الفصل العاشر
اللطف
معنى اللطف
أقسام اللطف
وجوب اللطف
أثر اللطف
تنبيهات حول اللطف
اللطف والمفسدة
الإشارة إلى اللطف الإلهي في القرآن الكريم
مناقشة رأي الأشاعرة حول اللطف الإلهي
المبحث الأوّل
معنى اللطف
معنى اللطف (في اللغة)(1)
إنّ للّطف في الصعيد اللغوي عدّة معاني، منها: الرفق واللين والدنو.
فيقال: لطف به، أي: رفق به.
وألطف اللّه بالعبد، أي: أرفق به، وأوصل إليه ما ينفعه برفق، ووفّقه وعصمه، فهو لطيف.
ومن معاني اللطف في اللغة أيضاً: الدقّة والظرافة، فهو ضدّ الضخامة والكثافة.
والاسم: اللطافة.
فيقال: لطف الشيء، أي: صغر ودقّ.
ولطف اللّه بهذا المعنى، أي: دقّته وظرافته في خلق الأشياء.
معنى اللطف (في الاصطلاح العقائدي):
اللطف: مايدعو المكلَّف إلى فعل الطاعة وترك المعصية بحيث يجعله أقرب إلى امتثال أوامر اللّه تعالى وأبعد عن ارتكاب نواهيه(2).
____________
1- انظر: أقرب الموارد، المصباح المنير، المعجم الوسيط، المنجد في اللغة: مادة (لطف). 2- انظر: الذخيرة، الشريف المرتضى: باب: الكلام في اللطف، ص186. الاقتصاد، الشيخ الطوسي: القسم الثاني، الفصل الرابع، ص130. المنقذ من التقليد، سديد الدين الحمصي: ج1، القول في اللطف و...، ص297. قواعد المرام، ميثم البحراني: القاعدة الخامسة، الركن الثالث، ص117. مناهج اليقين، العلاّمة الحلّي: المنهج السادس، البحث الخامس، ص253. كشف المراد، العلاّمة الحلّي: المقصد الثالث، الفصل الثالث، المسألة (12)، ص444. إرشاد الطالبين، مقداد السيوري: مباحث العدل، تحقيق حول قاعدة اللطف، ص276. اللوامع الالهية، مقداد السيوري: اللامع التاسع، المقصد الرابع، النوع الثاني، ص227.
الشرط الأساس في اللطف (بمعناه العقائدي)
إنّ الشرط الأساس في اللطف: أن لا يبلغ حدّ القهر والإلجاء، بل يكون المكلَّف مع وجود هذا اللطف مختاراً في فعل الطاعة وترك المعصية(1)(2).
دليل ذلك :
إنّ "الاختيار" هو الشرط الأساس للتكليف، وبما أنّ بلوغ اللطف حدّ القهر والإلجاء ينافي الاختيار، فلهذا يشترط أن لا يبلغ اللطف حدّاً ينافي الاختيار(3).
تنبيه :
إنّ الهدف الأساس من اللطف هو:
1 ـ تقوية الدواعي إلى فعل الخير.
2 ـ تقوية الصوارف عن فعل الشر.
ولهذا يكون اللطف بمثابة :
1 ـ التشجيع على فعل الخير، وإزاحة العقبات أمام الإنسان، ليكون أقرب إلى فعل الطاعة.
2 ـ التنفير من فعل الشر، وجعل العقبات أمام الإنسان، ليكون أبعد عن فعل المعصية.
____________
1- انظر: كتب المنقذ من التقليد، قواعد المرام، مناهج اليقين، إرشاد الطالبين واللوامع الإلهية المذكورة في المصدر السابق. 2- يخرج بهذا القيد "القدرة" و"الآلات" المطلوبة لأداء التكليف. لأنّ المكلَّف لا يستطيع أداء التكليف من دون "القدرة" و"الآلات"، ولكنه يستطيع أداء التكليف من دون "اللطف". ويعود السبب إلى أنّ "اللطف" مجرّد "تحفيز" و"بعث" وليس له أي أثر في الصعيد الخارجي. انظر: مناهج اليقين، العلاّمة الحلّي: المنهج السادس، المبحث الخامس، ص252. إرشاد الطالبين، مقداد السيوري، مباحث العدل، تحقيق حول قاعدة اللطف، ص277. 3- انظر: كشف المراد، العلاّمة الحلّي: المقصد الثالث، الفصل الثالث، المسألة (12)، ص444. إرشاد الطالبين، مقداد السيوري: مباحث العدل، تحقيق حول قاعدة اللطف، ص277.
الصلة بين "اللطف" وبين "التوفيق" و"العصمة"(1) :
إنّ اللطف هو ما يبعث ويحفّز المكلَّف على فعل الطاعة ويزجره عن فعل المعصية: وفي هذه الحالة:
1 ـ إذا استجاب الإنسان لهذا البعث والتحفيز، واختار فعل الطاعة:
فسيطلق على هذا "اللطف" اسم "التوفيق".
لأنّ الإنسان استطاع في ظلّ هذا اللطف أن ينال التوفيق في فعل الطاعة.
2 ـ إذا استجاب الإنسان لهذا البعث والتحفيز، وترك فعل المعصية:
فسيطلق على هذا "اللطف" اسم "العصمة".
لأنّ الإنسان استطاع في ظلّ هذا اللطف أن يعصم نفسه من فعل المعصية.
توضيح ذلك :
1 ـ يُقال: "وفّق اللّه فلاناً على فعل الطاعة".
أي: هيّأ اللّه له ما يبعثه ويحفّزه على فعل الطاعة، فاستجاب هذا الشخص باختياره لهذا البعث والتحفيز، وانتفع مما هيّأ اللّه تعالى له من أسباب، حتّى تمكّن بذلك أن يكون فعله موافقاً لطاعة اللّه تعالى.
2 ـ يقال: "عصم اللّه فلاناً من فعل المعصية".
أي: هيّأ اللّه له ما يبعثه ويحفّزه على ترك المعصية، فاستجاب هذا الشخص باختياره لهذا البعث والتحفيز، وانتفع مما هيّأ اللّه تعالى له من أسباب، حتّى تمكّن بذلك أن يعصم نفسه ويمنعها من فعل المعصية.
____________
1- انظر: الذخيرة، الشريف المرتضى: باب الكلام في اللطف، ص186 . المنقذ من التقليد، سديد الدين الحمصي: ج1، القول في اللطف و...، ص306 . إرشاد الطالبين ،العلاّمة الحلّي: مباحث العدل ، تحقيق حول قاعدة اللطف، ص277 .
المبحث الثاني
أقسام اللطف
ينقسم اللطف باعتبار فاعله إلى(1):
1 ـ ما يكون من فعل اللّه تعالى.
2 ـ ما يكون من فعل المكلَّف في حقّ نفسه.
3 ـ ما يكون من فعل المكلَّف في حقّ غيره.
أمثلة ذلك:
أولاً: أمثلة اللطف الذي يكون من فعل اللّه تعالى:
1 ـ بعث الأنبياء ونصب الحجج ودعمهم بالمعاجز والكرامات وغيرها مما تجعل المكلَّفين أقرب إلى فعل الطاعة وأبعد عن فعل المعصية.
2 ـ جعل الشريعة سمحاء بعيدة عن التعقيد أو الغموض.
3 ـ الوعد والوعيد واستخدام اسلوب الترغيب والترهيب من أجل إثارة رغبة المكلَّف إلى فعل الطاعة وإثارة الرهبة إزاء فعل المعصية.
4 ـ التدخّل الإلهي لإزالة العوائق والحواجز الموجودة في طريق الطاعة وجعل الموانع في طريق المعصية.
____________
1- انظر: الاقتصاد، الشيخ الطوسي: القسم الثاني، الفصل الرابع، ص132. المنقذ من التقليد، سديدالدين الحمصي: ج1، القول في اللطف و...، ص304. قواعد المرام، ميثم البحراني: القاعدة الخامسة، الركن الثالث، ص118. كشف المراد، العلاّمة الحلّي: المقصد الثالث، الفصل الثالث، المسألة (12)، ص445. مناهج اليقين، العلاّمة الحلّي: المنهج السادس، البحث الخامس، ص254. إرشاد الطالبين، مقداد السيوري: مباحث العدل، تحقيق حول قاعدة اللطف، ص276. اللوامع الالهية، مقداد السيوري: اللامع التاسع، المقصد الرابع، النوع الثاني، ص227.
5 ـ الآلام التي جعلها اللّه تعالى في بعض الأحيان وسيلة لاستيقاظ الغافلين وعودتهم إلى الإيمان بعد الابتعاد عنه.
الثاني: أمثلة اللطف الذي يكون من فعل المكلَّف في حقّ نفسه:
1 ـ تعلّم الأحكام الشرعية وغيرها من الأمور التي يبيّنها اللّه تعالى للمكلَّفين، ليكونوا أقرب إلى امتثال أوامره والانتهاء عن نواهيه.
2 ـ توفير الإنسان لنفسه الأرضية والأجواء المناسبة التي تحفّزه على فعل الطاعة وترك المعصية.
الثالث: أمثلة اللطف الذي يكون من فعل المكلَّف في حقّ غيره:
1 ـ تبليغ الأنبياء للرسالة الإلهية، وبذلهم المزيد من الجهد من أجل دعوة الناس إلى الهداية وسبيل الحقّ.
2 ـ قيام بعض الناس بمهمّة تلقّي العلوم والمعارف الإلهية من أجل توعية الناس ورفع مستواهم الديني، وهذه المهمّة هي الملقاة على عاتق العلماء والدعاة.
3 ـ فريضة الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر التي أوجبها اللّه تعالى على جميع المكلَّفين، ليكونوا في ظلّها أقرب إلى فعل الطاعة وأبعد عن فعل المعصية.
4 ـ المبادرة إلى أي عمل يؤدّي إلى توفير الأجواء المناسبة لامتثال الأوامر الإلهية والابتعاد عن نواهيه، من قبيل: بناء الأماكن التي تقرّب العباد إلى اللّه تعالى ، أو دعم المشاريع التي تهيّىء الأرضية لفعل الطاعات وترك المعاصي.
المبحث الثالث
وجوب اللطف
إنّ حكمة اللّه تعالى وجوده وكرمه تقتضي منه اللطف بالعباد.
دليل وجوب اللطف :
إنّ غرض اللّه تعالى من تكليف العباد هو أن يبلغوا الكمال عن طريق فعل الطاعة وترك المعصية.
فإذا كان هناك شيء يؤدّي فعله إلى:
1 ـ أن يختار المكلَّف فعل الطاعة ويترك فعل المعصية.
2 ـ أن يكون المكلَّف أقرب إلى فعل الطاعة وأبعد عن فعل المعصية.
فإنّ الحكمة الإلهية تقتضي فعل ذلك الشيء.
لأنّ عدم فعله يستلزم نقض الغرض من تكليف العباد.
ونقض الغرض قبيح ومناف للحكمة.
واللّه تعالى منزّه عن ذلك.
فنستنتج بأنّ الحكمة الإلهية تقتضي فعل اللطف(1).
____________
1- انظر: الذخيرة، الشريف المرتضى: باب الكلام في اللطف، ص194. شرح جمل العلم والعمل، الشريف المرتضى: حقيقة اللطف ووجوبه، ص107. المسلك في أصول الدين، المحقّق الحلّي: النظر الثاني، البحث الرابع، المطلب الأوّل، ص102. قواعد المرام، ميثم البحراني: القاعدة الخامسة، الركن الثالث، ص118. كشف المراد، العلاّمة الحلّي: المقصد الثالث، الفصل الثالث، المسألة (12)، ص444. مناهج اليقين، العلاّمة الحلّي: المنهج السادس، البحث الخامس، ص253. إرشاد الطالبين، مقداد السيوري: مباحث العدل، تحقيق حول قاعدة اللطف، ص276 ـ 288. اللوامع الالهية، مقداد السيوري: اللامع التاسع، المقصد الرابع، النوع الثاني، ص227.
مثال ذلك:
إذا دعا أحد الأشخاص غيره إلى ضيافته.
وكان غرض صاحب الدعوة أن يأتي ذلك الشخص المدعو إلى هذه الضيافة.
وعلم صاحب الدعوة بأنّ المدعو لا يأتيه إلاّ إذا استعمل معه أسلوباً معيّناً .
فإذا لم يستعمل صاحب الدعوة هذا الأسلوب مع المدعو.
فإنّه سيكون ناقضاً لغرضه(1).
تنبيه :
ذهب الشيخ المفيد إلى أنّ وجوب اللطف على اللّه تعالى يكون من جهة اقتضاء جوده وكرمه.
وليس هذا الوجوب من جهة اقتضاء عدله تعالى.
ولهذا فإنّ امتناع اللّه تعالى عن اللطف لا يكون ظلماً.
وإنّما يكون منافياً للجود والكرم الإلهي(2).
____________
1- انظر: قواعد المرام، ميثم البحراني: القاعدة الخامسة، الركن الثالث، ص118 . كشف المراد، العلاّمة الحلّي: المقصد الثالث، الفصل الثالث، المسألة (12)، ص445 . اللوامع الالهية، مقداد السيوري: اللامع التاسع، المقصد الرابع، النوع الثاني، ص227. 2- انظر: أوائل المقالات، الشيخ المفيد: القول: 28، القول في اللطف والأصلح، ص59 .
المبحث الرابع
أثر اللطف
ليس اللطف الإلهي علّة تامّة تجبر المكلَّفين على فعل الطاعة وترك المعصية.
بل اللطف عبارة عن "بعث" و"تحفيز" فقط.
فإذا لم يستجب بعض المكلّفين لهذا اللطف.
فإنّهم سيحرمون أنفسهم من هذا اللطف نتيجةً لسوء اختيارهم(1).
تفريعات ذلك :
أولاً: إنّ عدم تأثير اللطف الإلهي على الكافر لا يعني:
"عدم وجود هذا اللطف بذريعة أنّه لو كان لترك أثره"
لأنّ اللطف الإلهي مجرّد "بعث" و"تحفيز" منه تعالى بحيث يجعل المكلَّف أقرب إلى فعل الطاعة وأبعد عن فعل المعصية.
وليس اللطف الإلهي إرادة حتمية منه تعالى ليترك أثره على المكلّف بصورة قهرية.
ثانياً: إنّ عدم تأثير اللطف الإلهي على الكافر لا يعني:
"عجز اللّه عن هداية الكافر".
لأ نّه تعالى شاء أن يكون الإنسان مختاراً في أفعاله العبادية.
واللطف الإلهي ـ في الواقع ـ مجرّد "بعث" و"تحفيز" منه تعالى بحيث يكون
____________
1- انظر: مناهج اليقين، العلاّمة الحلّي: المنهج السادس، المبحث الخامس، ص254. كشف المراد، العلاّمة الحلّي: المقصد الثالث، الفصل الثالث، المسألة (12)، ص446.
الإنسان معه أقرب إلى امتثال أوامر اللّه تعالى والانتهاء عن نواهيه.
وليس اللطف الإلهي إرادة حتمية وتكوينية منه تعالى ليكون عدم تأثيره دالاً على العجز الإلهي.
ثالثاً: لو كان اللطف الإلهي أمراً يجبر الإنسان على الإيمان ولو كان كافراً، فإنّ الكفّار سيحتجّون على اللّه تعالى بأنّهم لم يؤمنوا لأنّه تعالى حرمهم من لطفه.
ويكون بذلك للكفّار حجّة على اللّه تعالى.
ولكن الأمر ليس كذلك، وإنّما الحجّة البالغة للّه تعالى.
واللطف عبارة عن "باعث" و"محفّز" فقط.
ويبقى الإنسان هو المسؤول عن أفعاله الاختيارية(1).
____________
1- انظر: مجمع البيان، الشيخ الطبرسي: ج3، تفسير آية 165 من سورة النساء ص218.
المبحث الخامس
تنبيهات حول اللطف
1 ـ إنّ الإنسان قد يخطىء في تشخيص اللطف، فيحكم على ما فيه مفسدة بأنّه من اللطف، وهو غير ملتفت إلى وجود المفسدة فيه.
ولهذا ينبغي أن لا يحكم الإنسان على شيء بأ نّه من اللطف إلاّ بعد بلوغ مرحلة اليقين بانتفاء المفسدة من ذلك الشيء(1).
2 ـ إنّ اللطف لا ينحصر تحقّقه دائماً في فعل معيّن، بل قد تكون مجموعة أفعال تؤدّي كلّ واحدة منها دور اللطف المطلوب(2).
3 ـ إنّ للّه تعالى لطفاً لا يمنحه إلاّ لمن ينتفع منه.
وأمّا الّذين لا ينفعهم هذا النمط من اللطف، ولا يؤدّي بهم إلى فعل الطاعة وترك المعصية، فإنّه تعالى سيحرمهم من هذا اللطف(3).
بعبارة أخرى:
إنّ اللطف الإلهي ينقسم إلى قسمين:
أوّلاً: لطف عام
____________
1- انظر: كشف المراد، العلاّمة الحلّي: المقصد الثالث، الفصل الثالث، المسألة (12)، ص445. مناهج اليقين، العلاّمة الحلّي: المنهج السادس، البحث الخامس، ص253. 2- انظر: الاقتصاد، الشيخ الطوسي: القسم الثاني، الفصل الرابع، ص133. 3- ذهب المحقّق الحلّي والشيخ سديد الدين الحمصي إلى حرمان الكافر من اللطف بصورة مطلقة، ولكن التقسيم المذكور لاحقاً أكثر دقّة وشمولية . انظر: المسلك في أصول الدين، المحقّق الحلّي: النظر الثاني، البحث الرابع، المطلب الأوّل، ص102. المنقذ من التقليد، سديد الدين الحمصي: ج1، القول في اللطف و...، ص303.
وهو من قبيل إرسال الرسل لهداية الناس.
وهذا اللطف يفعله اللّه لجميع المكلّفين إتماماً للحجّة عليهم.
ثانياً: لطف خاص
وهو من قبيل دعم المكلَّفين بما يجعلهم أقرب إلى فعل الطاعة وأبعد عن فعل المعصية.
ويكون هذا اللطف للعباد الذين ينتفعون منه، وأمّا الذين لا ينتفعون منه فإنّهم هم الذين يحرمون أنفسهم من هذا اللطف، لأ نّه تعالى لو يعلم انتفاعهم من لطفه هذا لفعله بهم .
قال تعالى: { وَلَوْ عَلِمَ اللّهُ فِيهِمْ خَيْراً لاََسْمَعَهُمْ وَلَوْ أَسْمَعَهُمْ لَتَوَلَّوْا وَهُمْ مُعْرِضُونَ } [ الأنفال: 23 ].
أي: لو علم اللّه انتفاع هؤلاء المشركين من اللطف، لألطف عليهم وأسمعهم الجواب عن كلّ ما يسألونه، ولكنه علم بأنّهم لا ينتفعون ولا يفيدهم هذا اللطف، فلهذا أهملهم.
وقال الشيخ الطبرسي حول تفسير هذه الآية: "وفي هذا دلالة على أنّ اللّه تعالى لا يمنع أحداً من المكلّفين اللطف، وإنّما لا يلطف لمن يعلم أنّه لا ينتفع به"(1).
ورد عن الإمام علي بن موسى الرضا(عليه السلام) حول قوله تعالى: { تَرَكَهُمْ فِي ظُلُمات لا يُبْصِرُونَ } [ البقرة: 17 ].
قال(عليه السلام): "إنّ اللّه تبارك وتعالى لا يوصف بالترك كما يوصف خلقه، ولكنه متى علم أنّهم لا يرجعون عن الكفر والضلال، منعهم المعاونة واللطف وخلّى بينهم وبين اختيارهم"(2).
____________
1- مجمع البيان، الشيخ الطبرسي: ج4، تفسير آية 23 من سورة الأنفال، ص 818 . 2- عيون أخبار الرضا، الشيخ الصدوق: ج1، باب 11، ح16، ص113.
المبحث السادس
اللطف والمفسدة
إنّ ما يقابل "اللطف" هو "الإفساد".
وتطلق "المفسدة" على مايدعو المكلَّف إلى فعل المعصية وترك الطاعة، بحيث يكون المكلَّف مع هذه الدعوة أقرب إلى فعل ما نهاه اللّه تعالى عنه، وأبعد عن امتثال أوامره تعالى(1).
تنبيهات :
1 ـ لا يصح أبداً نسبة الإفساد إلى اللّه تعالى.
لأنّ الإفساد في جميع الأحوال قبيح، واللّه تعالى منزّه عن فعل القبيح.
2 ـ لا يمكن القول بأنّ اللّه تعالى بما أنّه خلق "الشهوة" في الإنسان، فإنّه المسبِّب في إفساده .
لأنّ الشهوة بحدّ ذاتها ليست مفسدة.
وإنّما الإفساد يكمن في طغيانها(2).
وطغيان الشهوة أمر يرتبط باختيار الإنسان.
وقد أمر اللّه تعالى الإنسان بضبط شهواته والسيطرة على زمامها.
ولهذا لو أدّت الشهوة إلى الإفساد بسبب طغيانها.
____________
1- انظر: الاقتصاد، الشيخ الطوسي: القسم الثاني، الفصل الرابع، ص130. المسلك في أصول الدين، المحقّق الحلّي: النظر الثاني، البحث الرابع، المطلب الأوّل، ص101. المنقذ من التقليد، سديد الدين الحمصي: ج1، القول في اللطف و...، ص298. 2- بعبارة أخرى: إنّ الشهوة بذاتها أمر ضروري للإنسان، وهي التي تدفع الإنسان إلى نيل متطلّباته في الحياة . ولا تعتبر الشهوة مصدراً للإفساد إلاّ بعد أن يطلق الإنسان العنان لها ويفسح لها مجال الطغيان وتجاوز الحدّ .
فإنّ الإنسان يكون هو المسؤول عن ذلك، لأنّه هو السبب في طغيانها.
ولا يصح نسبة هذا الإفساد إلى اللّه سبحانه وتعالى.
3 ـ إنّ بعض المكلّفين ـ سواء كانوا من الجن والإنس ـ يسيؤون الاستفادة من الاختيار الذي مكّنهم اللّه تعالى منه، فيختارون سبيل الغي والضلال، ثمّ يصبحون بعد ذلك مصدراً لإفساد الآخرين.
ومثال ذلك: إبليس والشياطين وغيرهم من الإنس والّذين يفعلون ما يقرّب الآخرين إلى فعل المعاصي ويبعّدهم عن فعل الطاعات.
وينسب "الإفساد" في هذا المقام إلى هؤلاء العصاة، لأنّهم اتجهوا نحوه باختيارهم.
ولا يصح نسبة هذا الإفساد إلى اللّه تعالى.
لأنّه تعالى أمر الإنس والجن بفعل ما هو حسن، ونهاهم عن فعل ما هو قبيح، ويكون هؤلاء هم المسؤولون فيما لو اختاروا سبيل الإفساد.
فينسب الإفساد إليهم ولا ينسب إلى اللّه تعالى أبداً.
4 ـ إنّ اللّه تعالى لا يفعل الإفساد أبداً، لأنّه حكيم، ولكنّه قد يحجب ألطافه عن البعض لدواع مختلفة من قبيل معاقبتهم إزاء ارتكابهم المعاصي أو نتيجة علمه تعالى بعدم انتفاعهم من اللطف فيما لو منحهم ذلك(1).
ومن هذا القبيل قوله تعالى:
{ سَأَصْرِفُ عَنْ آياتِيَ الَّذِينَ يَتَكَبَّرُونَ فِي الاَْرْضِ بِغَيْرِ الْحَقِّ وَإِنْ يَرَوْا كُلَّ آيَة لايُؤْمِنُوا بِها وَ إِنْ يَرَوْا سَبِيلَ الرُّشْدِ لايَتَّخِذُوهُ سَبِيلاً وَ إِنْ يَرَوْا سَبِيلَ الغَيِّ يَتَّخِذُوهُ سَبِيلاً ذلِكَ بِأَنَّهُمْ كَذَّبُوا بِآياتِنا وَكانُوا عَنْها غافِلِينَ } [ الأعراف: 146 ]
{ وَلَوْ عَلِمَ اللّهُ فِيهِمْ خَيْراً لأَسْمَعَهُمْ وَلَوْ أَسْمَعَهُمْ لَتَوَلَّوْا وَهُمْ مُعْرِضُونَ }(2)
____________
1- سنبيّن هذا الموضوع بصورة مفصّلة في الفصل الثاني عشر: الهداية والإضلال . 2- ورد بيان معنى هذه الآية في المبحث السابق.
[ الأنفال: 23 ].
المبحث السابع
الإشارة إلى اللطف الإلهي في القرآن الكريم
1 ـ { وَلَوْلا فَضْلُ اللّهِ عَلَيْكُمْ وَرَحْمَتُهُ ما زَكى مِنْكُمْ مِنْ أَحَد أَبَداً } [ النور: 21 ].
أي: لولا ألطاف اللّه بكم ومعونته لكم، لكنتم أقرب إلى المفسدة، ولكنه تعالى قد ألطف بكم وأعانكم من منطلق رحمته بحيث جعلكم أقرب إلى تزكية أنفسكم(1).
2 - { وَلَوْلا فَضْلُ اللّهِ عَلَيْكُمْ وَرَحْمَتُهُ لاَتَّبَعْتُمُ الشَّيْطانَ إِلاّ قَلِيلاً } [ النساء:83 ].
أي: لولا الألطاف الإلهية بكم ورحمته لاتّبعتم الشيطان إلاّ قليلاً(2).
3 ـ { وَلَوْ رَحِمْناهُمْ وَكَشَفْنا ما بِهِمْ مِنْ ضُرّ لَلَجُّوا فِي طُغْيانِهِمْ يَعْمَهُونَ }[ المؤمنون: 75 ].
أي: إنّنا لو كشفنا الضرّ عنهم لاستمروا في طغيانهم يتردّدون، وهذا ما فيه فساد لهم، ولهذا فإنّنا نلطف بهم ولا نرفع هذا الضرّ عنهم(3).
4 ـ { وَلَوْلا أَنْ يَكُونَ النّاسُ أُمَّةً واحِدَةً لَجَعَلْنا لِمَنْ يَكْفُرُ بِالرَّحْمنِ لِبُيُوتِهِمْ سُقُفاً مِنْ فِضَّة وَمَعارِجَ عَلَيْها يَظْهَرُونَ * وَلِبُيُوتِهِمْ أَبْواباً وَسُرُراً عَلَيْها يَتَّكِؤُنَ }[ الزخرف: 33 ـ 34 ].
أي: لو فعل اللّه ما ذكره لاجتمع الناس على الكفر، ولكنّه تعالى لم يفعل ذلك لما
____________
1- انظر: مجمع البيان، الشيخ الطبرسي: ج7، تفسير آية 21 من سورة النور، ص210 . 2- انظر: المصدر السابق: ج3، تفسير آية 83 من سورة النساء، ص126 . 3- انظر: المصدر السابق: ج7، تفسير آية 75 من سورة المؤمنين، ص181 .
فيه من المفسدة، بل يفعل اللّه ما فيه اللطف للعباد حفاظاً عليهم من الانجراف في أودية الكفر والضلال(1).
____________
1- انظر: مجمع البيان، الشيخ الطوسي: ج9 ، تفسير آية 43 و 44 من سورة الزخرف، ص72 .
المبحث الثامن
مناقشة رأي الأشاعرة حول اللطف الإلهي
يعتقد الأشاعرة بأنّ اللّه تعالى هو الذي يخلق أفعال العباد سواء كانت هذه الأفعال طاعة أو معصية، ويذهب هؤلاء إلى "أنّ أفعال العباد الاختيارية واقعة بقدرة اللّه تعالى وحده"(1).
ومن هذا المنطلق عرّف الأشاعرة اللطف بأنّه عبارة عن عدم خلق اللّه قدرة فعل المعصية في العبد.
ومن هنا لا يعصي الشخص الذي يشمله اللطف الإلهي "إذ لا قدرة له على المعصية"(2).
وعرّف بعض الأشاعرة اللطف بأنّه يعني: أن لا يخلق اللّه تعالى الذنب في العبد(3).
يرد عليه :
يستلزم هذا الرأي القول بالجبر، لأنّ من لا يمتلك القدرة على فعل المعصية يكون مجبوراً على عدم فعلها.
ويترتّب عليه عدم استحقاق الإنسان الثواب بتركه للمعصية، لأنّه كيف يستحق الثواب على تركه للمعصية وهو لا يمتلك القدرة على فعلها. وإنّما يكون الثواب لمن يمتلك القدرة على فعل المعصية، ولكنّه يتركها باختياره، فيكون مستحقاً للثواب
____________
1- المواقف، عضدالدين الايجي، ج3، الموقف 5، المرصد 6، المقصد 1، ص208 . 2- شرح المقاصد، سعدالدين التفتازاني: ج4، المقصد 5، الفصل 6 ، المبحث 2، ص312 ـ 313 . 3- انظر: المصدر السابق.
إزاء هذا الاختيار(1) .
____________
1- للمزيد راجع في هذا الكتاب: الفصل السابع: الجبر والتفويض .
الفصل الحادي عشر
الأصلح
معنى الأصلح
وجوب فعل الأصلح
الأصلح في خلق العالم
المبحث الأوّل
معنى الأصلح
معنى الأصلح (في اللغة) :
الأصلح عبارة عن أفعل تفضيل "الصلاح".
والصلاح ضدّ الفساد.
قال تعالى: { وَلا تُفْسِدُوا فِي الاَْرْضِ بَعْدَ إِصْلاحِها } [ الأعراف: 85 ].
والمصلحة: "ما يتعاطاه الإنسان من الأعمال الباعثة على نفعه أو نفع قومه"(1).
معنى الأصلح (في الاصطلاح العقائدي):
يظهر من المتكلّمين: أنّ "المصلحة" عندهم تساوى "المنفعة".
قال السيّد المرتضى: الصلاح عبارة عن النفع ... ويقال عند التزايد "أصلح" كما يقال "أنفع"(2).
وقال أيضاً: "الأصلح في باب الدنيا هو فعل المنافع واللذات الخالية من وجه قبح"(3).
____________
1- انظر: مفردات القرآن، الراغب الاصفهاني: باب: صلح. المنجد: مادة (صلح). 2- الذخيرة، السيّد المرتضى: باب الكلام في الأصلح، ص199. 3- شرح جمل العلم والعمل، السيّد المرتضى: لا يجب عليه تعالى الأصلح في أمر الدنيا، ص109 . وانظر: الاقتصاد، الشيخ الطوسي: القسم الثاني، الفصل الخامس: الكلام في فعل الأصلح، ص140 .
المبحث الثاني
وجوب(1) فعل الأصلح
إنّ الأصلح ينقسم إلى قسمين(2):
1 ـ الأصلح في الدين: ومصالح الدين هي "الألطاف" .
ولا إشكال في أنّ اللّه تعالى حكيم ، وهو يفعل دائماً ما هو الأصلح بالعباد في أمور دينهم. وقد بينّا "اللطف الإلهي" في الفصل السابق.
2 ـ الأصلح في الدنيا: ومصالح الدنيا هي الأُمور التي ينتفع بها الأحياء بشرط أن لا تكون هذه الأُمور قبيحة(3)، ووجوب فعله تعالى لهذا المعنى من "الأصلح" هو الذي وقع النزاع حوله بين العلماء .
الآراء حول وجوب أو عدم وجوب فعله تعالى للأصلح :
1 ـ عدم الوجوب .
2 ـ الوجوب .
الرأي الأوّل: عدم وجوب فعله تعالى للأصلح (أي: لا يجب على اللّه تعالى في الدنيا أن يفعل بالعباد ما هو أنفع لهم في دنياهم).
أدلة ذلك :
____________
1- نؤكّد مرّة أخرى بأنّ الوجوب على اللّه تعالى لا يعني أنّه تعالى مكلّف بأنّ يفعل كذا وكذا، بل معناه أنّ عدم فعله تعالى لكذا وكذا لا ينسجم مع صفاته الكمالية. انظر: بحار الأنوار، العلاّمة المجلسي: ج59، كتاب السماء والعلم، باب 24: عصمة الملائكة...، ص310. 2- انظر: المنقذ من التقليد، سديد الدين الحمصي: ج1، القول في اللطف والمصلحة والمفسدة، ص298. 3- قال السيّد المرتضى: "لا يحسن فعل ذلك [ أي: فعل] الأصلح إلاّ مع التعرّي من المفاسد". الذخيرة، السيّد المرتضى: باب الكلام في الأصلح، ص205.
الدليل الأوّل :
وجوب الأصلح يستلزم المحال.
توضيح ذلك :
ما من أصلح (أي: أنفع للعباد) إلاّ وهناك فعل أصلح منه، وهو مع ذلك خال عن المفسدة.
فلو كان الأصلح واجباً لوجب على اللّه تعالى أن يقوم بأفعال غير متناهية، وكلّها أصلح، وهذا محال .
ولهذا ينبغي القول بعدم وجوب فعل الأصلح على اللّه تعالى مطلقاً(1).
يلاحظ عليه :
1 ـ إنّ البحث حول الأصلح يشمل المنافع التي يمكن وقوعها، وأمّا المحال فهو خارج عن البحث.
قال العلاّمة الحلّي: "إنّ الفعل إنّما يجب على اللّه تعالى من حيث الحكمة، إذا كان مُمكناً، أمّا إذا كان ممتنعاً فلا، وما لا يتناهى يستحيلُ إيجاده"(2).
2 ـ إنّ الأصلح مرتبة واحدة، ولهذا فإنّ الزيادة التي يتصوّرها البعض ليست داخلة في دائرة الأصلح، بل هي خارجة عنه، ولهذا لا يتجه الوجوب إليها، فتكون هذه الزيادة خارجة عن البحث.
قال نصير الدين الطوسي: " لا يقال: فأيُّ مرتبة فُرضت، أمكن الزيادةُ عليها، ويدخل بذلك تحت ما لا نهاية له .
لأ نّا نقول: نمنع كونَه أصلح، لأنَّا فرضنا الأصلح مرتبة، فالزائد ليس أصلح"(3).
____________
1- انظر: الذخيرة، السيّد المرتضى: باب الكلام في الأصلح، ص201 ـ 202. شرح جمل العلم والعمل، السيّد المرتضى: لا يجب عليه تعالى الأصلح في أمر الدنيا، ص109 ـ 110. الاقتصاد، الشيخ الطوسي: القسم الثاني، الفصل الخامس، ص140. غنية النزوع، ابن زهرة الحلبي: ج2، لا يجب عليه تعالى الأصلح في أمر الدنيا، ص110. 2- مناهج اليقين، العلاّمة الحلّي: المنهج السادس، البحث العاشر، ص262. 3- كشف الفوائد، نصير الدين الطوسي: الباب الثالث، الفصل الأوّل، وجوب الأصلح، ص253.
الدليل الثاني على عدم وجوب فعله تعالى للأصلح :
لو كان الأصلح واجباً لم يستحق اللّه الشكر منّا على ما يفعله بنا من الإحسان والإنعام، لأنّ الذي يقوم بفعل يجب عليه، فإنّه لا يستحق الشكر، وإنّما الشكر يكون للمتفضّل الذي له أن يفعل وله أن لا يفعل(1).
يلاحظ عليه :
1 ـ إنّ "الوجوب" الذي يتنافى مع استحقاق الشكر هو "الوجوب" بمعنى "الاضطرار" و"عدم الاختيار"، ولكن المقصود من "الوجوب" هنا غير هذا المعنى، وإنّما المقصود من الوجوب هنا أنّ العدل والحكمة الإلهية تقتضي أن يفعل اللّه تعالى كذا، لأنّ تركه لهذا الفعل يؤدّي إلى الإخلال بعدله وحكمته ويوجب اتّصافه تعالى بأوصاف يتنزّه عنها(2).
2 ـ إنّ شكرنا للّه تعالى إزاء فعل الأصلح يكون من قبيل شكرنا له تعالى إزاء إعطائه "الثواب" و"العوض" .
و"إعطاء الثواب" و"إعطاء العوض" أمران يجبان على اللّه تعالى بمقتضى عدله وحكمته .
ولكننا ـ مع ذلك ـ نشكر اللّه تعالى إزاءهما.
ولكن لا يكون شكرنا له تعالى إزاء ما يجب عليه تعالى.
وإنّما يكون شكرنا له تعالى إزاء ما تفضّل به علينا.
وتفضّله تعالى في هذا المقام أنّه خلقنا ومنحنا العقل وكلّفنا وأوجد فينا الأسباب التي تجعلنا ممن يشملهم "الثواب" و"العوض" الإلهي.
وكان بإمكانه تعالى أن لا يخلقنا أو لا يمنحنا العقل، فنكون ممن لا يشملهم
____________
1- انظر: الذخيرة، الشريف المرتضى: باب الكلام في الأصلح، ص207 . الاقتصاد، الشيخ الطوسي: القسم الثاني، الفصل الخامس، ص142. غنية النزوع، ابن زهرة الحلبي: ج2، لايجب عليه تعالى الأصلح في أمر الدنيا، ص109. 2- انظر: البراهين القاطعة، محمّد جعفر الاسترآبادي: ج2، المقصد 3، الفصل 3، المقام 5، ص455.
"الثواب" و"العوض" الإلهي.
ولكنّه تعالى خلقنا ومنحنا العقل من باب التفضّل، وبذلك أصبحنا ممن يقتضي عدله أن لا يظلمنا.
فيكون شكرنا للّه تعالى إزاء هذا التفضّل.
وتعتبر مسألة الشكر إزاء فعل الأصلح أيضاً من هذا القبيل(1).
الدليل الثالث على عدم وجوب فعله تعالى للأصلح :
لو كان فعل الأصلح واجباً لم يكن للدعاء أيّة فائدة.
لأنّه إذا كان كلّ ما يفعله اللّه تعالى هو الأصلح الذي يجب أن يفعله، فعندئذ لا يمكن تغيير هذا الواجب، فينتفي دور الدعاء.
ولكن بما أنّ للدعاء دوراً، فلهذا نستنتج بأنّه تعالى لا يجب عليه فعل الأصلح.
يلاحظ عليه :
لا يوجب هذا الاستدلال نفي فعله تعالى للأصلح، لأنّ اللّه تعالى يفعل بالعباد ما هو أصلح لهم وفق ما تقتضيه الحكمة، وقد اقتضت حكمته تعالى أن يجعل للعباد بعض "الأسباب" التي يحصلون بها على المزيد من المنافع، ومن هذه الأسباب "الدعاء".
فالأصلح في هذا المقام للعباد أن تتاح لهم الفرصة ليصلوا إلى منافعهم عن طريق تمسّكهم بالأسباب.
فمن يتمسّك بهذه الأسباب، فإنّه يصل إلى المنافع إن شاء اللّه تعالى.
ومن لا يتمسّك بهذه الأسباب، فإنّه يحرم نفسه بنفسه من هذه المنافع.
الرأي الثاني: وجوب فعله تعالى للأصلح(2) :
قال الإمام جعفر بن محمّد الصادق (عليه السلام) : "إنّ اللّه تبارك وتعالى لا يفعل بعباده إلاّ
____________
1- انظر: إشراق اللاهوت، عميد الدين العبيدلي: المقصد الحادي عشر، المسألة الخامسة: ص397. 2- أي: وجوب فعله تعالى الأنفع للعباد في الدنيا .
الأصلح لهم"(1).
تنبيه مهم :
ينبغي الالتفات في هذا الصعيد إلى حقيقة مهمّة وهي:
إنّ الأصلح في الدنيا لا يكون دائماً في مطلق إيصال الشيء النافع للعبد.
بل قد يكون الأصلح للعبد في الدنيا حرمانه من المنافع الدنيوية .
لأنّ المنافع الدنيوية ليست بنفسها ملاكاً عند اللّه تعالى في تعامله مع العباد.
وإنّما الملاك عند اللّه تعالى هو المنافع الأخروية للعباد.
وعلى ضوء هذا الملاك يتعامل اللّه تعالى مع العباد في إيصال الأنفع إليهم.
ورد في الحديث الشريف :
عن رسول اللّه(صلى الله عليه وآله وسلم) عن جبرئيل، عن اللّه عز وجل، قال: "قال اللّه تبارك وتعالى:
إنّ من عبادي المؤمنين لَمَن لا يصلُح إيمانه إلاّ بالفقر، ولو أغنيته لأفسده ذلك.
وإنّ من عبادي المؤمنين لَمَن لا يصلُح إيمانه إلاّ بالغنى ، ولو أفقرته لأفسده ذلك.
وإنّ من عبادي المؤمنين لَمَن لا يصلُح إيمانه إلاّ بالسقم، ولو صحّحت جسمه لأفسده ذلك.
وإنّ من عبادي المؤمنين لَمَن لا يصلُح إيمانه إلاّ بالصحة، ولو أسقمته لأفسده ذلك.
إنّي أدبّر عبادي لعلمي بقلوبهم، فإنّي عليم خبير"(2).
قال الشيخ المفيد:
"إنّ اللّه تعالى لا يفعل بعباده ما داموا مكلَّفين إلاّ أصلح الأشياء لهم في دينهم ودنياهم، وأنّه لا يدّخرهم صلاحاً ولا نفعاً، وأنّ من أغناه فقد فعل به الأصلح في التدبير، وكذلك من أفقره ومن أصحّه ومن أمرضه فالقول فيه كذلك"(3).
____________
1- التوحيد، الشيخ الصدوق: باب 62: باب أنّ اللّه تعالى لا يفعل بعباده إلاّ الأصلح لهم، ح9، ص392. 2- التوحيد، الشيخ الصدوق: باب 62، ح1، ص388. 3- أوائل المقالات ، الشيخ المفيد: القول 28: القول في اللطف والأصلح ، ص59 .
المبحث الثالث
الأصلح في خلق العالم
إنّ كيفية نظام الوجود وقوانين الكون هي الأفضل والأكثر إتقاناً حسب ما اقتضته الحكمة والرحمة الإلهية، بحيث لا يمكن تصوّر أحسن منه في تنظيم عالم الإمكان مع لحاظ الأهداف المطلوبة .
الأدلة المثبتة للنظام الأحسن :
1 ـ إنّ اللّه تعالى حكيم، ولا يفعل إلاّ الأفضل والأحسن حسب ما تقتضيه الحكمة والمصلحة.
2 ـ إنّ اللّه تعالى عالم بجميع جهات حسن وقبح الأفعال، والحكيم يختار دائماً ما هو الأحسن والأكمل .
3 ـ إنّ اللّه تعالى غني عن العالمين، وهو في منتهى الجود والكرم والعطاء، ولا يوجد ما يمنع اللّه من إيجاد الأحسن حسب ما تقتضيه الحكمة والمصلحة.
الفصل الثاني عشر
الهداية والإضلال
معنى الهداية
الهداية الإلهية العامة
الهداية الإلهية الخاصة
معنى الإضلال
نسبة إضلال العباد إلى اللّه تعالى
المبحث الأوّل
معنى الهداية
معنى الهداية (في اللغة) :
الهداية: الدلالة والإرشاد وبيان الطريق(1).
معنى الهداية (في الاصطلاح العقائدي) :
إنّ للهداية ـ في دائرة الاصطلاح العقائدي ـ العديد من المعاني التي سنذكرها خلال البحث مع بيان المعاني التي تصح نسبتها إلى اللّه تعالى والمعاني التي لا تصح نسبتها إليه تعالى .
____________
1- انظر: لسان العرب ، ابن منظور : مادة (هَدَيَ) .
المبحث الثاني
الهداية الإلهية العامة
أقسام الهداية الإلهية :
1 ـ الهداية الإلهية العامة .
2 ـ الهداية الإلهية الخاصة .
خصائص الهداية الإلهية العامة :
1 ـ تشمل الهداية الإلهية العامة كلّ الموجودات ، وتعمّ جميع الكائنات من دون تبعيض أو تمييز .
2 ـ تتجسّد الهداية الإلهية العامة لكلّ موجود بما يتناسب ويتلاءم مع الغاية التي من أجلها خلقه اللّه تعالى .
أقسام الهداية الإلهية العامة :
1 ـ الهداية التكوينية .
2 ـ الهداية التشريعية .
الهداية التكوينية :
أودع اللّه تعالى في ذات كلّ موجود ما يهديه إلى الغاية التي خلقه من أجلها ، وتسمّى هذه الهداية بالهداية التكوينية(1).
____________
1- انظر: مفاهيم القرآن، جعفر السبحاني: ج6، يبحث عن أسمائه وصفاته سبحانه، ص 501 .
خصائص الهداية التكوينية(1) :
1 ـ تتمّ الهداية التكوينية عن طريق القوى التي يخلقها اللّه تعالى في كلّ موجود لتهديه إلى الغايات التي خُلق لأجلها .
2 ـ تتحقّق الهداية التكوينية في كلّ موجود بصورة خاصة تتناسب وتنسجم مع ذلك الموجود .
بعض الآيات القرآنية الدالة على الهداية التكوينية :
1 ـ { رَبُّنَا الَّذِي أَعْطى كُلَّ شَيْء خَلْقَهُ ثُمَّ هَدى } [ طه: 50 ]
2 ـ { سَبِّحِ اسْمَ رَبِّكَ الأَعْلَى * الَّذِي خَلَقَ فَسَوّى * وَالَّذِي قَدَّرَ فَهَدى }[ الأعلى: 1 - 3 ] أي: كلّ ما يخلقه اللّه تعالى إنّما يخلقه بتقدير خاص تتبعه الهداية التكوينية العامة .
أمثلة الهداية التكوينية :
أوّلاً ـ الهداية التكوينية في الإنسان :
خلق اللّه تعالى الإنسان مختاراً ليصل عن طريق عبادته للّه تعالى(2) وكدحه في سبيل اللّه عزّ وجلّ(3) إلى ما يستحق به الرحمة الإلهية(4) فيبلغ بذلك أعلى درجات الكمال من خلال تقرّبه إلى اللّه تعالى .
وقد أعدّ اللّه تعالى للإنسان كلّ ما يحتاجه في هذا السبيل من أجل وصوله إلى الغاية التي خلقه لأجلها، وهذا ما يسمّى بالهداية الإلهية التكوينية العامة للإنسان.
قال تعالى:
{ وَنَفْس وَما سَوّاها * فَأَلْهَمَها فُجُورَها وَتَقْواها } [ الشمس: 7 ـ 8 ]
{ أَ لَمْ نَجْعَلْ لَهُ عَيْنَيْنِ * وَلِساناً وَشَفَتَيْنِ * وَهَدَيْناهُ النَّجْدَيْنِ } [ البلد: 8 ـ
____________
1- المصدر السابق . 2- قال تعالى: (وَما خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالإِنْسَ إِلاّ لِيَعْبُدُونِ) . [ الذاريات: 56 ] 3- قال تعالى: (يا أَيُّهَا الإِنْسانُ إِنَّكَ كادِحٌ إِلى رَبِّكَ كَدْحاً فَمُلاقِيهِ) . [ الإنشقاق: 6 ] 4- قال تعالى: (وَلا يَزالُونَ مُخْتَلِفِينَ * إِلاّ مَنْ رَحِمَ رَبُّكَ وَلِذلِكَ خَلَقَهُمْ) . [ هود: 118 ـ 119 ]
10 ]
نماذج من قوى الهداية التكوينية في الإنسان :
إنّ من القوى التي خلقها اللّه تعالى في الإنسان ليهتدي بها إلى غاية خلقه :
1 ـ قوى نمو النطفة والجسم :
جعل اللّه تعالى في النطفة قوى تهديها وترشدها عند توفّر الشروط المطلوبة إلى النمو بصورة صحيحة من أجل تكوين الإنسان بالشكل المطلوب . كما أنّ جسم الإنسان مليء بالأجهزة التي تهديه إلى حفظ حالة التوازن فيه .
2 ـ العقل :
إنّ العقل هو الجهاز الذي يرشد الإنسان إلى الخير والصلاح ، وقد أشار القرآن الكريم إلى وجود هذه الهداية العامة في جميع المكلَّفين ، وحثّ الباري عزّ وجلّ الإنسان على التعقّل والتفكّر والتدبّر لينتفع من هذه الهداية العامة في حياته .
ملاحظة :
إنّ الذين يهملون عقولهم ولا ينتفعون بها عن طريق التفكّر والتدّبر والتأمّل ، فإنّهم ـ في الواقع ـ يحرمون أنفسهم من هذه الهداية الإلهية العامة، وإنّهم سيتحمّلون بأنفسهم مسؤولية عدم انتفاعهم من هذه الهداية(1) .
3 ـ الفطرة :
جعل اللّه تعالى الذات البشرية بصورة تنسجم مع التشريعات الإلهية . وعرّف اللّه تعالى النفس البشرية طريق الفجور وطريق التقوى ، بحيث جعلها قادرة على التمييز بين الخير والشر بصورة فطرية . وهذا ما يعدّ من أنواع الهداية التكوينية الإلهية للعباد .
قال تعالى:
{ فَأَقِمْ وَجْهَكَ لِلدِّينِ حَنِيفاً فِطْرَتَ اللّهِ الَّتِي فَطَرَ النّاسَ عَلَيْها } [ الروم: 30 ]
____________
1- انظر: مفاهيم القرآن ، جعفر السبحاني: ج6، يبحث عن أسمائه وصفاته سبحانه، ص502 .
{ وَنَفْس وَما سَوّاها * فَأَلْهَمَها فُجُورَها وَتَقْواها } [ الشمس: 7 ـ 8 ]
تنبيه :
إنّ الفطرة عامة عند جميع الناس ، ولكنها ربّما تضعف أو يزول تأثيرها بسبب إعراض الإنسان عنها وتلبّسه بصفات سلبية تمنعه من إجابة ندائها، كالهوى والشهوات والغفلة والجهل والتعصّب والعناد واللجاج وما يشبه ذلك(1).
ثانياً: الهداية التكوينية في الحيوانات :
خلق اللّه تعالى الحيوانات لغايات معيّنة، ثمّ هدى كلّ صنف منها إلى نظام وجودها وحياتها الطبيعية لتحقّق الغاية التي خُلقت من أجلها .
وقد سمّى اللّه تعالى هذه الهداية التكوينية في بعض الموارد باسم "الوحي" فقال تعالى:
{ وَأَوْحى رَبُّكَ إِلَى النَّحْلِ أَنِ اتَّخِذِي مِنَ الْجِبالِ بُيُوتاً وَمِنَ الشَّجَرِ وَمِمّا يَعْرِشُونَ * ثُمَّ كُلِي مِنْ كُلِّ الثَّمَراتِ فَاسْلُكِي سُبُلَ رَبِّكِ ذُلُلاً يَخْرُجُ مِنْ بُطُونِها شَرابٌ مُخْتَلِفٌ أَلْوانُهُ فِيهِ شِفاءٌ لِلنّاسِ إِنَّ فِي ذلِكَ لآيَةً لِقَوْم يَتَفَكَّرُونَ }[النحل: 68 ـ69 ]
وهذه الهداية عامة لجميع أفراد النحل بلا استثناء .
نماذج من الهداية التكوينية في الحيوانات :
إنّ اللّه تعالى هدى الحيوان إلى توفير أسباب العيش لنفسه ، من قبيل: الأكل والشرب، والبحث عن القوت ، والبناء أو البحث عن مأوى لنفسه ، والهروب من كلّ ما يضرّه أو يؤلمه ، والاتّجاه نحو كلّ ما يحفظ له وجوده ويحقّق له غاية حياته .
ثالثاً: الهداية التكوينية في النباتات :
جهّز اللّه تعالى النباتات بقوى تهديها إلى كمالها المطلوب .
مثال :
____________
1- انظر: حديث حول الجبر والتفويض ، عبد اللّه الموسوي البحراني: مفهوم الجبر والاختيار ، ص37 .
جهّز اللّه تعالى الحبّة بأدق القوى التي تدفعها عند توفّر الظروف الخاصة إلى الازدهار، فالحبّة عندما توضع تحت التراب ، وتتوفّر لها شروط النمو، ترعاها هذه القوى الكامنة فيها للانتفاع من العوامل الخارجية كالماء والنور إلى أن تصبح شجرة مثمرة(1) .
رابعاً: الهداية التكوينية في الجمادات :
جهّز اللّه تعالى كلّ ذرة من الجمادات بأجهزة تسيّرها وفق قانون طبيعي منظّم يمنحها التماسك والتفاعل مع المؤثّرات الخارجية.
الهداية التشريعية :
إنّ الهداية التشريعية عبارة عن إرشاد اللّه العباد إلى الحقّ(2) عن طريق إرسال الرسل والأنبياء وإنزال الكتب السماوية، ليتعرّف كلّ إنسان على ربّه وعلى كيفية عبادته وعلى المنهج الصحيح الذي ينبغي أن يتّبعه في هذه الحياة ليصل به إلى الكمال المنشود .
خصائص الهداية التشريعية :
1 ـ تكون الهداية التشريعية من قبيل "إراءة الطريق"، ويقوم الأنبياء بهذه الهداية عن طريق إرشاد الناس إلى التشريعات الإلهية وإيضاح سبيل الخير والسعادة لهم وتحذيرهم من سلوك سبيل الشر والغواية .
2 ـ تشمل الهداية التشريعية جميع المكلَّفين(3)، وهي لا تختص بفرد أو جماعة دون غيرها، ولا بطائفة دون طائفة، ولا بجيل دون جيل ، بل هي عامة شاملة، ويكون بوسع كلّ إنسان أن يهتدي بهداها .
3 ـ إنّ عمومية الهداية التشريعية لكلّ مكلَّف تنفي الجبر وتثبت الاختيار في الإنسان; لأ نّها تبيّن بأنّ كلّ إنسان مختار في الاهتداء بهداية الأنبياء والرسل والكتب السماوية ، وهو غير مجبور في هذا السبيل، وله أن يهتدي أو يضل وفق
____________
1- انظر: الانصاف ، جعفر السبحاني: 3/84 . 2- انظر: بحار الأنوار ، العلاّمة المجلسي: ج5، كتاب العدل والمعاد، باب7، ص171 . 3- انظر: بحار الأنوار ، العلاّمة المجلسي: ج5، كتاب العدل والمعاد، باب7، ص171 .
إرادته واختياره .
4 ـ تعتبر الهداية التشريعية من شروط ومستلزمات التكليف ، بحيث لا يصح التكليف من دونها ، لأنّ الإنسان غير قادر على طاعة اللّه تعالى ما لم يهديه اللّه تعالى ويرشده إلى المنهج الديني الذي ينبغي السير على ضوئه .
بعض الآيات القرآنية الدالة على الهداية التشريعية :
1 ـ { رُسُلاً مُبَشِّرِينَ وَمُنْذِرِينَ لِئَـلاّ يَكُونَ لِلنّاسِ عَلَى اللّهِ حُجَّةٌ بَعْدَ الرُّسُلِ }[ النساء: 165 ]
2 ـ { وَجَعَلْناهُمْ أَئِمَّةً يَهْدُونَ بِأَمْرِنا } [ الأنبياء: 73 ]
3 ـ { هُوَ الَّذِي أَرْسَلَ رَسُولَهُ بِالْهُدى وَدِينِ الْحَقِّ } [ الفتح: 28 ]
4 ـ { وَإِنَّكَ لَتَهْدِي إِلى صِراط مُسْتَقِيم } [ الشورى: 52 ]
5 ـ { وَأَمّا ثَمُودُ فَهَدَيْناهُمْ فَاسْتَحَبُّوا الْعَمى عَلَى الْهُدى } [ فصّلت: 17 ]
6 ـ { وَلَقَدْ جاءَهُمْ مِنْ رَبِّهِمُ الْهُدى } [ النجم: 23 ]
7 ـ { إِنَّ هذَا الْقُرْآنَ يَهْدِي لِلَّتِي هِيَ أَقْوَمُ } [ الإسراء: 9 ]
8 ـ { ... الْقُرْآنُ هُدىً لِلنّاسِ وَبَيِّنات مِنَ الْهُدى وَالْفُرْقانِ } [ البقرة: 185 ]
المبحث الثالث
الهداية الإلهية الخاصة
إنّ الهداية الإلهية الخاصة عبارة عن التوفيق والمعونة والتسديد الإلهي للعباد ومنحهم المزيد من الثبات في طريق الحقّ .
مستحقي الهداية الإلهية الخاصة :
إنّ الهداية الإلهية الخاصة تكون وفق مشيئته تعالى ، وإنّ اللّه تعالى يهدي من يشاء بهدايته الخاصة .
ولهذا ورد في القرآن الكريم :
1 ـ { ذلِكَ هُدَى اللّهِ يَهْدِي بِهِ مَنْ يَشاءُ } [ الزمر: 23 ]
2 ـ { إِنَّكَ لا تَهْدِي مَنْ أَحْبَبْتَ وَلكِنَّ اللّهَ يَهْدِي مَنْ يَشاءُ } [ القصص: 56 ]
3 ـ { وَاللّهُ يَهْدِي مَنْ يَشاءُ } [ البقرة: 213 ]
ولكن لا يخفى بأنّ اللّه تعالى حكيم، وهو لا يشاء جُزافاً أو عبثاً، وإنّما تكون مشيئته وفق حكمته وعدله، وقد بيّن اللّه عزّ وجلّ في القرآن الكريم موازين مشيئته تعالى في هداية العباد بهدايته الخاصة .
موازين المشيئة الإلهية في هداية عباده بالهداية الخاصة :
أوّلاً ـ الإيمان باللّه والعمل الصالح (الانتفاع من الهداية التكوينية كالعقل والفطرة واتّباع الهداية التشريعية) ، ولهذا قال تعالى :
1 ـ { إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصّالِحاتِ يَهْدِيهِمْ رَبُّهُمْ بِإِيمانِهِمْ } [ يونس: 9 ]
2 ـ { إِنَّ اللّهَ لَهادِ الَّذِينَ آمَنُوا إِلى صِراط مُسْتَقِيم } [ الحجّ: 54 ]
3 ـ { وَمَنْ يُؤْمِنْ بِاللّهِ يَهْدِ قَلْبَهُ } [ التغابن: 11 ]
4 ـ { وَالَّذِينَ اهْتَدَوْا زادَهُمْ هُدىً } [ محمّد: 17 ]
5 ـ { إِنَّهُمْ فِتْيَةٌ آمَنُوا بِرَبِّهِمْ وَزِدْناهُمْ هُدىً * وَرَبَطْنا عَلى قُلُوبِهِمْ }[ الكهف: 13 ـ 14 ]
6 ـ { فَمَنِ اتَّبَعَ هُدايَ فَلا يَضِلُّ وَلا يَشْقى } [ طه: 123 ]
7 ـ { قَدْ جاءَكُمْ مِنَ اللّهِ نُورٌ وَكِتابٌ مُبِينٌ * يَهْدِي بِهِ اللّهُ مَنِ اتَّبَعَ رِضْوانَهُ سُبُلَ السَّلامِ ... } [ المائدة: 15 ـ 16 ]
ثانياً ـ المجاهدة في سبيل اللّه
قال تعالى: { وَالَّذِينَ جاهَدُوا فِينا لَنَهْدِيَنَّهُمْ سُبُلَنا } [ العنكبوت: 69 ]
أي: إنّ الذين يجاهدون أهواءهم النفسية في سبيل اللّه تعالى، ويقفون بصلابة أمام التيارات المعاكسة للحق ، فإنّ اللّه تعالى وعدهم بالهداية الخاصة .
ثالثا ـ الإنابة
قال تعالى: { إِنَّ اللّهَ ... وَيَهْدِي إِلَيْهِ مَنْ أَنابَ } [ الرعد: 27 ]
وقال تعالى: { وَيَهْدِي إِلَيْهِ مَنْ يُنِيبُ } [ الشورى: 13 ]
أي: إنّ من ينيب إلى اللّه تعالى ويرجع إليه ويُقبل عليه ، فإنّ اللّه تعالى يهديه بهدايته الخاصة، فعلّق اللّه تعالى الهداية على من اتّصف بالإنابة والتوجّه إليه سبحانه وتعالى .
النتيجة :
تكون الهداية الإلهية الخاصة فقط للذين يجاهدون ليستضيئوا بنور الهداية التكوينية والتشريعية العامة، فهؤلاء هم المستحقون لهذه الهداية ، وهم الذين تشملهم العناية الربانية، فتعينهم في سيرهم على جادة الصواب، وتسدّد خطاهم في اتّباعهم للحق، وتثبّت أقدامهم على الصراط المستقيم .
الآيات القرآنية الدالة على عدم مشيئة اللّه إجبار العباد على الهداية :
1 ـ { وَلَوْ شِئْنا لآتَيْنا كُلَّ نَفْس هُداها } [ السجدة: 13 ]
2 ـ { وَلَوْ شاءَ لَهَداكُمْ أَجْمَعِينَ } [ النحل: 9 ]
3 ـ { وَلَوْ شاءَ اللّهُ لَجَمَعَهُمْ عَلَى الْهُدى } [ الأنعام: 35 ]
4 ـ { وَلَوْ شاءَ رَبُّكَ لآمَنَ مَنْ فِي الأَرْضِ كُلُّهُمْ جَمِيعاً أَ فَأَنْتَ تُكْرِهُ النّاسَ حَتّى يَكُونُوا مُؤْمِنِينَ } [ يونس: 99 ]
5 ـ { وَلَوْ شاءَ اللّهُ ما أَشْرَكُوا } [ الأنعام: 107 ]
تبيّن هذه الآيات بأنّ اللّه تعالى قادر على سلب اختيار الإنسان وإجباره على الهداية، ولو كان كذلك لآمن واهتدى كلّ من في الأرض ، ولكنه تعالى لم يشأ ذلك ، وإنّما شاء أن يجعل الإنسان مختاراً في سلوكه سبيل الهداية أو الضلال ، لأنّ قيمة الهداية تكمن في كونها مستندة إلى الاختيار لا إلى الجبر .
الرد الإلهي على المشركين الذين نسبوا شركهم إلى مشيئة اللّه تعالى:
قال تعالى :
1 ـ { سَيَقُولُ الَّذِينَ أَشْرَكُوا لَوْ شاءَ اللّهُ ما أَشْرَكْنا وَلا آباؤُنا وَلا حَرَّمْنا مِنْ شَيْء كَذلِكَ كَذَّبَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ حَتّى ذاقُوا بَأْسَنا قُلْ هَلْ عِنْدَكُمْ مِنْ عِلْم فَتُخْرِجُوهُ لَنا إِنْ تَتَّبِعُونَ إِلاَّ الظَّنَّ وَإِنْ أَنْتُمْ إِلاّ تَخْرُصُونَ } [ الأنعام: 148 ]
2 ـ { وَقالَ الَّذِينَ أَشْرَكُوا لَوْ شاءَ اللّهُ ما عَبَدْنا مِنْ دُونِهِ مِنْ شَيْء نَحْنُ وَلا آباؤُنا وَلا حَرَّمْنا مِنْ دُونِهِ مِنْ شَيْء كَذلِكَ فَعَلَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ فَهَلْ عَلَى الرُّسُلِ إِلاَّ الْبَلاغُ الْمُبِينُ } [ النحل: 35 ]
توضيح :
إدّعاء المشركين: شاء اللّه تعالى لنا الإشراك به وشاء لنا عبادة غيره .
استنتاج المشركين: لذلك أشركنا باللّه في الصعيد العقائدي والعبادي .