصفحة 237

ولا ينقل الشيء من جوهريته إلى جوهر آخر إلاّ اللّه .

ولا ينقل الشيء من الوجود إلى العدم إلاّ اللّه"(1) .

أقوال أئمة أهل البيت(عليهم السلام) حول أفعال العباد :

1 ـ الإمام جعفر بن محمّد الصادق(عليه السلام): "لا جبر ولا تفويض بل أمر بين أمرين"(2) .

2 ـ الإمام علي بن موسى الرضا(عليه السلام): "إنّ اللّه عزّ وجلّ لم يطع بإكراه ، ولم يعص بغلبة، ولم يهمل العباد في ملكه ، هو المالك لما ملّكهم والقادر على ما أقدرهم عليه ..."(3) .

3 ـ الإمام جعفر بن محمّد الصادق(عليه السلام): "ما استطعت أن تلوم العبد عليه فهو منه، وما لم تستطع أن تلوم العبد عليه فهو من فعل اللّه"(4) .

4 ـ الإمام جعفر بن محمّد الصادق(عليه السلام)، قال لأبي حنيفة عندما سأله عن مصدر المعصية:

" ... لا تخلو من ثلاث :

[ أوّلاً ] إمّا أن تكون من اللّه وليس من العبد شيء، فليس للحكيم أن يأخذ عبده بما لم يفعله.

[ ثانياً ] وإمّا أن تكون من العبد ومن اللّه ، واللّه أقوى الشريكين ، فليس للشريك الأكبر أن يأخذ الشريك الأصغر بذنبه .

[ ثالثاً ] وإما أن تكون من العبد ، وليس من اللّه شيء، فإن شاء عفى ، وإن شاء عاقب"(5) .

5 ـ الإمام جعفر بن محمّد الصادق(عليه السلام):

"العمل الصالح: العبد يفعله واللّه به أمره .

والعمل الشرّ: العبد يفعله واللّه عنه نهاه".

فقال السائل: أليس فعله بالآلة التي ركّبها فيه ؟

____________

1- بحار الأنوار ، العلاّمة المجلسي: ج4، كتاب التوحيد، باب5، ح2، ص148 .

2- المصدر السابق: ب3، شرح ح2 ، ص197 .

3- المصدر السابق: ج5، كتاب العدل والمعاد، أبواب العدل، ب1، ح22، ص16 .

4- المصدر السابق: ح109، ص59 .

5- المصدر السابق: ج5، كتاب العدل والمعاد، أبواب العدل، ب1، ح33 ص27 .


الصفحة 238

قال(عليه السلام): "نعم، ولكن بالآلة التي عمل بها الخير قدر بها على الشر الذي نهاه عنه"(1) .

رأي مذهب أهل البيت(عليهم السلام) حول قدرة العبد :

1 ـ إنّ اللّه تعالى هو الذي منح الإنسان القدرة والاستطاعة بحيث تكون مالكية الإنسان لهذه القدرة والاستطاعة في طول مالكيته تعالى ، أي: لا يكون الباري عزّ وجلّ منعزلا عن هذه القدرة والاستطاعة ، بل يكون هو المالك لما ملّك الإنسان، وهو القادر على ما أقدره .

2 ـ إنّ قوّة الإنسان قوّة مؤثّرة ، ولكنها ليست مستقلة ، بل هي قوّة تفتقر في ذاتها إلى اللّه تعالى .

أقوال أئمّة أهل البيت(عليهم السلام) حول قدرة العبد :

1 ـ قال الإمام علي(عليه السلام) لأحد الأشخاص حول الاستطاعة التي يملكها الإنسان: " [ إنّك ] تملكها باللّه الذي يملكها من دونك ، فإن ملّككها كان ذلك من عطائه ، وإن سلبكها كان ذلك من بلائه ، وهو المالك لما ملّكك والمالك لما عليه أقدرك"(2) .

2 ـ قال الإمام علي(عليه السلام) عن معنى "لا حول ولا قوة إلاّ باللّه":

"إنّا لا نملك مع اللّه شيئاً ، ولا نملك إلاّ ما ملّكنا ، فمتى ملّكنا ما هو أملك به منّا كلّفنا ، ومتى أخذه منّا ، وضع تكليفه عنّا"(3) .

3 ـ قال الإمام جعفر بن محمّد الصادق(عليه السلام): "ما كلّف اللّه العباد كلفة فعل، ولا نهاهم عن شيء حتّى جعل لهم الاستطاعة ، ثمّ أمرهم ونهاهم ، فلا يكون العبد آخذاً ولا تاركاً إلاّ باستطاعة متقدّمة قبل الأمر والنهي، وقبل الأخذ والترك ، وقبل القبض والبسط"(4) .

4 ـ قال الإمام جعفر بن محمّد الصادق(عليه السلام): "لا يكون العبد فاعلا ولا متحرّكاً إلاّ والاستطاعة معه من اللّه عزّ وجلّ، وإنّما وقع التكليف من اللّه عزّ وجلّ بعد الاستطاعة، فلا يكون

____________

1- المصدر السابق: ح29، ص19 .

2- بحار الأنوار ، العلاّمة المجلسي: ج5، كتاب العدل والمعاد، أبواب العدل، باب1، ح30، ص24 .

3- نهج البلاغة ، الشريف الرضي: باب المختار من حكم أمير المؤمنين(عليه السلام)، الحكمة رقم 404، ص742 .

4- بحار الأنوار ، العلاّمة المجلسي: ج5، كتاب العدل والمعاد، أبواب العدل، باب1، ح57، ص38 .


الصفحة 239

مكلّفاً للفعل إلاّ مستطيعاً"(1) .

5 ـ قال الإمام جعفر بن محمّد الصادق(عليه السلام): "إنّ اللّه عزّ وجلّ خلق الخلق فعلم ما هم صائرون إليه ، وأمرهم ونهاهم ، فما أمرهم به من شيء فقد جعل لهم السبيل إلى الأخذ به، وما نهاهم عنه فقد جعل لهم السبيل إلى تركه ، ولا يكونون فيه آخذين ولا تاركين إلاّ بإذن اللّه عزّ وجلّ"(2) .

6 ـ قال الإمام علي بن محمّد الهادي(عليه السلام): "إنّ اللّه ـ عزّ وجلّ ـ يجازي العباد على أعمالهم، ويعاقبهم على أفعالهم بالاستطاعة التي ملّكهم إيّاها، فأمرهم ونهاهم ..."(3) .

خصائص قدرة الإنسان:

1 ـ إنّ اللّه تعالى منح الإنسان قدرة محدودة، لكي يستخدم هذه القدرة في ما طلب اللّه تعالى منه .

2 ـ إنّ لكلّ إنسان دائرة محدودة من القدرة، وهذه المحدودية هي السبب في نيله الحدّ المحدود من أهدافه ومبتغياته ، وهي العامل في عدم وصوله إلى تحقّق جميع آماله .

3 ـ إنّ الإنسان مكلّف بالجدّ والاجتهاد واستخدام قدرته في سبيل الخير ما استطاع إلى ذلك سبيلا، وقد حثّه الباري عزّ وجلّ على استعمال قدرته المحدودة في أوسع نطاقها وفي أبعد مداها، فقال تعالى: { وَأَنْ لَيْسَ لِلإِنْسانِ إِلاّ ما سَعى }[ النجم: 39 ]

4 ـ إذا تمكّن الإنسان بقدرته أن يصل إلى أهدافه السامية فبهاونعمت ، وإن لم يتمكّن من ذلك بعد استعمال كلّ الوسائل وبذل كلّ ما في وسعه، فعليه أن يعلم بأنّ

____________

1- المصدر السابق: ح46، ص35 .

2- المصدر السابق: ح55، ص37 .

3- تحف العقول، أبو محمّدالحسن بن علي الحرّاني: ما روي عن الإمام أبي الحسن علي بن محمّد(عليه السلام)، رسالته ؤفي الرد على أهل الجبر والتفويض ، ص341 .


الصفحة 240

اللّه تعالى لا يكلّف نفساً إلاّ وسعها .

5 ـ شاءت الإرادة الإلهية أن يكون التقاعس والتواكل والكسل والخمول وعدم استعمال القوة سبباً للعجز والتسافل ، وأن يكون الإقدام والسعي والمحاولة واستعمال القوة في نطاقها الصحيح سبباً إلى الإنتاج المثمر .

رأي مذهب أهل البيت(عليهم السلام) حول نسبة أفعال العبد إلى اللّه تعالى :

إنّ فعل الخير الذي يفعله الإنسان يُنسب إلى اللّه تعالى ، لأ نّه منح الإنسان القدرة وأمره به ، وأمّا فعل الشرّ فإنّه لا ينسب إلى اللّه تعالى ، لأ نّه عزّ وجلّ نهى عنه وأمر بتركه .

قال الإمام علي بن موسى الرضا(عليه السلام): " [ جاء في الحديث القدسي ] ... قال اللّه: يابن آدم أنا أولى بحسناتك منك ، وأنت أولى بسيئاتك منّي، عملت المعاصي بقوّتي التي جعلتها فيك"(1) .

توضيح ذلك :

السبب في أولوية نسبة سيئات الإنسان إلى نفسه :

إنّ اللّه تعالى وهب للإنسان القدرة، ونهاه عن ارتكاب السيئات ، فإذا صرف الإنسان هذه القدرة في السيئات ، صار أولى بها، لأ نّه صرف الشيء في ما نهاه اللّه تعالى عنه .

____________

1- الكافي، الشيخ الكليني: ج1، كتاب التوحيد، باب: الجبر والقدر والأمر بين الأمرين ، ح3، ص157 .


الصفحة 241

المبحث الرابع عشر

الأمر بين الأمرين

1 ـ قال الإمام علي بن أبي طالب(عليه السلام) في جواب مَن سأله عن القدر: " ... أ نّه أمر بين أمرين ، لا جبر ولا تفويض"(1) .

2 ـ قال الإمام جعفر بن محمّد الصادق(عليه السلام): "لا جبر ولا تفويض ، بل أمر بين أمرين"(2) .

3 ـ سُئل الإمام جعفر بن محمّد الصادق(عليه السلام): هل بين الجبر والقدر منزلة ثالثة؟ فقال(عليه السلام): "نعم ، أوسع مما بين السماء والأرض"(3) .

خصائص مقولة "الأمر بين الأمرين" :

1 ـ بلغت الأحاديث المروية عن أئمة أهل البيت(عليهم السلام) في ذم الاتّجاهين الجبري والتفويضي وإثبات الأمر بين الأمرين حدّ التواتر(4) .

2 ـ إنّ مقولة الأمر بين الأمرين مقولة مستقلة وليست تلفيقاً بين نظريتي الجبر والتفويض، ولا يعني الأمر بين الأمرين أنّ الإنسان مجبور في جانب من جوانب أفعاله ، ومفوّض إليه الأمر في جانب آخر، لأنّ الجبر في الأفعال التكليفيّة باطل بجميع مراتبه ، والتفويض أيضاً باطل بأيّ نحو كان .

3 ـ تُقدِّم مقولة "الأمر بين الأمرين" صياغة تجمع بين "العدل الإلهي" و"السلطة

____________

1- بحار الأنوار ، العلاّمة المجلسي: ج5، كتاب العدل والمعاد، أبواب العدل ، ب1، ح103، ص57 .

2- الكافي، الشيخ الكليني: ج1، كتاب التوحيد، باب: الجبر والقدر والأمر بين الأمرين ، ح13، ص160 .

3- التوحيد، الشيخ الصدوق: باب 59، باب نفي الجبر والتفويض، ح3، ص350 .

4- انظر: محاضرات في أصول الفقه، السيّد الخوئي: 2 / 77 ، نقلا عن: التوحيد، دروس السيّد كمال الحيدري، بقلم جواد علي كسّار: 2 / 87 .


الصفحة 242

الربانية" ، لأنّ هذه المقولة:

تمنع ـ من جهة ـ نسبة الظلم والقبح إلى اللّه تعالى .

وتحفظ ـ من جهة أُخرى ـ سلطنة اللّه في دائرة ملكه .

4 ـ إنّ هذه المقولة تجمع بين نسبة الفعل إلى اللّه تعالى ونسبته إلى الإنسان ، وتحافظ في نفس الوقت على الاختيار الإنساني في إطار يوجِد التوازن بين أصل "العدل الإلهي" وبين أصل "السلطنة الإلهية" من دون أي تفريط لإحدى الجهات على حساب الأخرى .

أهم معاني الأمر بين الأمرين :

المعنى الأوّل :

إنّ أفعال الإنسان تنسب إليه حقيقة ، لأ نّه السبب لها، وهي تحت قدرته واختياره، ولكنها من جهة أُخرى داخلة في سلطان اللّه تعالى، لأنّ اللّه تعالى له الهيمنة على قدرة الإنسان، وهو المالك لما ملّكه، والقادر على ما أقدره .

مثال :

1 ـ إذا أصيبت يد إنسان بالشلل ، فلم يقدر على تحريكها بنفسه ، فبعث الطبيب عن طريق جهاز كهربائي الحركة في يد هذا الشخص ، بحيث أصبح هذا الشخص عند اتّصال يده بذلك الجهاز قادراً على تحريكها بنفسه :

فإنّ حركة يد هذا الشخص ستكون ـ في هذه الحالة ـ أمراً بين أمرين .

فهي لا تستند إلى صاحبها بنفسه كلّ الاستناد، لأنّ قدرته بحاجة إلى الاتّصال بالجهاز .

وهي لا تستند إلى الجهاز وحده ، لأنّ الحركة إنّما تكون باختيار هذا الشخص وإرادته(1).

____________

1- انظر: محاضرات في أصول الفقه ، السيّد الخوئي، بقلم: محمّد إسحاق الفياض: 2/87 ـ 89 . نقلا عن: التوحيد ، دروس السيّد كمال الحيدري، بقلم: جواد علي كسّار: 2/111 ـ 112 .


الصفحة 243

2 ـ إذا ملّك المولى عبده مالا ليتصرّف به :

فإذا قلنا: إنّ هذا التمليك لا يوجب أي مالكية للعبد، والمولى باق على مالكيته كما كان ، فإنّ ذلك هو القول بالجبر .

وإذا قلنا: إنّ هذا التمليك يبطل ملك المولى، كان قولا بالتفويض .

وإذا قلنا: إنّ العبد يكون مالكاً، ولكن المولى ـ في نفس الوقت ـ مالك لجميع ما يملكه العبد، كان ذلك قولا بالأمر بين الأمرين(1) .

المعنى الثاني :

إنّ المقصود من نفي الجبر والتفويض هو نفيهما في التكليف .

ونفي الجبر في التكليف يعني أنّ اللّه تعالى لم يجبر أحداً على الالتزام بالتكاليف .

ونفي التفويض في التكليف يعني أ نّه تعالى لم يفوّض أمر التكليف للعباد ، ليستلزم ذلك نفي التكليف، بل جعله أمراً بين أمرين ، وهو أنّ الإنسان يمتلك الاختيار في أداء التكاليف الإلهية(2) .

قال الشيخ المفيد:

"إنّ اللّه تعالى أقدر الخلق على أفعالهم، ومكّنهم من أعمالهم ، وحدّ لهم الحدود في ذلك ... فلم يكن بتمكينهم من الأعمال مجبراً لهم عليها، ولم يفوّض إليهم الأعمال لمنعهم من أكثرها، ووضع الحدود لهم فيها وأمرهم بحسنها ونهاهم عن قبيحها ، فهذا هو الفصل بين الجبر والتفويض"(3) .

المعنى الثالث :

إنّ لهداية اللّه تعالى وتوفيقاته مدخلا في أفعال العباد وطاعاتهم من غير أن تصل إلى حدّ الإلجاء والاضطرار وسلب القوة.

____________

1- انظر: الميزان ، العلاّمة الطباطبائي: ج1، تفسير سورة البقرة آية 26 ـ 27، ص100 .

2- انظر: هداية الأمة إلى معارف الأئمة، محمّد جواد الخراساني: المقصد الرابع: في أفعاله تعالى شأنه ، فصل: تفسير الأمر بين الأمرين بما ورد عنهم(عليهم السلام) ، ص654 ـ 658 .

3- تصحيح اعتقادات الإمامية، الشيخ المفيد: فصل: في الفرق بين الجبر والاختيار ، ص47 .


الصفحة 244

كما أنّ لخذلانه تعالى لهم وإيكالهم إلى أنفسهم مدخلا في فعل المعاصي وترك الطاعات من غير أن تصل إلى حدّ الإلجاء والاضطرار، ومن دون صحة نسبة تلك الأفعال إلى اللّه تعالى(1) .

المعنى الرابع :

إنّ المقصود من الأمر بين الأمرين هو تدخّل اللّه تعالى في أفعال العباد بإيجاد بعض مقدماتها، كما هو واقع في أكثر المقدمات الخارجية التي منها تهيئة الأسباب ورفع الموانع، فحينئذ لا يكون العبد مجبوراً على الفعل ولا مفوّضاً إليه بمقدماته(2) .

أقوال أئمة أهل البيت(عليهم السلام) حول معنى الأمر بين الأمرين :

1 ـ قال الإمام علي بن موسى الرضا(عليه السلام) حول معنى "أمر بين أمرين": "وجود السبيل إلى إتيان ما أمروا به ، وترك ما نهوا عنه"(3) .

2 ـ قال الإمام جعفر بن محمّد الصادق(عليه السلام) حول الأمر بين الأمرين: "مثل ذلك: رجل رأيته على معصية، فنهيته، فلم ينته، فتركته ، ففعل تلك المعصية، فليس حيث لم يقبل منك فتركته، كنت أنت الذي أمرته بالمعصية"(4) .

3 ـ سُئل الإمام جعفر بن محمّد الصادق(عليه السلام): أأجبر اللّه العباد على المعاصي؟

فقال(عليه السلام): " لا " .

فقال السائل: ففوّض إليهم الأمر ؟

فقال(عليه السلام): " لا " .

فقال السائل: فماذا؟

فقال الإمام الصادق(عليه السلام): "لطف من ربّك بين ذلك"(5) .

____________

1- انظر: بحار الأنوار ، العلاّمة المجلسي: ج5، كتاب العدل والمعاد، أبواب العدل، ب2، ذيل ح1، ص83 .

2- انظر: دلائل الصدق، محمّد حسن المظفر: ج1، إنّا فاعلون ، مناقشة المظفر ، ص440 ـ 441 .

3- بحار الأنوار ، العلاّمة المجلسي: ج5، كتاب العدل والمعاد، أبواب العدل ، ب1، ح18، ص12 .

4- الكافي، الشيخ الكليني: ج1، كتاب التوحيد، باب: الجبر والقدر والأمر بين الأمرين، ح13، ص160 .

5- المصدر السابق: ح8 ، ص159 .


الصفحة 245

4 ـ قال الإمام علي بن موسى الرضا(عليه السلام) حول معنى الأمر بين الأمرين:

"إنّ اللّه عزّ وجلّ لم يطع بإكراه ، ولم يعص بغلبة، ولم يهمل العباد في ملكه ، هو المالك لما ملّكهم والقادر على ما أقدرهم عليه .

فإن ائتمر العباد بطاعته لم يكن اللّه عنها صاداً ولا منها مانعاً.

وإن ائتمروا بمعصيته، فشاء أن يحول بينهم وبين ذلك فعل، وإن لم يَحُل ، وفعلوه ، فليس هو الذي أدخلهم فيه"(1) .

5 ـ قال الإمام علي بن أبي طالب(عليه السلام):

"لا تقولوا: وكّلهم اللّه إلى أنفسهم، فتوهنوه .

ولا تقولوا: أجبرهم على المعاصي فتظلموه .

ولكن قولوا: الخير بتوفيق اللّه .

والشر بخذلان اللّه .

وكلّ سابق في علم اللّه"(2) .

6 ـ قال الإمام علي بن محمّد الهادي(عليه السلام) حول معنى الأمر بين الأمرين:

"هو الامتحان والاختبار بالاستطاعة التي ملّكنا اللّه وتعبّدنا بها ..."(3) .

____________

1- التوحيد، الشيخ الصدوق: باب 59: باب نفي الجبر والتفويض، ح7، ص351 .

2- الاحتجاج ، الطبرسي: ج1، احتجاجه(عليه السلام) في القضاء والقدر ، ص493 .

3- تحف العقول ، الحسن بن علي الحرّاني: ما روى عن الإمام أبي الحسن علي بن محمّد(عليه السلام)، رسالته في الرد على أهل الجبر والتفويض، ص345 .


الصفحة 246