الصفحة 353

احتجاج المشركين: { لَوْ شاءَ اللّهُ ما أَشْرَكْنا } ، { لَوْ شاءَ اللّهُ ما عَبَدْنا مِنْ دُونِهِ }

الموقف الإلهي إزاء هؤلاء المشركين :

1 ـ كذّبهم اللّه في هذا الإدّعاء والاحتجاج ، وقال تعالى: { كَذلِكَ كَذَّبَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ } .

2 ـ أوعدهم اللّه بعذاب، فقال تعالى: { حَتّى ذاقُوا بَأْسَنا } بسبب هذا الكذب الذي كذّبوه على اللّه تعالى .

3 ـ طالبهم اللّه تعالى بالدليل على ما ادّعوه، فقال تعالى لنبيه(صلى الله عليه وآله وسلم): { قُلْ هَلْ عِنْدَكُمْ مِنْ عِلْم فَتُخْرِجُوهُ لَنا إِنْ تَتَّبِعُونَ إِلاَّ الظَّنَّ وَإِنْ أَنْتُمْ إِلاّ تَخْرُصُونَ } .

أي: إنّ كان عندكم دليل أو برهان فاخرجوه، ولكنكم ـ في الواقع ـ لا تعتمدون في ادّعاءاتكم على مستند علمي، وإنّما تتبعون الظنون الكاذبة التي هي أوهام بعيدة عن الحقيقة .

4 ـ ردّ اللّه تعالى على احتجاجهم بقوله: { قُلْ فَلِلّهِ الْحُجَّةُ الْبالِغَةُ فَلَوْ شاءَ لَهَداكُمْ أَجْمَعِينَ } [ الأنعام: 149 ] . أي: شاء اللّه تعالى أن يمنحكم الاختيار ، ولو شاء اللّه إجباركم ، لأجبركم على الهداية، ولم يجبركم على الشرك به، وفي هذا حجّة تبلغ صميم الحقيقة، وللّه الحجّة البالغة(1).

الآيات القرآنية الدالة على حرّية مشيئة الإنسان في اختيار الإيمان أو الكفر:

1 ـ { قُلِ الْحَقُّ مِنْ رَبِّكُمْ فَمَنْ شاءَ فَلْيُؤْمِنْ وَمَنْ شاءَ فَلْيَكْفُرْ } [ الكهف: 29 ]

2 ـ { إِنَّ هذِهِ تَذْكِرَةٌ فَمَنْ شاءَ اتَّخَذَ إِلى رَبِّهِ سَبِيلاً } [ الإنسان: 29 ]

3 ـ { اعْمَلُوا ما شِئْتُمْ إِنَّهُ بِما تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ } [ فصّلت: 40 ]

4 ـ { إِنْ تَكْفُرُوا فَإِنَّ اللّهَ غَنِيٌّ عَنْكُمْ وَلا يَرْضى لِعِبادِهِ الْكُفْرَ وَإِنْ تَشْكُرُوا يَرْضَهُ

____________

1- انظر: العقيدة الإسلامية وأسسها، عبد الرحمن حسن جنكه الميداني: ص780 ـ 781 .


الصفحة 354

لَكُمْ } [ الزمر: 7 ]

أي: إنّكم تمتلكون اختيار الإيمان أو الكفر بمحض إرادتكم، وإنّكم غير مسلوبي الإرادة في التلبّس بأيّهما شئتم .

فلو اخترتم الكفر وكفرتم باللّه، فإنّ اللّه غني عنكم، ولكن الكفر سيقودكم إلى الشرّ، واللّه يريد لكم الخير، فلهذا لا يرضى اللّه لعباده الكفر .

ولو اخترتم سبيل الشكر للّه تعالى، فإنّ اللّه أيضاً غني عنكم، ولكن هذا الشكر سيقودكم إلى الخير، واللّه يريد لكم الخير، فلهذا إن تشكروا يرضه لكم .

وهذا ما يدلّ بصراحة على امتلاك الإنسان الاختيار في سلوكه وتصرّفاته(1) .

معاني أُخرى للهداية الإلهية الخاصة

معاني الهداية التي يصح نسبتها إلى اللّه تعالى :

المعنى الأوّل: الإثابة(2)

1 ـ قال تعالى: { إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصّالِحاتِ يَهْدِيهِمْ رَبُّهُمْ بِإِيمانِهِمْ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهِمُ الأَنْهارُ فِي جَنّاتِ النَّعِيمِ } [ يونس: 9 ]

فقوله تعالى: { يَهْدِيهِمْ رَبُّهُمْ بِإِيمانِهِمْ } أي: يثيبهم بإيمانهم ويهديهم طريق الجنة(3) .

2 ـ قال تعالى: { وَالَّذِينَ قُتِلُوا فِي سَبِيلِ اللّهِ فَلَنْ يُضِلَّ أَعْمالَهُمْ * سَيَهْدِيهِمْ وَيُصْلِحُ بالَهُمْ } [ محمّد: 4 ـ 5 ]

فقوله تعالى: { سَيَهْدِيهِمْ } أي: سيثيبهم(4) لأنّ الهداية التي تكون بعد قتلهم

____________

1- انظر: حديث حول الجبر والتفويض، عبد اللّه الموسوي البحراني: مفهوم الجبر والاختيار ، ص39 .

2- انظر: بحار الأنوار ، العلاّمة المجلسي: ج5، كتاب العدل والمعاد، باب 7، تفسير الآيات ، ص172 .

3- انظر: المنقذ من التقليد، سديد الدين الحمصي: ج1، القول في الهدى والضلال، ص188 .

المسلك في أصول الدين ، المحقّق الحلّي: النظر الثاني ، البحث الثالث ، ص91 .

4- انظر: المنقذ من التقليد، سديد الدين الحمصي: ج1، القول في الهدى والضلال، ص188 .


الصفحة 355

هي إثابتهم لا محالة(1) .

3 ـ قال تعالى: { فَمَنْ يُرِدِ اللّهُ أَنْ يَهْدِيَهُ يَشْرَحْ صَدْرَهُ لِلإِسْلامِ } [ الأنعام: 125 ]أي: من يرد اللّه أن يثيبه بإيمانه وطاعته التي فعلها، فإنّ اللّه تعالى يشرح صدره ليطمئن قلبه بالإيمان ويثبت عليه، لأنّ المؤمن إذا انشرح صدره عند قيامه بعمل عبادي، فإنّ هذا الانشراح سيدفعه إلى مواصلة ذلك العمل والتثبّت عليه(2) .

4 ـ قال تعالى: { لَيْسَ عَلَيْكَ هُداهُمْ وَلكِنَّ اللّهَ يَهْدِي مَنْ يَشاءُ } [ البقرة: 272 ]أي: ليس عليك يا رسول اللّه إثابتهم ، ولكن اللّه يثيب من يشاء وفق موازين حكمته وعدله(3) .

5 ـ قال تعالى: { إِنَّكَ لا تَهْدِي مَنْ أَحْبَبْتَ وَلكِنَّ اللّهَ يَهْدِي مَنْ يَشاءُ }[ القصص: 56 ]

أي: إنّك يا رسول اللّه لا تثيب من أحببت، ولكن الإثابة بيد اللّه تعالى، وأ نّه تعالى يثيب وفق مشيئته الحكيمة والعادلة(4) .

المعنى الثاني: إثبات الهداية والحكم بها

قد تعني عبارة "هدى اللّه هؤلاء" أ نّه تعالى أثبت أ نّهم مهتدون وحكم عليهم بهذا الوصف(5) .

____________

1- انظر: بحار الأنوار ، العلاّمة المجلسي: ج5، كتاب العدل والمعاد، باب7، تفسير الآيات، ص172 .

2- انظر: المنقذ من التقليد، سديد الدين الحمصي: ج1، القول في الهدى والضلال، ص191 .

تصحيح اعتقادات الإمامية ، الشيخ المفيد : فصل في الإرادة والمشيئة ، ص51 .

كشف المراد، العلاّمة الحلّي: المقصد الثالث ، الفصل الثالث، المسألة التاسعة، ص436 .

وقد ورد هذا المعنى في حديث عن الإمام علي بن موسى الرضا(عليه السلام) .

راجع: التوحيد، الشيخ الصدوق: باب 35: باب تفسير الهدى والضلالة، ح4، ص237 .

3- انظر: أصول الدين، محمّد حسن آل ياسين: العدل الإلهي، ص180 .

4- انظر: المصدر السابق .

5- انظر: بحار الأنوار ، العلاّمة المجلسي: ج5، كتاب العدل والمعاد، باب 7: تفسير الآيات، ص172 .


الصفحة 356

المعنى الثالث: الإرشاد إلى الجنة

قال تعالى: { مَنْ يَهْدِ اللّهُ فَهُوَ الْمُهْتَدِ وَمَنْ يُضْلِلْ فَلَنْ تَجِدَ لَهُ وَلِيّاً مُرْشِداً }[ الكهف: 17 ]

قال الإمام جعفر بن محمّد الصادق(عليه السلام) حول هذه الآية:

"إنّ اللّه تبارك وتعالى يضلّ الظالمين يوم القيامة عن دار كرامته، ويهدي أهل الإيمان والعمل الصالح إلى جنته، كما قال عزّ وجلّ: { وَيُضِلُّ اللّهُ الظّالِمِينَ وَيَفْعَلُ اللّهُ ما يَشاءُ }[ إبراهيم: 27 ]

وقال عزّ وجلّ: { إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصّالِحاتِ يَهْدِيهِمْ رَبُّهُمْ بِإِيمانِهِمْ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهِمُ الأَنْهارُ فِي جَنّاتِ النَّعِيمِ } [ يونس: 9 ] ..."(1) .

معاني الهداية التي لا يصح نسبتها إلى اللّه تعالى :

المعنى الأوّل: ايصال الإنسان إلى الهداية إجباراً

إنّ تفسير الهداية الإلهية بمعنى إجبار اللّه الإنسان على الهداية وحمله عليها بالقسر والغلبة يتنافي مع اختيار الإنسان في أفعاله ولا ينسجم مع مبدأ التكليف ومبدأ استحقاق الإنسان الثواب والعقاب(2).

المعنى الثاني: خلق الهداية في الإنسان

لا يصح القول بأنّ اللّه تعالى يخلق الهداية في الإنسان من غير أن يكون للإنسان القدرة على الامتناع وقد ناقشنا هذا الموضوع فيما سبق(3) .

____________

1- التوحيد ، الشيخ الصدوق: باب 35 ، ح1، ص236 .

2- للمزيد راجع الفصل السابع ، المبحث الرابع من هذا الكتاب .

3- راجع: الفصل السابع، المبحث السادس من هذا الكتاب .


الصفحة 357

المبحث الرابع

معنى الإضلال

معنى الإضلال (1) :

1 ـ التغييب: يقال: أضللت الشيء إذا غيّبته .

وجاء في القرآن الكريم: { لا يَضِلُّ رَبِّي وَلا يَنْسى } [ طه: 52 ] أي: لا يغيب عن شيء ولا يغيب عنه شيء .

2 ـ التضييع: يقال: أضللته إذا ضيّعته، ويقال: ضلّت ناقتي ، أي: ضاعت ناقتي وتاهت ، ويقال: ضللت الطريق ، أي: ضعت عن الطريق .

3 ـ الهلاك: كقوله تعالى: { ضَلَّ سَعْيُهُمْ فِي الْحَياةِ الدُّنْيا } [ الكهف: 104 ]أي: حبط سعيهم. وكقوله تعالى حكاية عن الدهريين: { وَقالُوا أَ إِذا ضَلَلْنا فِي الأَرْضِ أَ إِنّا لَفِي خَلْق جَدِيد بَلْ هُمْ بِلِقاءِ رَبِّهِمْ كافِرُونَ } [ السجدة: 10 ] أي: أَإِذا هلكنا في الأرض ومتنا وتفتّتت أجزاؤنا أ نُخلق خلقاً جديداً(2).

4 ـ النسيان: كقوله تعالى: { وَاسْتَشْهِدُوا شَهِيدَيْنِ مِنْ رِجالِكُمْ فَإِنْ لَمْ يَكُونا رَجُلَيْنِ فَرَجُلٌ وَامْرَأَتانِ مِمَّنْ تَرْضَوْنَ مِنَ الشُّهَداءِ أَنْ تَضِلَّ إِحْداهُما فَتُذَكِّرَ إِحْداهُمَا الأُخْرى } [ البقرة: 282 ] أي: إذا نسيت إحداهما ذكّرتها الأخرى .

5 ـ وجده ضالاً: يقال: أضللت الشيء إذا وجدته ضالا، ومنه الحديث: أنّ النبي(صلى الله عليه وآله وسلم) أتى قومه فأضلّهم ، أي: وجدهم ضلالا غير مهتدين إلى الحقّ .

6 ـ السبب للضلال والدخول فيه: كما جاء في القرآن الكريم حول الأصنام:

____________

1- وردت المعاني الستة المذكورة في بداية هذا القسم في: لسان العرب، ابن منظور: مادة (ضلل) .

2- انظر: تصحيح اعتقادات الإمامية، الشيخ المفيد: فصل: في الإرادة والمشيئة، ص52 .


الصفحة 358

{ رَبِّ إِنَّهُنَّ أَضْلَلْنَ كَثِيراً مِنَ النّاسِ } [ إبراهيم: 36 ] أي: ربّ إنّ الأصنام أصبحن سبباً لإضلال الكثير، مع العلم بأنّ الأصنام لا تعقل ولا تفعل شيئاً(1).

7 ـ إبطال العمل: كقوله تعالى: { وَالَّذِينَ قُتِلُوا فِي سَبِيلِ اللّهِ فَلَنْ يُضِلَّ أَعْمالَهُمْ }[ محمّد: 4 ] أي: فلن يبطل اللّه أعمالهم ، وكقوله تعالى: { وَأَضَلَّ أَعْمالَهُمْ [} محمّد: 8 ] أي: أبطل أعمالهم لسوء نواياهم وتلبّسها بالرياء والنفاق(2).

____________

1- انظر: بحار الأنوار ، العلاّمة المجلسي: ج5، كتاب العدل والمعاد، باب7، ح48، ص208 .

2- انظر: كشف المراد ، العلاّمة الحلّي: المقصد الثالث، الفصل الثالث ، المسألة التاسعة ، ص436.

المسلك في أصول الدين، المحقّق الحلّي: النظر الثاني ، البحث الثالث، ص91 .


الصفحة 359

المبحث الخامس

نسبة إضلال العباد إلى اللّه تعالى

إنّ إضلال اللّه لبعض العباد عبارة عن خذلانهم وتركهم لشأنهم وإيكالهم إلى أنفسهم وسلب التوفيق والعناية والتسديد منهم ، وحرمانهم من الهداية الخاصة .

مستحقي هذا النوع من الإضلال :

إنّ إضلال اللّه لبعض العباد يكون وفق مشيئته تعالى ، وإنّ اللّه تعالى يضل من يشاء .

ولهذا ورد في القرآن الكريم :

1 ـ { إِنَّ اللّهَ يُضِلُّ مَنْ يَشاءُ } [ الرعد: 27 ]

2 ـ { فَيُضِلُّ اللّهُ مَنْ يَشاءُ } [ إبراهيم: 4 ]

ولكن لا يخفى بأنّ اللّه تعالى حكيم ، وهو لا يشاء جزافاً أو عبثاً، وإنّما تكون مشيئته وفق حكمته وعدله ، وقد بيّن اللّه عزّ وجل في القرآن الكريم موازين مشيئته تعالى في إضلال بعض العباد وحرمانهم من الهداية الخاصة .

موازين مشيئته تعالى في إضلال العباد وحرمانهم من الهداية الخاصة :

أوّلاً : الكفر

قال تعالى :

1 ـ { كَذلِكَ يُضِلُّ اللّهُ الْكافِرِينَ } [ غافر: 74 ]

2 ـ { وَإِنَّ اللّهَ لا يَهْدِي الْقَوْمَ الْكافِرِينَ } [ النحل: 107 ]

3 ـ { وَاللّهُ لا يَهْدِي الْقَوْمَ الْكافِرِينَ } [ البقرة: 264 ]

4 ـ { إِنَّ اللّهَ لا يَهْدِي مَنْ هُوَ كاذِبٌ كَفّارٌ } [ الزمر: 3 ]


الصفحة 360

ثانياً : الظلم

قال تعالى :

1 ـ { وَيُضِلُّ اللّهُ الظّالِمِينَ } [ إبراهيم: 27 ]

2 ـ { إِنَّ اللّهَ لا يَهْدِي الْقَوْمَ الظّالِمِينَ } [ المائدة: 51 ]

3 ـ { وَاللّهُ لا يَهْدِي الْقَوْمَ الظّالِمِينَ } [ البقرة: 258 ]

ثالثاً: الفسق

قال تعالى :

1 ـ { وَما يُضِلُّ بِهِ إِلاَّ الْفاسِقِينَ } [ البقرة: 26 ]

2 ـ { وَاللّهُ لا يَهْدِي الْقَوْمَ الْفاسِقِينَ } [ المائدة: 108 ]

رابعاً : الإسراف والارتياب

قال تعالى: { كَذلِكَ يُضِلُّ اللّهُ مَنْ هُوَ مُسْرِفٌ مُرْتابٌ } [ غافر: 34 ]

خامساً : الانحراف عن الحقّ

قال تعالى: { فَلَمّا زاغُوا أَزاغَ اللّهُ قُلُوبَهُمْ } [ الصف: 5 ]

سادساً : الاستكبار

قال تعالى: { كَذلِكَ يَطْبَعُ اللّهُ عَلى كُلِّ قَلْبِ مُتَكَبِّر جَبّار } [ غافر: 35 ]


الصفحة 361

معاني الإضلال التي لا يصح نسبتها إلى اللّه تعالى

المعنى الأوّل: الإغواء والتوجيه نحو الباطل(1) .

الآيات القرآنية المشيرة إلى هذا المعنى من الإضلال :

1 ـ { وَأَضَلَّ فِرْعَوْنُ قَوْمَهُ وَما هَدى } [ طه: 79 ]

2 ـ { وَأَضَلَّهُمُ السّامِرِيُّ } [ طه: 85 ]

3 ـ { وَما أَضَلَّنا إِلاَّ الْمُجْرِمُونَ } [ الشعراء: 99 ]

4 ـ { رَبَّنا إِنّا أَطَعْنا سادَتَنا وَكُبَراءَنا فَأَضَلُّونَا السَّبِيلاَ } [ الأحزاب: 67 ]

5 ـ { وَدَّتْ طائِفَةٌ مِنْ أَهْلِ الْكِتابِ لَوْ يُضِلُّونَكُمْ وَما يُضِلُّونَ إِلاّ أَنْفُسَهُمْ وَما يَشْعُرُونَ } [ آل عمران: 69 ]

6 ـ { وَاللّهُ يُرِيدُ أَنْ يَتُوبَ عَلَيْكُمْ وَيُرِيدُ الَّذِينَ يَتَّبِعُونَ الشَّهَواتِ أَنْ تَمِيلُوا مَيْلاً عَظِيماً } [ النساء: 27 ]

7 ـ { وَيُرِيدُ الشَّيْطانُ أَنْ يُضِلَّهُمْ ضَلالاً بَعِيداً } [ النساء: 60 ]

8 ـ { وَلَقَدْ أَضَلَّ مِنْكُمْ جِبِلاًّ كَثِيراً} [ يس: 62 ]

9 ـ { كَالَّذِي اسْتَهْوَتْهُ الشَّياطِينُ فِي الأَرْضِ حَيْرانَ لَهُ أَصْحابٌ يَدْعُونَهُ إِلَى الْهُدَى ائْتِنا قُلْ إِنَّ هُدَى اللّهِ هُوَ الْهُدى } [ الأنعام: 71 ]

10 ـ { وَمِنَ النّاسِ مَنْ يُجادِلُ فِي اللّهِ بِغَيْرِ عِلْم وَيَتَّبِعُ كُلَّ شَيْطان مَرِيد * كُتِبَ عَلَيْهِ أَنَّهُ مَنْ تَوَلاّهُ فَأَنَّهُ يُضِلُّهُ وَيَهْدِيهِ إِلى عَذابِ السَّعِيرِ } [ الحجّ: 3 ـ 4 ]

أي: إنّ من يتّبع الشيطان فإنّه يضلّه ، أي: يغويه ويصوّر له الباطل بصورة الحقّ ، ويزيّن له الانحراف عن المنهج المستقيم، ويزيّنه له ويوصله إلى عذاب السعير عن طريق ما يوسوس له .

____________

1- انظر: كشف المراد ، العلاّمة الحلّي: المقصد الثالث ، الفصل الثالث ، المسألة التاسعة ، ص435 .

المنقذ من التقليد، سديد الدين الحمصي: ج1، القول في الهدى والضلال ، ص189 .


الصفحة 362

أدلة عدم صحة نسبة هذا المعنى من الإضلال إلى اللّه تعالى :

1 ـ إنّ هذا المعنى من الإضلال قبيح ، واللّه تعالى منزّه عن فعل القبيح(1) .

2 ـ إنّ اللّه تعالى ـ كما جاء في الآيات القرآنية التي ذكرت آنفاً ـ ذم إبليس وفرعون والسامري والمجرمين والطغاة على إضلالهم الناس ، فكيف يصح أن يكون مضلاًّ للعباد بهذا المعنى الذي ذمّ به هؤلاء ؟

3 ـ إنّ من يتصف تارة بالإضلال ويتصف تارة أُخرى بالهدى لا يمكن الوثوق بأمره ونهيه ، فتبطل بذلك الشرائع الإلهية، ولهذا ينبغي تنزيه اللّه تعالى عن الإضلال بمعنى الإغواء والتوجيه نحو الباطل .

4 ـ إنّ هذا المعنى من الإضلال يتنافى مع هداية اللّه التكوينية والتشريعية للعباد، لأنّ اللّه تعالى منح العباد العقول وأرسل إليهم الأنبياء وأنزل لهم الكتب السماوية، وكان غرضه تعالى من ذلك هداية العباد إلى الحقّ ، فكيف يصح أن يكون مغوياً لهم بعد ذلك وهو الذي أراد هدايتهم بإرادته التشريعية ؟

قال تعالى: { وَما كانَ اللّهُ لِيُضِلَّ قَوْماً بَعْدَ إِذْ هَداهُمْ حَتّى يُبَيِّنَ لَهُمْ ما يَتَّقُونَ }[ التوبة: 115 ]

5 ـ إنّ اللّه تعالى نسب الضلال إلى العبد في العديد من آيات كتابه العزيز ، وبيّن بأنّ العبد لا يضل (أي: لا يتّجه نحو الباطل) إلاّ نتيجة تمسّكه بأسباب الضلال وفعله الاختيارى لما يوجب وقوعه في الضلال .

ومن هذه الآيات القرآنية:

1 ـ { مَنِ اهْتَدى فَإِنَّما يَهْتَدِي لِنَفْسِهِ وَمَنْ ضَلَّ فَإِنَّما يَضِلُّ عَلَيْها }[ الإسراء: 15 ]

2 ـ { قُلْ إِنْ ضَلَلْتُ فَإِنَّما أَضِلُّ عَلى نَفْسِي } [ سبأ: 50 ]

3 ـ { وَمَنْ يَكْفُرْ بِاللّهِ وَمَلائِكَتِهِ وَكُتُبِهِ وَرُسُلِهِ وَالْيَوْمِ الآخِرِ فَقَدْ ضَلَّ ضَلالاً

____________

1- انظر: المصدر السابق: كشف المراد، ص436، المنقذ من التقليد: ص190 .


الصفحة 363

بَعِيداً }[ النساء: 136 ]

4 ـ { إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا وَصَدُّوا عَنْ سَبِيلِ اللّهِ قَدْ ضَلُّوا ضَلالاً بَعِيداً }[ النساء: 167 ]

5 ـ { وَمَنْ يُشْرِكْ بِاللّهِ فَقَدْ ضَلَّ ضَلالاً بَعِيداً } [ النساء: 116 ]

6 ـ { وَمَنْ يَفْعَلْهُ مِنْكُمْ فَقَدْ ضَلَّ سَواءَ السَّبِيلِ } [ الممتحنة: 1 ]

أي: ومن يتّخذ عدو اللّه ولياً فقد ضلَّ سواء السبيل .

المعنى الثاني للإضلال الذي لايصح نسبته إلى اللّه تعالى:إجبارالإنسان على الضلال:

وقد ناقشنا أدلة القول بالجبر والردّ عليها فيما سبق(1) .

النتيجة :

يجد المتأمّل في آيات القرآن الكريم الواردة حول الهداية والإضلال بأنّ هذه الآيات تنقسم إلى قسمين :

1 ـ آيات تبيّن بأنّ المشيئة الإلهية مطلقة في الهداية والإضلال ، وأنّه تعالى لا سلطان ولا نفوذ لأحد عليه ، وأنّه تعالى يهدي من يشاء ويضلّ من يشاء. كقوله تعالى: { فَإِنَّ اللّهَ يُضِلُّ مَنْ يَشاءُ وَيَهْدِي مَنْ يَشاءُ } [ فاطر: 8 ]

2 ـ آيات تبيّن بأنّ المشيئة الإلهية ـ التي لا سلطان لأحد عليها ـ مشيئة عادلة وأنّ هدايته تعالى وإضلاله لا تتمّ إلاّ حسب موازين تنسجم مع صفاته الكمالية ، وأنّه تعالى لا يضلّ إلاّ من استحق الضلال ، ولا يهدي أحداً بهدايته الخاصة إلاّ من استحق هذه الهداية .

وجه الجمع بين هذه الآيات :

لا يوجد أي تعارض بين هذين القسمين من الآيات ، ومنتهى القول :

____________

1- راجع: الفصل السابع، المبحث الرابع والخامس من هذا الكتاب .


الصفحة 364

تبيّن آيات القسم الأوّل بأنّ مشيئة اللّه تعالى مطلقة ولا سلطان لأحد عليها .

وتبيّن آيات القسم الثاني بأنّ مشيئة اللّه تعالى المطلقة مشيئة عادلة وحكيمة .

المنهج الصحيح لتفسير هذه الآيات:

إنّ المنهج الصحيح لتفسير الآيات القرآنية الواردة حول الهداية والإضلال هو التفسير الموضوعي الذي يتم عن طريقه النظر إلى مجموع النصوص القرآنية الواردة في هذا المجال، وربط الآيات بعضها ببعض، وجعل بعضها قرينة للاُخرى، والتنسيق بين معانيها من أجل التعرّف على مقصود القرآن الكريم.

وأما الاقتصار على بعض الآيات وإهمال البعض الآخر، فإنّه لا ينتج سوى الفهم الخاطئ والابتعاد عن العقيدة التوحيدية النقية.


الصفحة 365

الفصل الثالث عشر

الأجـل

معنى الأجل
   أقسام الأجل
   ما يزيد وينقص الأجل
   أجل المقتول لو لم يقتل


الصفحة 366

الصفحة 367

المبحث الأوّل

معنى الأجل

معنى الأجل (في اللغة) :

الأجل مدّة الشيء، وغاية الوقت في الموت(1) .

معنى الأجل اصطلاحاً :

أجل كلّ كائن حي هو الوقت الذي تنتهي فيه حياته الدنيوية(2) .

____________

ملاحظة: ذكرت مصادر هذا الفصل بصورة موجزة في ذيل كلّ صفحة، ويستطيع الراغب للتوسّع أن يجد هذه المصادر بصورة مفصّلة في نهاية الفصل الرابع عشر .

1- انظر: لسان العرب، ابن منظور: 1 / 79، مادة (أجل) .

2- انظر: التوحيد ، الشيخ الصدوق: 368، تجريد الاعتقاد، نصير الدين الطوسي: 208، المسلك في أصول الدين، المحقّق الحلّي: 111، كشف المراد ، العلاّمة الحلّي: 461، مناهج اليقين، العلاّمة الحلّي: 259 .


الصفحة 368

المبحث الثاني

أقسام الأجل(1)

1 ـ أجل محتوم :

وهو الأجل الذي يعلمه اللّه تعالى بالنسبة إلى كلّ كائن حي .

ولا يخفى بأنّ العلم الإلهي كاشف عن الواقع الخارجي ، وليس لهذا العلم أي أثر في الخارج ، وإنّما هو مجرّد انكشاف للأُمور والأحداث التي ستقع بأسبابها . وبما أنّ للإنسان ـ في بعض الأحيان ـ دوراً في تحديد أجله أو أجل الآخرين ، فإنّ الأجل المحتوم سيكون في هذه الحالة عبارة عن علمه تعالى بالأجل الذي يحدّده الإنسان لنفسه أو لغيره .

آيات قرآنية مشيرة إلى الأجل المحتوم :

{ وَلِكُلِّ أُمَّة أَجَلٌ فَإِذا جاءَ أَجَلُهُمْ لا يَسْتَأْخِرُونَ ساعَةً وَلا يَسْتَقْدِمُونَ }[ الأعراف: 34 ]

{ ما تَسْبِقُ مِنْ أُمَّة أَجَلَها وَما يَسْتَأخِرُونَ } [ الحجر: 5 ]

{ وَلَنْ يُؤَخِّرَ اللّهُ نَفْساً إِذا جاءَ أَجَلُها } [ المنافقون: 11 ]

{ إِنَّ أَجَلَ اللّهِ إِذا جاءَ لا يُؤَخَّرُ } [ نوح: 4 ]

____________

1- ورد هذا التقسيم في أحاديث أئمة أهل البيت(عليهم السلام)، وقد ورد عن الإمام جعفر بن محمّد الصادق(عليه السلام)أ نّه قال حول أقسام الآجال: " ... هما أجلان: أجل موقوف يصنع اللّه ما يشاء وأجل محتوم" .

بحار الأنوار ، العلاّمة المجلسي: ج5، كتاب العدل والمعاد، باب 4: الآجال، ح9، ص140 .


الصفحة 369

2 ـ أجل غير محتوم (أجل موقوف) :

وهو الأجل الذي يكون متوقّفاً على شرط أو فقدان مانع .

فإذا تحقّق الشرط وفُقد المانع، تمّت العلة ، فيتحقّق الأجل .

وإذا لم يتحقق الشرط ولم يفقد المانع ، لم تتمّ العلّة ، فلا يتحقّق الأجل .

تنبيه :

إنّ للأجل غير المحتوم قابلية للتقدّم والتأخّر، والزيادة والنقصان، ويستطيع الإنسان أن يغيّر أجله عن طريق التمسّك ببعض الأسباب التي سنشير إليها لاحقاً .

آية قرآنية مشيرة إلى الأجل غير المحتوم :

{ هُوَ الَّذِي خَلَقَكُمْ مِنْ طِين ثُمَّ قَضى أَجَلاً ... } [ الأنعام: 2 ]


الصفحة 370

المبحث الثالث

ما يزيد وينقص الأجل

يستطيع الإنسان ـ إلى حد ما ـ أن يزيد أو ينقص في عمره عن طريق التمسّك ببعض الأسباب التي أشارت إليها أحاديث أئمة أهل البيت(عليهم السلام)منها :

1 ـ رسول اللّه (صلى الله عليه وآله وسلم): "أكثر من الطهور يزيد اللّه في عمرك"(1) .

2 ـ الإمام الصادق(عليه السلام): "من حسنت نيّته زيد في عمره"(2) .

3 ـ الإمام الصادق(عليه السلام): "يعيش الناس بإحسانهم أكثر مما يعيشون بأعمارهم، ويموتون بذنوبهم أكثر مما يموتون بآجالهم"(3) .

4 ـ الإمام الصادق(عليه السلام): "إن أحببت أن يزيد اللّه في عمرك فسرّ أبويك"(4) .

5 ـ الإمام الكاظم(عليه السلام): "من حسن برّه بإخوانه وأهله مُدّ في عمره"(5) .

6 ـ الإمام علي(عليه السلام): "صلْ رحمك يزيد اللّه في عمرك"(6).

7 ـ رسول اللّه(صلى الله عليه وآله وسلم): "إنّ المرء ليصل رحمه ومابقي من عمره إلاّ ثلاث سنين، فيمدها اللّه إلى ثلاث وثلاثين سنة.

وإنّ المرء ليقطع رحمه وقد بقي من عمره ثلاث وثلاثون سنة، فيقصرها اللّه إلى ثلاث سنين

____________

1- وسائل الشيعة ، الحر العاملي: ج1 ، كتاب الطهارة، باب 11، باب استحباب الوضوء .. ، ح3، ص383 .

2- بحار الأنوار ، العلاّمة المجلسي: ج69، كتاب الإيمان والكفر، باب38، ح117، ص408 .

3- بحار الأنوار ، العلاّمة المجلسي: ج5، كتاب العدل والمعاد، باب 4: الآجال، ح7، ص140 .

4- الزهد، الحسين بن سعيد الكوفي: باب5: باب بر الوالدين، ح87 ، ص33 .

5- مستدرك الوسائل، ميرزا حسين النوري: ج12، كتاب الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر ، أبواب فعل المعروف، باب 32، ح2 [ 14498 ] ، ص421 .

6- الأمالي، الشيخ الصدوق: المجلس السابع والثلاثون، ح 308 / 9 ، ص278 .


الصفحة 371

أو أدنى"(1).

8 ـ الإمام علي(عليه السلام): "من أراد البقاء ولا بقاء، فليخفّف الرداء، وليباكر الغذاء، وليقلّ مجامعة النساء"(2).

____________

1- بحار الأنوار، العلاّمة المجلسي: ج5، كتاب العدل والمعاد، باب4: الآجال، ح12، ص141 .

2- وسائل الشيعة، الحر العاملي: ج24، كتاب الأطعمة والأشربة، باب 112، ح5 [ 30988 ]، ص433 .


الصفحة 372

المبحث الرابع

أجل المقتول لو لم يقتل

وأجل الميت بسبب لو لم يمت بذلك السبب

المسألة :

إنّ الذي يُقتل هل كان يعيش لو لم يقتل ؟

كما أنّ الذي يموت بسبب كزلزال أو حادث اصطدام أو ... هل كان يعيش لو لم يمت بذلك السبب ؟

الرأي الأوّل :

إنّ المقتول أو الميت بسبب كالزلزال أو الغرق أو ... تخرج روحه من جسده بأجله ، ولو لا القتل أو ذلك السبب لمات هذا الشخص لا محالة في نفس ذلك الوقت بصورة أُخرى أو بشكل طبيعي ، لأنّ أجله كان في ذلك الوقت فحسب(1).

يرد عليه :

1 ـ أننا نجد بعض الظلمة يقتلون جمعاً كثيراً من الناس في فترة زمنية قصيرة .

ونجد سفينة تغرق فيموت من كان فيها في عدّة دقائق .

ولكننا لم نجد بأ نّه تعالى أمات مثل هذا الجمع دفعة واحدة .

ومن هنا نستيقن بأنّ هؤلاء الذي قُتلوا أو ماتوا بسبب من الأسباب ليس من

____________

1- نسب هذا الرأي إلى أبي الهذيل العلاف والمجبرة وقوم من الحشوية .

انظر: شرح جمل العلم والعمل ، الشريف المرتضى: 244، المنقذ من التقليد، سديد الدين الحمصي: 1/356، كشف المراد، العلاّمة الحلّي: 461، مناهج اليقين، العلاّمة الحلّي: 259، إرشاد الطالبين ، مقداد السيوري: 291 .


الصفحة 373

الضرورة أن يفارقوا الحياة لولا القتل أو ذلك السبب(1) .

2 ـ لو كان المقتول يموت ـ لا محالة ـ لولا القتل في نفس وقت قتله ، لم يكن القاتل مسيئاً إلى المقتول ، ولتمكّن القاتل من الاحتجاج بأنّ الشخص المقتول إنّما مات بأجله، وأ نّه لو لم يقتله لمات هذا الشخص في نفس ذلك الوقت .

وهذا ما ينكره العقل بالبداهة، ويحكم العقل بوضوح بأ نّه ليس من الضرورة أن يموت المقتول لو لم يقتله القاتل(2) .

3 ـ لو كان المقتول يموت ـ لا محالة ـ لولا القتل في نفس وقت قتله ، لكان الشخص الذي يذبح شاة غيره من دون إذنه محسناً إليه ، لأ نّه لو لم يذبحها لماتت ، ولفات الانتفاع بلحمها ، ولكن العقل يحكم بأنّ هذا الذابح غير محسن، وأ نّه يستحق اللوم والتوبيخ والعقوبة .

ومن هنا نستيقن بأ نّنا لا يمكننا أن نقطع بموت الشاة لولا الذبح(3) .

4 ـ لو كان المقتول يموت ـ لا محالة ـ لو لا القتل في نفس وقت قتله ، لكان القصاص عبثاً، ولم يكن للقصاص أي دور في خروج روح المقتص منه، بل كان موت هذا الشخص حين القصاص بأجله ، فلا يكون في القصاص أي فائدة وهذا بخلاف قوله تعالى: { وَلَكُمْ فِي الْقِصاصِ حَياةٌ } [ البقرة: 179 ]

ومن هنا نستيقن بأنّ الذي لم يقتل عن طريق القصاص ، فإنّه ليس من الضرورة أن يموت لولا القصاص(4) .

____________

1- انظر: الاقتصاد، الشيخ الطوسي: 172، المسلك في أصول الدين، المحقّق الحلّي: 113، المنقذ من التقليد، سديد الدين الحمصي: 1/357، مناهج اليقين، العلاّمة الحلّي: 260 .

2- انظر: المنقذ من التقليد، سديد الدين الحمصي: 1/358 .

3- انظر: الذخيرة ، الشريف المرتضى: 264، الاقتصاد ، الشيخ الطوسي: 171، المسلك في أصول الدين، المحقّق الحلّي: 113، المنقذ من التقليد، سديد الدين الحمصي: 1 / 358، كشف المراد، العلاّمة الحلّي: 462، مناهج اليقين، العلاّمة الحلّي: 260، إرشاد الطالبين ، مقداد السيوري: 291 .

4- انظر: مناهج اليقين، العلاّمة الحلّي: 260 ، إرشاد الطالبين ، مقداد السيوري: 292 .


الصفحة 374

الرأي الثاني :

إنّ المقتول أو الميت بسبب كالزلزال أو الغرق أو ... تخرج روحه من جسده نتيجة القتل أو ذلك السبب ، ولولا القتل أو ذلك السبب لبقي هذا الشخص حيّاً لا محالة(1) .

يرد عليه :

لا يوجد أي دليل معتبر على لزوم بقاء هذا الشخص حيّاً لولا القتل أو الموت بسبب من الأسباب ، لأنّ خروج الروح من الجسد بيد اللّه تعالى ، ولا يمكن الحتم ببقاء حياة أي شخص في أي وقت .

ولهذا يحتمل لمن لم يقتل أو يمت بذلك السبب أن يقبض اللّه روحه في نفس ذلك الوقت(2) .

الرأي الثالث :

إنّ المقتول يحتمل أن يكون وقت قتله هو انتهاء أجله المقرّر أن يموت فيه ، ويحتمل أن لا يكون ذلك فيعيش لو لم يقتل ، وكذلك الحكم بالنسبة إلى من يموت بسبب من الأسباب ، وهذا الرأي هو الرأي الصحيح(3).

____________

1- نسب هذا الرأي إلى جماعة المعتزلة البغداديين .

انظر: المنقذ من التقليد، سديد الدين الحمصي: 1/356، كشف المراد، العلاّمة الحلّي: 461، مناهج اليقين، اليقين ، العلاّمة الحلّي: 259، إرشاد الطالبين، مقداد السيوري: 291 .

2- انظر: الاقتصاد ، الشيخ الطوسي: 172 .

3- انظر: التوحيد ، الشيخ الصدوق: 368، الذخيرة، الشريف المرتضى: 263، شرح جمل العلم والعمل ، الشريف المرتضى: 244، الاقتصاد ، الشيخ الطوسي: 171، المسلك في أصول الدين، المحقّق الحلّي: 112 ، المنقذ من التقليد، سديد الدين الحمصي: 1/356، كشف المراد ، العلاّمة الحلّي: 461 ـ 462، مناهج اليقين، العلاّمة الحلّي: 260، إرشاد الطالبين، مقداد السيوري: 292 .


الصفحة 375

الدليل :

إنّ هذه المسألة لا تخلو من ثلاثة آراء، وحيث ثبت بطلان الرأي الأوّل والثاني، ثبت صحّة هذا الرأي .


الصفحة 376

الصفحة 377

الفصل الرابع عشر

الرزق

معنى الرزق
   إطلاق وصف "الرازق" على اللّه تعالى وغيره
   الرزق والملك
   لا يصح تسمية الحرام برزق
   أقسام الرزق
   طلب الرزق
   الرزق والتوكّل
   الرزق والقسمة
   زيادة الرزق
   السعر


الصفحة 378

الصفحة 379

المبحث الأوّل

معنى الرزق

معنى الرزق ( باعتباره عنواناً للشيء الذي ينتفع به المرزوق ) :

إنّ الرزق عبارة عن "الشيء" الذي يصح(1) انتفاع الكائن الحي به، ولا يكون لأحد(2) أن يمنعه من هذا الانتفاع(3) .

معنى الرزق ( باعتباره مصدراً لفعل رزق يرزق ) :

إنّ الرزق عبارة عن "تمكين" الكائن الحي من الانتفاع بالشيء الذي يصح الانتفاع به، مع عدم التجويز لأحد أن يمنعه من هذا الانتفاع(4).

مثال :

إنّ معنى قولنا: رزقنا اللّه مالا، أي: وفّر اللّه تعالى لنا هذا المال ، ومكّننا من الانتفاع به ، ولم يجوّز لأحد أن يغصبه منّا .

____________

1- إنّ المقصود من "يصح" بالنسبة للعباد هي الصحة الشرعية، ولهذا لا يسمى الانتفاع بالحرام رزقاً، وسيأتي بيان ذلك لاحقاً .

2- إنّ المقصود من "لا يكون لأحد" ، أي: "لا يجوز شرعاً لأحد من العباد" لأن الإنسان قد يخالف الأوامر الإلهية ، فيعتدي على حقوق الآخرين ، ويأكل رزق غيره . وسنذكر المصادر المشيرة إلى هذا المعنى لاحقاً .

3- انظر: الذخيرة ، الشريف المرتضى: 267، شرح جمل العلم والعمل ، الشريف المرتضى: 245، الاقتصاد ، الشيخ الطوسي: 173، تجريد الاعتقاد ، نصير الدين الطوسي: 208، المنقذ من التقليد، سديد الدين الحمصي: 1/361، المسلك في أصول الدين، المحقّق الحلّي: 113، مناهج اليقين، العلاّمة الحلّي: 260 ، اللوامع الإلهية ، مقداد السيوري: 230، إرشاد الطالبين ، مقداد السيوري: 286 .

4- انظر: المنقذ من التقليد، سديد الدين الحمصي: 1/361، بحار الأنوار ، العلاّمة المجلسي: ج70، كتاب الإيمان والكفر، باب: 52 ، ذيل ح7، ص145 .


الصفحة 380

تنبيهان :

1 ـ لا يجوز للإنسان الانتفاع بشيء ـ وفق الموازين الشرعية ـ إلاّ في إحدى الحالتين التاليتين :

أوّلاً: أن يكون مالكاً لذلك الشيء، فيجوز له التصرّف بملكه والانتفاع منه.

ثانياً: أن تكون جهة أُخرى مالكة لذلك الشيء، ويكون الفرد مأذوناً في التصرّف ومتاحاً له الانتفاع بذلك الشيء من قبل المالك .

2 ـ إنّ الكائنات الحيّة قادرة على أكل رزق غيرها(1).

ولا يعني ذلك التغلّب على إرادة اللّه تعالى.

لأنّ معنى "رزق اللّه فلاناً": أ نّه تعالى هيّأ له فرصة الحصول على الرزق ، وأرشده إلى مصدر الرزق، ومكّنه من الانتفاع به .

ولا يعني "رزق اللّه فلاناً": أ نّه تعالى أجبره على أخذ الرزق ، وأجبر الآخرين على عدم منعه من الانتفاع بما رزقه تعالى .

ولهذا لا يكون أكل رزق الغير تغلّباً على إرادة اللّه تعالى ، وإنّما يكون ذلك بالنسبة للإنسان معصية فيما لو نهاه اللّه تعالى عن ذلك(2) .

____________

1- انظر: الذخيرة، الشريف المرتضى: 270، شرح جمل العلم والعمل ، الشريف المرتضى: 247، الاقتصاد ، الشيخ الطوسي: 175، غنية النزوع ، ابن زهرة الحلبي: 2/127، إرشاد الطالبين ، مقداد السيوري: 287 .

2- انظر: الذخيرة، الشريف المرتضى: 270، غنية النزوع، ابن زهرة الحلبي: 2/127 .


الصفحة 381

المبحث الثاني

إطلاق وصف "الرازق" على اللّه تعالى وغيره

يطلق وصف "الرازق" على كلّ من(1) :

1 ـ يفعل الرزق .

2 ـ يصبح سبباً لوقوع الرزق .

3 ـ يقوم بتمهيد السبيل وتوفير الأجواء لتحقّق الرزق .

ويطلق هذا الوصف على :

أوّلاً: اللّه سبحانه وتعالى .

ثانياً: غير اللّه عزّ وجلّ .

إطلاق وصف الرازق على اللّه تعالى :

إنّ اللّه تعالى هو الذي يرزق الإنسان والحيوان، بل جميع الكائنات الحيّة بمختلف الأرزاق .

ويطلق وصف الرازقية على اللّه تعالى وإن لم يكن هو السبب المباشر لتحقّق الرزق .

دليل ذلك(2) :

إنّ اللّه تعالى هو الذي :

____________

1- انظر: تقريب المعارف ، أبو الصلاح الحلبي: 140 .

2- انظر: الاقتصاد ، الشيخ الطوسي: 175 ـ 176، المنقذ من التقليد، سديد الدين الحمصي: 1/364، كشف المراد ، العلاّمة الحلّي: 463 .


الصفحة 382

1 ـ أوجد ما يصح أن تنتفع به هذه الموجودات .

2 ـ مكّن هذه الموجودات من الانتفاع .

3 ـ جعل الرغبة في هذه الموجودات لتنتفع به .

4 ـ أباح لهذه الموجودات الانتفاع مما يصح لها الانتفاع به .

إطلاق وصف الرازق على غير اللّه تعالى :

يصح أن إطلاق وصف "الرازق" على غير اللّه تعالى ، من قبيل إطلاقه على الإنسان(1).

دليل ذلك :

إنّ اللّه عزّ وجلّ منح الإنسان القدرة على أن يفعل الرزق أو يكون سبباً لتحقّقه ،وقد وصف اللّه تعالى الإنسان في محكم كتابه بهذا الوصف قائلا :

1 ـ { وَلا تُؤْتُوا السُّفَهاءَ أَمْوالَكُمُ الَّتِي جَعَلَ اللّهُ لَكُمْ قِياماً وَارْزُقُوهُمْ فِيها وَاكْسُوهُمْ وَقُولُوا لَهُمْ قَوْلاً مَعْرُوفاً } [ النساء: 5 ]

2 ـ { إِذا حَضَرَ الْقِسْمَةَ أُولُوا الْقُرْبى وَالْيَتامى وَالْمَساكِينُ فَارْزُقُوهُمْ مِنْهُ وَقُولُوا لَهُمْ قَوْلاً مَعْرُوفاً } [ النساء: 8 ]

فعبارة : { ارزقوهم } في هاتين الآيتين تدل على صحّة وصف الإنسان بأ نّه يرزق .

3 ـ { وَإِنَّ اللّهَ لَهُوَ خَيْرُ الرّازِقِينَ } [ الحجّ: 58 ]

4 ـ { وَهُوَ خَيْرُ الرّازِقِينَ } [ المؤمنون: 72 ]

فعبارة : { الرّازِقِينَ } تدل على صحة تسمية غير اللّه باسم الرازق ، فاللّه تعالى رازق وغيره أيضاً رازق ، ولكن اللّه تعالى خير الرازقين .

____________

1- الاقتصاد ، الشيخ الطوسي: 175، تقريب المعارف ، أبو الصلاح الحلبي: 140 .


الصفحة 383

اللّه تعالى هو الرازق على الإطلاق :

إذا وهب شخص لغيره مالا أو طعاماً، وأصبح رازقاً له ، فإنّ هذا الرزق ينسب أيضاً إلى اللّه تعالى ، لأ نّه تعالى ـ كما بيّنا ـ هو الموجد لهذا المال أو الطعام، وهو الممكّن من الانتفاع به، وهو الذي أعطى للواهب القدرة على إيصال النفع إلى ذلك الغير(1).

ومن هذا المنطلق ينسب الرزق بصورة مطلقة إلى اللّه تعالى ، ولهذا قال تعالى :

1 ـ { إِنَّ اللّهَ هُوَ الرَّزّاقُ } [ الذاريات: 58 ]

2 ـ { هَلْ مِنْ خالِق غَيْرُ اللّهِ يَرْزُقُكُمْ مِنَ السَّماءِ وَالأَرْضِ } [ فاطر: 3 ]

3 ـ { قُلْ مَنْ يَرْزُقُكُمْ مِنَ السَّماواتِ وَالأَرْضِ قُلِ اللّهُ } [ سبأ: 24 ]

4 ـ { وَما مِنْ دَابَّة فِي الأَرْضِ إِلاّ عَلَى اللّهِ رِزْقُها } [ هود: 6 ]

وورد عن الإمام جعفر بن محمّد الصادق(عليه السلام) حول قول اللّه تبارك وتعالى: { وَما يُؤْمِنُ أَكْثَرُهُمْ بِاللّهِ إِلاّ وَهُمْ مُشْرِكُونَ } [ يوسف: 106 ]

قال(عليه السلام): "هو قول الرجل :

لولا فلان لهلكت

ولولا فلان لما أصبت كذا وكذا

ولولا فلان لضاع عيالي .

ألا ترى أ نّه قد جعل للّه شريكاً في ملكه يرزقه ويدفع عنه"

فقال الراوي: فنقول: لو لا أنّ اللّه منّ عليّ بفلان لهلكت ؟

فقال(عليه السلام): "نعم، لا بأس بهذا ونحوه"(2).

____________

1- انظر: الذخيرة، الشريف المرتضى: 271، المنقذ من التقليد، سديد الدين الحمصي: 1/364 .

2- بحار الأنوار ، العلاّمة المجلسي: ج5، كتاب العدل والمعاد، باب: 5: الأرزاق والأسعار ، ح12، ص148 .


الصفحة 384

شروط صحة وصف الإنسان بالرازق :

يشترط في وصف الإنسان رازقاً أن يكون مختاراً في إيصاله النفع إلى غيره ، وأن لا يأخذ العوض إزاء ما يعطي .

ولهذا(1) :

1 ـ لا يقال للمورّث: إنّه رازق، لأنّ الإرث يتمّ انتقاله منه إلى الوارث من دون اختياره، ويكون ذلك بأمر اللّه تعالى ، فلا ينسب هذا الرزق إلاّ إلى اللّه تعالى .

2 ـ لا يقال للكافر: إنّه رازق فيما لو غنم المسلم منه غنيمة خلال الحرب ، لأنّ هذه الغنيمة خرجت من يد الكافر من دون اختياره ، وإنّما كانت بأمر اللّه تعالى ، ولهذا لا ينسب هذا الرزق إلاّ إلى اللّه تعالى .

3 ـ لا يقال للبائع: إنّه رازق، لأ نّه يأخذ أجرته من المشتري إزاء ما يبيع .

____________

1- انظر: الاقتصاد ، الشيخ الطوسي: 176 .


الصفحة 385

المبحث الثالث

الرزق والملك

إنّ الرزق بالنسبة للإنسان شيء عام لا يقتصر على الممتلكات فقط، بل يشمل الحياة والعلم والزوجة والولد والجاه و ...(1).

مثال :

يقال: رزق اللّه فلاناً علماً وزوجة وولداً وجاهاً و ...

النسبة بين الرزق والملك :

إنّ النسبة بين الرزق والملك هي نسبة العموم والخصوص من وجه .

معنى ذلك :

1 ـ بعض الرزق ملك.

2 ـ بعض الملك رزق.

3 ـ بعض الرزق ليس بملك.

4 ـ بعض الملك ليس برزق.

توضيح ذلك :

1 ـ بعض الرزق ملك .

2 ـ بعض الملك رزق .

مثالهما:

يقال: هذا الشخص مالك لهذا الشيء.

ويقال أيضاً: هذا الشخص رزقه اللّه تعالى هذا الشيء.

فهذا الشيء ملك ورزق لهذا الشخص في نفس الوقت.

3 ـ بعض الرزق ليس بملك.

____________

1- انظر: إرشاد الطالبين ، مقداد السيوري: 287 .


الصفحة 386

مثال :

المثال الأوّل: إنّ بعض الأشياء من قبيل العقل والعلم والصحة والزوجة والولد والجاه هي رزق للإنسان، ولكنها ليست ملكاً له(1).

فيقال: رزق اللّه هذا الشخص عقلاً وعلماً وصحّة وزوجة وولداً وجاهاً ولا يقال: إنّ العقل والعلم والصحة والزوجة والولد والجاه ملك.

المثال الثاني: إنّ النبات رزق للبهائم، ولكنه ليس ملكاً لها، لأنّ شرط التسمية بالملك أن يكون المالك عاقلاً أو من هو في حكم العقلاء كالطفل، ولهذا لا يصح نسبة الملكية إلى الحيوانات(2).

فيقال: إنّ البهيمة مرزوقة.

ولايقال: إنّ البهيمة مالكة.

4 ـ بعض الملك ليس برزق.

مثال:

إنّ الأشياء كلّها ملك للّه تعالى، وليست رزقاً له تعالى، لأنّ الرزق ما يصح الانتفاع به، واللّه تعالى غني، وهو منزّه عن الانتفاع(3).

____________

1- انظر: شرح جمل العلم والعمل، الشريف المرتضى: 246، إرشاد الطالبين، مقداد السيوري: 287.

2- انظر: غنية النزوع، ابن زهرة الحلبي: 126، كشف المراد، العلاّمة الحلّي: 463، إرشاد الطالبين، مقداد السيوري: 287.

3- انظر: شرح جمل العلم والعمل، الشريف المرتضى: 246، الاقتصاد، الشيخ الطوسي: 173، غنية النزوع، ابن زهرة الحلبي: 2/126.


الصفحة 387

المبحث الرابع

لا يصح تسمية الحرام برزق

أدلة عدم صحة تسمية الحرام برزق :

1 ـ إنّ اللّه تعالى أمرنا بالإنفاق مما رزقنا، فقال تعالى: { وَأَنْفِقُوا مِنْ ما رَزَقْناكُمْ } [ المنافقون: 10 ]، ولا خلاف بأنّ اللّه تعالى نهانا عن الإنفاق من الحرام . فهذا يثبت عدم صحّة تسمية الحرام برزق(1).

2 ـ إنّ اللّه تعالى مدح المؤمنين على إنفاقهم مما يرزقهم، فقال تعالى: { وَمِمّا رَزَقْناهُمْ يُنْفِقُونَ } [ البقرة: 3 ]، ولاخلاف بأنّ المنفق من الحرام لا يستحق المدح، بل يستحق الذم ـ وقد بيّنت الشريعة الإسلامية ذلك ـ وهذا ما يثبت عدم صحّة تسمية الحرام برزق(2).

3 ـ إنّ اللّه تعالى أباح الانتفاع بالرزق، فقال تعالى: { كُلُوا وَاشْرَبُوا مِنْ رِزْقِ اللّهِ } [ البقرة: 60 ]، فلو كان الحرام رزقاً، لدلّت هذه الآية على جواز الانتفاع بالأموال المحرّمة لكونها من الرزق، والواقع ليس كذلك.

وهذا ما يدل على عدم صحّة وصف الحرام بأنّه من رزق اللّه تعالى(3).

____________

1- انظر: الذخيرة، الشريف المرتضى: 270، الاقتصاد، الشيخ الطوسي: 175، غنية النزوع، ابن زهرة الحلبي: 2/127، المنقذ من التقليد، سديد الدين الحمصي 1/363، مناهج اليقين، العلاّمة الحلّي: 261، كشف المراد، العلاّمة الحلّي: 462، إرشاد الطالبين، مقداد السيوري: 287 .

2- انظر: تقريب المعارف، أبو الصلاح الحلبي: 139، الاقتصاد، الشيخ الطوسي: 175، إرشاد الطالبين، مقداد السيوري: 287 .

3- انظر: تقريب المعارف، أبو الصلاح الحلبي: 139، الاقتصاد، الشيخ الطوسي، 175.


الصفحة 388

رأي الأشاعرة حول تسمية الحرام برزق :

ذهب الأشاعرة إلى جواز تسمية الحرام برزق.

دليل ذلك :

إذا كان الرزق هو الحلال فقط، فسيكون لازمه:

إنّ الشخص الذي لم يأكل طول عمره إلاّ الحرام لم يرزقه اللّه تعالى أبداً.

وهذا باطل لقوله تعالى: { وَما مِنْ دَابَّة فِي الاَْرْضِ إِلاّ عَلَى اللّهِ رِزْقُها }[ هود: 6 ](1).

يرد عليه :

إنّ معنى "رزق اللّه فلاناً":

إنّ اللّه تعالى مكّن هذا الشخص من الانتفاع بما يصح الانتفاع به.

والذي لم يأكل طول عمره إلاّ الحرام، فإنّ اللّه تعالى قد رزقه، أي: مكّنه من الحلال، إلاّ أنّ هذا الشخص أعرض عما هيّأ اللّه تعالى له من حلال، ولم يأكل إلاّ الحرام(2).

____________

1- انظر: شرح المقاصد، سعدالدين التفتازاني: 4/319.

2- انظر: المصدر السابق، والمنقذ من التقليد، سديد الدين الحمصي: 1/363.


الصفحة 389

المبحث الخامس

أقسام الرزق

ينقسم الرزق إلى قسمين:

1 ـ رزق يتمّ الحصول عليه من دون طلب.

2 ـ رزق لا يتمّ الحصول عليه إلاّ بطلب.

من أحاديث أئمة أهل البيت(عليهم السلام) حول أقسام الرزق :

1 ـ قال الإمام علي(عليه السلام)، في وصيّته لمحمّد بن الحنفية: "يا بني، الرزق رزقان: رزق تطلبه ورزق يطلبك ..."(1).

2 ـ قال الإمام جعفر بن محمّد الصادق(عليه السلام): "الرزق مقسوم على ضربين:

أحدهما واصل إلى صاحبه وإن لم يطلبه.

والآخر معلّق بطلبه.

فالذي قسّم للعبد على كلّ حال، آتيه وإن لم يسع له.

والذي قسّم له بالسعي، فينبغي له أن يطلبه من وجوهه، وهو ما أحلّه اللّه له دون غيره، فإن طلبه من جهة الحرام فوجده، حُسب عليه برزقه وحوسب عليه"(2).

القسم الأوّل: الرزق الذي يحصل عليه الإنسان من دون طلب

إنّ هذا القسم من الرزق هو الرزق الذي شاء اللّه تعالى أن يتمكّن الإنسان من الحصول عليه بلا طلب.

____________

1- الفصول المهمة، الشيخ الحرّ العاملي: ج3، أبواب نوادر الكليات، باب 108 ، ح2 (3140) .

2- المصدر السابق: ح1 (3139).


الصفحة 390

ويشمل هذا الرزق :

1 ـ الهدية والهبة والميراث وغيرها من الأرزاق التي يحصل عليها الإنسان من دون طلب.

2 ـ الفرص الموجودة في متناول يد الإنسان للحصول على الرزق، لأنّ هذه الفرص لا تحتاج إلى طلب، بل هي مهيّأة، وليس للإنسان سوى اغتنام هذه الفرص من أجل الحصول على الرزق.

توضيح ذلك :

هيّأ اللّه تعالى للإنسان الكثير من فرص الحصول على الرزق، وتنقسم هذه الفرص إلى قسمين وهما:

1 ـ قد تكون هذه "الفرص" في متناول يد الإنسان بحيث لا يحتاج إلى طلبها والسعي من أجل تهيئتها والحصول عليها.

وهذا الرزق الموجود في هذه الفرص يسمّى برزق يطلبك.

وليس للإنسان ـ في هذه الحالة ـ إلاّ أن يغتنم هذه الفرص المهيّأةُ له من أجل الحصول على الرزق.

2 ـ قد تكون هذه "الفرص" بعيدة عن متناول يد الإنسان، بحيث يحتاج الإنسان إلى الطلب والسعي من أجل تهيئتها والحصول عليها.

وهذا الرزق الموجود في هذه الفرص يسمّى برزق تطلبه، وينبغي للإنسان فيما لو أراد الحصول على هذا الرزق أن يسعى لتوفير فرصة الحصول عليه.

الأوصاف الواردة عن أئمة أهل البيت(عليهم السلام)

حول الرزق الذي يتمّ الحصول عليه من دون طلب

1 ـ قال الإمام علي(عليه السلام): " ... ورزق يطلبك، فإن لم تأته أتاك فلا تحمل همّ سنتك على هم يومك، وكفاك كلّ يوم ما هو فيه"(1).

____________

1- الفصول المهمة، الشيخ الحرّ العاملي، ج3، أبواب نوادر الكليات، باب 108 ، ح2 (3140).


الصفحة 391

2 ـ قال الإمام جعفر بن محمّد الصادق(عليه السلام): " ...واصل إلى صاحبه وإن لم يطلبه...فالذي قسّم للعبد على كلّ حال آتيه وإن لم يسع له..."(1).

3 ـ قال الإمام علي(عليه السلام): " ... ورزق يطلبك ولن يسبقك إلى رزقك طالب، ولن يغلبك عليه غالب ولن يبطىء عنك ما قدّر لك"(2).

4 ـ قال رسول اللّه(صلى الله عليه وآله وسلم): "إنّ الرزق ليطلب الرجل كما يطلبه أجله"(3).

5 ـ قال الإمام جعفر بن محمّد الصادق(عليه السلام): " ... ولو أنّ أحدكم فرّ من رزقه كما يفرُّ من الموت لأدركه رزقه كما يدركه الموت"(4).

إنّ عبارة "يطلب الرجل" في الحديث السابق، وعبارة "لأدركه رزقه" تبيّنان بأنّ المقصود من الرزق في هذين الحديثين هو القسم الأوّل من الرزق الذي يطلب الإنسان ويتمّ الحصول عليه من دون سعي، وليس المقصود القسم الثاني من الرزق الذي لا يتمّ الحصول عليه إلاّ بطلب.

القسم الثاني: الرزق الذي لا يحصل عليه الإنسان إلاّ بطلب

إنّ هذا القسم من الرزق هو الرزق الذي جعل اللّه تعالى الطلب والسعي سبيلاً للحصول عليه.

القاعدة العامة :

إنّ النظام الإلهي العام في هذا العالم قائم على جعل الطلب والسعي شرطاً للحصول على الرزق . ولهذا فإنّ الخطوة الأولى المطلوبة للحصول على الرزق هي الطلب والسعي.

____________

1- المصدر السابق: ح1 (3139).

2- المصدر السابق: ج1، أبواب أصول الدين، باب 52: إنّ اللّه قسّم الأرزاق...، ح7 (294).

3- بحار الأنوار، العلاّمة المجلسي: ج77، كتاب الروضة، باب7، ص187.

4- المصدر السابق: ج78، كتاب الروضة، باب 23: مواعظ الصادق(عليه السلام) ح81 ، ص209.


الصفحة 392

تنبيه :

لا يخفى بأنّ هذا القانون يشمل الإنسان وجميع الكائنات الحيّة التي منحها اللّه تعالى القدرة على طلب الرزق.

ولا يشمل هذا القانون الكائنات الحيّة التي لم يمنحها اللّه تعالى القدرة على طلب الرزق من قبيل الأشجار والنباتات.

فالأشجار والنباتات يكون رزقها بيد اللّه تعالى، وهي ترزق حسب المشيئة الإلهية، ووفق نظام الأسباب الذي جعله اللّه تعالى في هذا الكون.


الصفحة 393

المبحث السادس

طلب الرزق

تنقسم الكائنات الحيّة بالنسبة إلى قدرتها وعدم قدرتها على طلب الرزق إلى(1):

1 ـ لا يمكنها الطلب: كالنباتات، فيكون رزقها بيد اللّه تعالى من خلال نظام الأسباب.

2 ـ يمكنها الطلب، ورزقها ينقسم إلى قسمين:

1 ـ لا يتوقّف الرزق على الطلب: كالهواء، فلا معنى للطلب.

2 ـ يتوقّف الرزق على الطلب، وهذا الرزق:

1 ـ يحصل بدون الطلب اتّفاقاً: من قبيل الهدية والهبة والميراث ونحوها، فلا معنى للطلب.

2 ـ لا يحصل بدون الطلب: وهذا هو محل البحث.

أحكام طلب الرزق :

إنّ طلب الرزق ليس له بذاته حُسن أو قُبح عقلي أو شرعي، ولكنّه يتبع في الحُسن والقُبح ما يترتب عليه.

فإن ترتب عليه عنوان حسن صار حسناً.

وإن ترتب عليه عنوان قبيح صار قبيحاً.

ومقتصى الأصل الأولي فيه: هو الإباحة عقلاً وشرعاً(2).

____________

1- انظر: صراط الحقّ ، محمّد آصف المحسني: 2/397.

2- انظر: إيضاح المراد، علي الرباني الكلبايكاني: 326.