المؤلفات » العدل عند مذهب أهل البیت (علیهم السلام)
الفصل الثاني عشر
الهداية والإضلال
معنى الهداية
الهداية الإلهية العامة
الهداية الإلهية الخاصة
معنى الإضلال
نسبة إضلال العباد إلى اللّه تعالى
|
الصفحة 342 |
|
|
الصفحة 343 |
|
المبحث الأوّل
معنى الهداية
معنى الهداية (في اللغة) :
الهداية: الدلالة والإرشاد وبيان الطريق(1).
معنى الهداية (في الاصطلاح العقائدي) :
إنّ للهداية ـ في دائرة الاصطلاح العقائدي ـ العديد من المعاني التي سنذكرها خلال البحث مع بيان المعاني التي تصح نسبتها إلى اللّه تعالى والمعاني التي لا تصح نسبتها إليه تعالى .
____________
1- انظر: لسان العرب ، ابن منظور : مادة (هَدَيَ) .
|
الصفحة 344 |
|
المبحث الثاني
الهداية الإلهية العامة
أقسام الهداية الإلهية :
1 ـ الهداية الإلهية العامة .
2 ـ الهداية الإلهية الخاصة .
خصائص الهداية الإلهية العامة :
1 ـ تشمل الهداية الإلهية العامة كلّ الموجودات ، وتعمّ جميع الكائنات من دون تبعيض أو تمييز .
2 ـ تتجسّد الهداية الإلهية العامة لكلّ موجود بما يتناسب ويتلاءم مع الغاية التي من أجلها خلقه اللّه تعالى .
أقسام الهداية الإلهية العامة :
1 ـ الهداية التكوينية .
2 ـ الهداية التشريعية .
الهداية التكوينية :
أودع اللّه تعالى في ذات كلّ موجود ما يهديه إلى الغاية التي خلقه من أجلها ، وتسمّى هذه الهداية بالهداية التكوينية(1).
____________
1- انظر: مفاهيم القرآن، جعفر السبحاني: ج6، يبحث عن أسمائه وصفاته سبحانه، ص 501 .
|
الصفحة 345 |
|
خصائص الهداية التكوينية(1) :
1 ـ تتمّ الهداية التكوينية عن طريق القوى التي يخلقها اللّه تعالى في كلّ موجود لتهديه إلى الغايات التي خُلق لأجلها .
2 ـ تتحقّق الهداية التكوينية في كلّ موجود بصورة خاصة تتناسب وتنسجم مع ذلك الموجود .
بعض الآيات القرآنية الدالة على الهداية التكوينية :
1 ـ { رَبُّنَا الَّذِي أَعْطى كُلَّ شَيْء خَلْقَهُ ثُمَّ هَدى } [ طه: 50 ]
2 ـ { سَبِّحِ اسْمَ رَبِّكَ الأَعْلَى * الَّذِي خَلَقَ فَسَوّى * وَالَّذِي قَدَّرَ فَهَدى }[ الأعلى: 1 - 3 ] أي: كلّ ما يخلقه اللّه تعالى إنّما يخلقه بتقدير خاص تتبعه الهداية التكوينية العامة .
أمثلة الهداية التكوينية :
أوّلاً ـ الهداية التكوينية في الإنسان :
خلق اللّه تعالى الإنسان مختاراً ليصل عن طريق عبادته للّه تعالى(2) وكدحه في سبيل اللّه عزّ وجلّ(3) إلى ما يستحق به الرحمة الإلهية(4) فيبلغ بذلك أعلى درجات الكمال من خلال تقرّبه إلى اللّه تعالى .
وقد أعدّ اللّه تعالى للإنسان كلّ ما يحتاجه في هذا السبيل من أجل وصوله إلى الغاية التي خلقه لأجلها، وهذا ما يسمّى بالهداية الإلهية التكوينية العامة للإنسان.
قال تعالى:
{ وَنَفْس وَما سَوّاها * فَأَلْهَمَها فُجُورَها وَتَقْواها } [ الشمس: 7 ـ 8 ]
{ أَ لَمْ نَجْعَلْ لَهُ عَيْنَيْنِ * وَلِساناً وَشَفَتَيْنِ * وَهَدَيْناهُ النَّجْدَيْنِ } [ البلد: 8 ـ
____________
1- المصدر السابق .
2- قال تعالى: (وَما خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالإِنْسَ إِلاّ لِيَعْبُدُونِ) . [ الذاريات: 56 ]
3- قال تعالى: (يا أَيُّهَا الإِنْسانُ إِنَّكَ كادِحٌ إِلى رَبِّكَ كَدْحاً فَمُلاقِيهِ) . [ الإنشقاق: 6 ]
4- قال تعالى: (وَلا يَزالُونَ مُخْتَلِفِينَ * إِلاّ مَنْ رَحِمَ رَبُّكَ وَلِذلِكَ خَلَقَهُمْ) . [ هود: 118 ـ 119 ]
|
الصفحة 346 |
|
10 ]
نماذج من قوى الهداية التكوينية في الإنسان :
إنّ من القوى التي خلقها اللّه تعالى في الإنسان ليهتدي بها إلى غاية خلقه :
1 ـ قوى نمو النطفة والجسم :
جعل اللّه تعالى في النطفة قوى تهديها وترشدها عند توفّر الشروط المطلوبة إلى النمو بصورة صحيحة من أجل تكوين الإنسان بالشكل المطلوب . كما أنّ جسم الإنسان مليء بالأجهزة التي تهديه إلى حفظ حالة التوازن فيه .
2 ـ العقل :
إنّ العقل هو الجهاز الذي يرشد الإنسان إلى الخير والصلاح ، وقد أشار القرآن الكريم إلى وجود هذه الهداية العامة في جميع المكلَّفين ، وحثّ الباري عزّ وجلّ الإنسان على التعقّل والتفكّر والتدبّر لينتفع من هذه الهداية العامة في حياته .
ملاحظة :
إنّ الذين يهملون عقولهم ولا ينتفعون بها عن طريق التفكّر والتدّبر والتأمّل ، فإنّهم ـ في الواقع ـ يحرمون أنفسهم من هذه الهداية الإلهية العامة، وإنّهم سيتحمّلون بأنفسهم مسؤولية عدم انتفاعهم من هذه الهداية(1) .
3 ـ الفطرة :
جعل اللّه تعالى الذات البشرية بصورة تنسجم مع التشريعات الإلهية . وعرّف اللّه تعالى النفس البشرية طريق الفجور وطريق التقوى ، بحيث جعلها قادرة على التمييز بين الخير والشر بصورة فطرية . وهذا ما يعدّ من أنواع الهداية التكوينية الإلهية للعباد .
قال تعالى:
{ فَأَقِمْ وَجْهَكَ لِلدِّينِ حَنِيفاً فِطْرَتَ اللّهِ الَّتِي فَطَرَ النّاسَ عَلَيْها } [ الروم: 30 ]
____________
1- انظر: مفاهيم القرآن ، جعفر السبحاني: ج6، يبحث عن أسمائه وصفاته سبحانه، ص502 .
|
الصفحة 347 |
|
{ وَنَفْس وَما سَوّاها * فَأَلْهَمَها فُجُورَها وَتَقْواها } [ الشمس: 7 ـ 8 ]
تنبيه :
إنّ الفطرة عامة عند جميع الناس ، ولكنها ربّما تضعف أو يزول تأثيرها بسبب إعراض الإنسان عنها وتلبّسه بصفات سلبية تمنعه من إجابة ندائها، كالهوى والشهوات والغفلة والجهل والتعصّب والعناد واللجاج وما يشبه ذلك(1).
ثانياً: الهداية التكوينية في الحيوانات :
خلق اللّه تعالى الحيوانات لغايات معيّنة، ثمّ هدى كلّ صنف منها إلى نظام وجودها وحياتها الطبيعية لتحقّق الغاية التي خُلقت من أجلها .
وقد سمّى اللّه تعالى هذه الهداية التكوينية في بعض الموارد باسم "الوحي" فقال تعالى:
{ وَأَوْحى رَبُّكَ إِلَى النَّحْلِ أَنِ اتَّخِذِي مِنَ الْجِبالِ بُيُوتاً وَمِنَ الشَّجَرِ وَمِمّا يَعْرِشُونَ * ثُمَّ كُلِي مِنْ كُلِّ الثَّمَراتِ فَاسْلُكِي سُبُلَ رَبِّكِ ذُلُلاً يَخْرُجُ مِنْ بُطُونِها شَرابٌ مُخْتَلِفٌ أَلْوانُهُ فِيهِ شِفاءٌ لِلنّاسِ إِنَّ فِي ذلِكَ لآيَةً لِقَوْم يَتَفَكَّرُونَ }[النحل: 68 ـ69 ]
وهذه الهداية عامة لجميع أفراد النحل بلا استثناء .
نماذج من الهداية التكوينية في الحيوانات :
إنّ اللّه تعالى هدى الحيوان إلى توفير أسباب العيش لنفسه ، من قبيل: الأكل والشرب، والبحث عن القوت ، والبناء أو البحث عن مأوى لنفسه ، والهروب من كلّ ما يضرّه أو يؤلمه ، والاتّجاه نحو كلّ ما يحفظ له وجوده ويحقّق له غاية حياته .
ثالثاً: الهداية التكوينية في النباتات :
جهّز اللّه تعالى النباتات بقوى تهديها إلى كمالها المطلوب .
مثال :
____________
1- انظر: حديث حول الجبر والتفويض ، عبد اللّه الموسوي البحراني: مفهوم الجبر والاختيار ، ص37 .
|
الصفحة 348 |
|
جهّز اللّه تعالى الحبّة بأدق القوى التي تدفعها عند توفّر الظروف الخاصة إلى الازدهار، فالحبّة عندما توضع تحت التراب ، وتتوفّر لها شروط النمو، ترعاها هذه القوى الكامنة فيها للانتفاع من العوامل الخارجية كالماء والنور إلى أن تصبح شجرة مثمرة(1) .
رابعاً: الهداية التكوينية في الجمادات :
جهّز اللّه تعالى كلّ ذرة من الجمادات بأجهزة تسيّرها وفق قانون طبيعي منظّم يمنحها التماسك والتفاعل مع المؤثّرات الخارجية.
الهداية التشريعية :
إنّ الهداية التشريعية عبارة عن إرشاد اللّه العباد إلى الحقّ(2) عن طريق إرسال الرسل والأنبياء وإنزال الكتب السماوية، ليتعرّف كلّ إنسان على ربّه وعلى كيفية عبادته وعلى المنهج الصحيح الذي ينبغي أن يتّبعه في هذه الحياة ليصل به إلى الكمال المنشود .
خصائص الهداية التشريعية :
1 ـ تكون الهداية التشريعية من قبيل "إراءة الطريق"، ويقوم الأنبياء بهذه الهداية عن طريق إرشاد الناس إلى التشريعات الإلهية وإيضاح سبيل الخير والسعادة لهم وتحذيرهم من سلوك سبيل الشر والغواية .
2 ـ تشمل الهداية التشريعية جميع المكلَّفين(3)، وهي لا تختص بفرد أو جماعة دون غيرها، ولا بطائفة دون طائفة، ولا بجيل دون جيل ، بل هي عامة شاملة، ويكون بوسع كلّ إنسان أن يهتدي بهداها .
3 ـ إنّ عمومية الهداية التشريعية لكلّ مكلَّف تنفي الجبر وتثبت الاختيار في الإنسان; لأ نّها تبيّن بأنّ كلّ إنسان مختار في الاهتداء بهداية الأنبياء والرسل والكتب السماوية ، وهو غير مجبور في هذا السبيل، وله أن يهتدي أو يضل وفق
____________
1- انظر: الانصاف ، جعفر السبحاني: 3/84 .
2- انظر: بحار الأنوار ، العلاّمة المجلسي: ج5، كتاب العدل والمعاد، باب7، ص171 .
3- انظر: بحار الأنوار ، العلاّمة المجلسي: ج5، كتاب العدل والمعاد، باب7، ص171 .
|
الصفحة 349 |
|
إرادته واختياره .
4 ـ تعتبر الهداية التشريعية من شروط ومستلزمات التكليف ، بحيث لا يصح التكليف من دونها ، لأنّ الإنسان غير قادر على طاعة اللّه تعالى ما لم يهديه اللّه تعالى ويرشده إلى المنهج الديني الذي ينبغي السير على ضوئه .
بعض الآيات القرآنية الدالة على الهداية التشريعية :
1 ـ { رُسُلاً مُبَشِّرِينَ وَمُنْذِرِينَ لِئَـلاّ يَكُونَ لِلنّاسِ عَلَى اللّهِ حُجَّةٌ بَعْدَ الرُّسُلِ }[ النساء: 165 ]
2 ـ { وَجَعَلْناهُمْ أَئِمَّةً يَهْدُونَ بِأَمْرِنا } [ الأنبياء: 73 ]
3 ـ { هُوَ الَّذِي أَرْسَلَ رَسُولَهُ بِالْهُدى وَدِينِ الْحَقِّ } [ الفتح: 28 ]
4 ـ { وَإِنَّكَ لَتَهْدِي إِلى صِراط مُسْتَقِيم } [ الشورى: 52 ]
5 ـ { وَأَمّا ثَمُودُ فَهَدَيْناهُمْ فَاسْتَحَبُّوا الْعَمى عَلَى الْهُدى } [ فصّلت: 17 ]
6 ـ { وَلَقَدْ جاءَهُمْ مِنْ رَبِّهِمُ الْهُدى } [ النجم: 23 ]
7 ـ { إِنَّ هذَا الْقُرْآنَ يَهْدِي لِلَّتِي هِيَ أَقْوَمُ } [ الإسراء: 9 ]
8 ـ { ... الْقُرْآنُ هُدىً لِلنّاسِ وَبَيِّنات مِنَ الْهُدى وَالْفُرْقانِ } [ البقرة: 185 ]
|
الصفحة 350 |
|
المبحث الثالث
الهداية الإلهية الخاصة
إنّ الهداية الإلهية الخاصة عبارة عن التوفيق والمعونة والتسديد الإلهي للعباد ومنحهم المزيد من الثبات في طريق الحقّ .
مستحقي الهداية الإلهية الخاصة :
إنّ الهداية الإلهية الخاصة تكون وفق مشيئته تعالى ، وإنّ اللّه تعالى يهدي من يشاء بهدايته الخاصة .
ولهذا ورد في القرآن الكريم :
1 ـ { ذلِكَ هُدَى اللّهِ يَهْدِي بِهِ مَنْ يَشاءُ } [ الزمر: 23 ]
2 ـ { إِنَّكَ لا تَهْدِي مَنْ أَحْبَبْتَ وَلكِنَّ اللّهَ يَهْدِي مَنْ يَشاءُ } [ القصص: 56 ]
3 ـ { وَاللّهُ يَهْدِي مَنْ يَشاءُ } [ البقرة: 213 ]
ولكن لا يخفى بأنّ اللّه تعالى حكيم، وهو لا يشاء جُزافاً أو عبثاً، وإنّما تكون مشيئته وفق حكمته وعدله، وقد بيّن اللّه عزّ وجلّ في القرآن الكريم موازين مشيئته تعالى في هداية العباد بهدايته الخاصة .
موازين المشيئة الإلهية في هداية عباده بالهداية الخاصة :
أوّلاً ـ الإيمان باللّه والعمل الصالح (الانتفاع من الهداية التكوينية كالعقل والفطرة واتّباع الهداية التشريعية) ، ولهذا قال تعالى :
1 ـ { إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصّالِحاتِ يَهْدِيهِمْ رَبُّهُمْ بِإِيمانِهِمْ } [ يونس: 9 ]
2 ـ { إِنَّ اللّهَ لَهادِ الَّذِينَ آمَنُوا إِلى صِراط مُسْتَقِيم } [ الحجّ: 54 ]
|
الصفحة 351 |
|
3 ـ { وَمَنْ يُؤْمِنْ بِاللّهِ يَهْدِ قَلْبَهُ } [ التغابن: 11 ]
4 ـ { وَالَّذِينَ اهْتَدَوْا زادَهُمْ هُدىً } [ محمّد: 17 ]
5 ـ { إِنَّهُمْ فِتْيَةٌ آمَنُوا بِرَبِّهِمْ وَزِدْناهُمْ هُدىً * وَرَبَطْنا عَلى قُلُوبِهِمْ }[ الكهف: 13 ـ 14 ]
6 ـ { فَمَنِ اتَّبَعَ هُدايَ فَلا يَضِلُّ وَلا يَشْقى } [ طه: 123 ]
7 ـ { قَدْ جاءَكُمْ مِنَ اللّهِ نُورٌ وَكِتابٌ مُبِينٌ * يَهْدِي بِهِ اللّهُ مَنِ اتَّبَعَ رِضْوانَهُ سُبُلَ السَّلامِ ... } [ المائدة: 15 ـ 16 ]
ثانياً ـ المجاهدة في سبيل اللّه
قال تعالى: { وَالَّذِينَ جاهَدُوا فِينا لَنَهْدِيَنَّهُمْ سُبُلَنا } [ العنكبوت: 69 ]
أي: إنّ الذين يجاهدون أهواءهم النفسية في سبيل اللّه تعالى، ويقفون بصلابة أمام التيارات المعاكسة للحق ، فإنّ اللّه تعالى وعدهم بالهداية الخاصة .
ثالثا ـ الإنابة
قال تعالى: { إِنَّ اللّهَ ... وَيَهْدِي إِلَيْهِ مَنْ أَنابَ } [ الرعد: 27 ]
وقال تعالى: { وَيَهْدِي إِلَيْهِ مَنْ يُنِيبُ } [ الشورى: 13 ]
أي: إنّ من ينيب إلى اللّه تعالى ويرجع إليه ويُقبل عليه ، فإنّ اللّه تعالى يهديه بهدايته الخاصة، فعلّق اللّه تعالى الهداية على من اتّصف بالإنابة والتوجّه إليه سبحانه وتعالى .
النتيجة :
تكون الهداية الإلهية الخاصة فقط للذين يجاهدون ليستضيئوا بنور الهداية التكوينية والتشريعية العامة، فهؤلاء هم المستحقون لهذه الهداية ، وهم الذين تشملهم العناية الربانية، فتعينهم في سيرهم على جادة الصواب، وتسدّد خطاهم في اتّباعهم للحق، وتثبّت أقدامهم على الصراط المستقيم .
|
الصفحة 352 |
|
الآيات القرآنية الدالة على عدم مشيئة اللّه إجبار العباد على الهداية :
1 ـ { وَلَوْ شِئْنا لآتَيْنا كُلَّ نَفْس هُداها } [ السجدة: 13 ]
2 ـ { وَلَوْ شاءَ لَهَداكُمْ أَجْمَعِينَ } [ النحل: 9 ]
3 ـ { وَلَوْ شاءَ اللّهُ لَجَمَعَهُمْ عَلَى الْهُدى } [ الأنعام: 35 ]
4 ـ { وَلَوْ شاءَ رَبُّكَ لآمَنَ مَنْ فِي الأَرْضِ كُلُّهُمْ جَمِيعاً أَ فَأَنْتَ تُكْرِهُ النّاسَ حَتّى يَكُونُوا مُؤْمِنِينَ } [ يونس: 99 ]
5 ـ { وَلَوْ شاءَ اللّهُ ما أَشْرَكُوا } [ الأنعام: 107 ]
تبيّن هذه الآيات بأنّ اللّه تعالى قادر على سلب اختيار الإنسان وإجباره على الهداية، ولو كان كذلك لآمن واهتدى كلّ من في الأرض ، ولكنه تعالى لم يشأ ذلك ، وإنّما شاء أن يجعل الإنسان مختاراً في سلوكه سبيل الهداية أو الضلال ، لأنّ قيمة الهداية تكمن في كونها مستندة إلى الاختيار لا إلى الجبر .
الرد الإلهي على المشركين الذين نسبوا شركهم إلى مشيئة اللّه تعالى:
قال تعالى :
1 ـ { سَيَقُولُ الَّذِينَ أَشْرَكُوا لَوْ شاءَ اللّهُ ما أَشْرَكْنا وَلا آباؤُنا وَلا حَرَّمْنا مِنْ شَيْء كَذلِكَ كَذَّبَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ حَتّى ذاقُوا بَأْسَنا قُلْ هَلْ عِنْدَكُمْ مِنْ عِلْم فَتُخْرِجُوهُ لَنا إِنْ تَتَّبِعُونَ إِلاَّ الظَّنَّ وَإِنْ أَنْتُمْ إِلاّ تَخْرُصُونَ } [ الأنعام: 148 ]
2 ـ { وَقالَ الَّذِينَ أَشْرَكُوا لَوْ شاءَ اللّهُ ما عَبَدْنا مِنْ دُونِهِ مِنْ شَيْء نَحْنُ وَلا آباؤُنا وَلا حَرَّمْنا مِنْ دُونِهِ مِنْ شَيْء كَذلِكَ فَعَلَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ فَهَلْ عَلَى الرُّسُلِ إِلاَّ الْبَلاغُ الْمُبِينُ } [ النحل: 35 ]
توضيح :
إدّعاء المشركين: شاء اللّه تعالى لنا الإشراك به وشاء لنا عبادة غيره .
استنتاج المشركين: لذلك أشركنا باللّه في الصعيد العقائدي والعبادي .
|
الصفحة 353 |
|
احتجاج المشركين: { لَوْ شاءَ اللّهُ ما أَشْرَكْنا } ، { لَوْ شاءَ اللّهُ ما عَبَدْنا مِنْ دُونِهِ }
الموقف الإلهي إزاء هؤلاء المشركين :
1 ـ كذّبهم اللّه في هذا الإدّعاء والاحتجاج ، وقال تعالى: { كَذلِكَ كَذَّبَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ } .
2 ـ أوعدهم اللّه بعذاب، فقال تعالى: { حَتّى ذاقُوا بَأْسَنا } بسبب هذا الكذب الذي كذّبوه على اللّه تعالى .
3 ـ طالبهم اللّه تعالى بالدليل على ما ادّعوه، فقال تعالى لنبيه(صلى الله عليه وآله وسلم): { قُلْ هَلْ عِنْدَكُمْ مِنْ عِلْم فَتُخْرِجُوهُ لَنا إِنْ تَتَّبِعُونَ إِلاَّ الظَّنَّ وَإِنْ أَنْتُمْ إِلاّ تَخْرُصُونَ } .
أي: إنّ كان عندكم دليل أو برهان فاخرجوه، ولكنكم ـ في الواقع ـ لا تعتمدون في ادّعاءاتكم على مستند علمي، وإنّما تتبعون الظنون الكاذبة التي هي أوهام بعيدة عن الحقيقة .
4 ـ ردّ اللّه تعالى على احتجاجهم بقوله: { قُلْ فَلِلّهِ الْحُجَّةُ الْبالِغَةُ فَلَوْ شاءَ لَهَداكُمْ أَجْمَعِينَ } [ الأنعام: 149 ] . أي: شاء اللّه تعالى أن يمنحكم الاختيار ، ولو شاء اللّه إجباركم ، لأجبركم على الهداية، ولم يجبركم على الشرك به، وفي هذا حجّة تبلغ صميم الحقيقة، وللّه الحجّة البالغة(1).
الآيات القرآنية الدالة على حرّية مشيئة الإنسان في اختيار الإيمان أو الكفر:
1 ـ { قُلِ الْحَقُّ مِنْ رَبِّكُمْ فَمَنْ شاءَ فَلْيُؤْمِنْ وَمَنْ شاءَ فَلْيَكْفُرْ } [ الكهف: 29 ]
2 ـ { إِنَّ هذِهِ تَذْكِرَةٌ فَمَنْ شاءَ اتَّخَذَ إِلى رَبِّهِ سَبِيلاً } [ الإنسان: 29 ]
3 ـ { اعْمَلُوا ما شِئْتُمْ إِنَّهُ بِما تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ } [ فصّلت: 40 ]
4 ـ { إِنْ تَكْفُرُوا فَإِنَّ اللّهَ غَنِيٌّ عَنْكُمْ وَلا يَرْضى لِعِبادِهِ الْكُفْرَ وَإِنْ تَشْكُرُوا يَرْضَهُ
____________
1- انظر: العقيدة الإسلامية وأسسها، عبد الرحمن حسن جنكه الميداني: ص780 ـ 781 .
|
الصفحة 354 |
|
لَكُمْ } [ الزمر: 7 ]
أي: إنّكم تمتلكون اختيار الإيمان أو الكفر بمحض إرادتكم، وإنّكم غير مسلوبي الإرادة في التلبّس بأيّهما شئتم .
فلو اخترتم الكفر وكفرتم باللّه، فإنّ اللّه غني عنكم، ولكن الكفر سيقودكم إلى الشرّ، واللّه يريد لكم الخير، فلهذا لا يرضى اللّه لعباده الكفر .
ولو اخترتم سبيل الشكر للّه تعالى، فإنّ اللّه أيضاً غني عنكم، ولكن هذا الشكر سيقودكم إلى الخير، واللّه يريد لكم الخير، فلهذا إن تشكروا يرضه لكم .
وهذا ما يدلّ بصراحة على امتلاك الإنسان الاختيار في سلوكه وتصرّفاته(1) .
معاني أُخرى للهداية الإلهية الخاصة
معاني الهداية التي يصح نسبتها إلى اللّه تعالى :
المعنى الأوّل: الإثابة(2)
1 ـ قال تعالى: { إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصّالِحاتِ يَهْدِيهِمْ رَبُّهُمْ بِإِيمانِهِمْ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهِمُ الأَنْهارُ فِي جَنّاتِ النَّعِيمِ } [ يونس: 9 ]
فقوله تعالى: { يَهْدِيهِمْ رَبُّهُمْ بِإِيمانِهِمْ } أي: يثيبهم بإيمانهم ويهديهم طريق الجنة(3) .
2 ـ قال تعالى: { وَالَّذِينَ قُتِلُوا فِي سَبِيلِ اللّهِ فَلَنْ يُضِلَّ أَعْمالَهُمْ * سَيَهْدِيهِمْ وَيُصْلِحُ بالَهُمْ } [ محمّد: 4 ـ 5 ]
فقوله تعالى: { سَيَهْدِيهِمْ } أي: سيثيبهم(4) لأنّ الهداية التي تكون بعد قتلهم
____________
1- انظر: حديث حول الجبر والتفويض، عبد اللّه الموسوي البحراني: مفهوم الجبر والاختيار ، ص39 .
2- انظر: بحار الأنوار ، العلاّمة المجلسي: ج5، كتاب العدل والمعاد، باب 7، تفسير الآيات ، ص172 .
3- انظر: المنقذ من التقليد، سديد الدين الحمصي: ج1، القول في الهدى والضلال، ص188 .
المسلك في أصول الدين ، المحقّق الحلّي: النظر الثاني ، البحث الثالث ، ص91 .
4- انظر: المنقذ من التقليد، سديد الدين الحمصي: ج1، القول في الهدى والضلال، ص188 .
|
الصفحة 355 |
|
هي إثابتهم لا محالة(1) .
3 ـ قال تعالى: { فَمَنْ يُرِدِ اللّهُ أَنْ يَهْدِيَهُ يَشْرَحْ صَدْرَهُ لِلإِسْلامِ } [ الأنعام: 125 ]أي: من يرد اللّه أن يثيبه بإيمانه وطاعته التي فعلها، فإنّ اللّه تعالى يشرح صدره ليطمئن قلبه بالإيمان ويثبت عليه، لأنّ المؤمن إذا انشرح صدره عند قيامه بعمل عبادي، فإنّ هذا الانشراح سيدفعه إلى مواصلة ذلك العمل والتثبّت عليه(2) .
4 ـ قال تعالى: { لَيْسَ عَلَيْكَ هُداهُمْ وَلكِنَّ اللّهَ يَهْدِي مَنْ يَشاءُ } [ البقرة: 272 ]أي: ليس عليك يا رسول اللّه إثابتهم ، ولكن اللّه يثيب من يشاء وفق موازين حكمته وعدله(3) .
5 ـ قال تعالى: { إِنَّكَ لا تَهْدِي مَنْ أَحْبَبْتَ وَلكِنَّ اللّهَ يَهْدِي مَنْ يَشاءُ }[ القصص: 56 ]
أي: إنّك يا رسول اللّه لا تثيب من أحببت، ولكن الإثابة بيد اللّه تعالى، وأ نّه تعالى يثيب وفق مشيئته الحكيمة والعادلة(4) .
المعنى الثاني: إثبات الهداية والحكم بها
قد تعني عبارة "هدى اللّه هؤلاء" أ نّه تعالى أثبت أ نّهم مهتدون وحكم عليهم بهذا الوصف(5) .
____________
1- انظر: بحار الأنوار ، العلاّمة المجلسي: ج5، كتاب العدل والمعاد، باب7، تفسير الآيات، ص172 .
2- انظر: المنقذ من التقليد، سديد الدين الحمصي: ج1، القول في الهدى والضلال، ص191 .
تصحيح اعتقادات الإمامية ، الشيخ المفيد : فصل في الإرادة والمشيئة ، ص51 .
كشف المراد، العلاّمة الحلّي: المقصد الثالث ، الفصل الثالث، المسألة التاسعة، ص436 .
وقد ورد هذا المعنى في حديث عن الإمام علي بن موسى الرضا(عليه السلام) .
راجع: التوحيد، الشيخ الصدوق: باب 35: باب تفسير الهدى والضلالة، ح4، ص237 .
3- انظر: أصول الدين، محمّد حسن آل ياسين: العدل الإلهي، ص180 .
4- انظر: المصدر السابق .
5- انظر: بحار الأنوار ، العلاّمة المجلسي: ج5، كتاب العدل والمعاد، باب 7: تفسير الآيات، ص172 .
|
الصفحة 356 |
|
المعنى الثالث: الإرشاد إلى الجنة
قال تعالى: { مَنْ يَهْدِ اللّهُ فَهُوَ الْمُهْتَدِ وَمَنْ يُضْلِلْ فَلَنْ تَجِدَ لَهُ وَلِيّاً مُرْشِداً }[ الكهف: 17 ]
قال الإمام جعفر بن محمّد الصادق(عليه السلام) حول هذه الآية:
"إنّ اللّه تبارك وتعالى يضلّ الظالمين يوم القيامة عن دار كرامته، ويهدي أهل الإيمان والعمل الصالح إلى جنته، كما قال عزّ وجلّ: { وَيُضِلُّ اللّهُ الظّالِمِينَ وَيَفْعَلُ اللّهُ ما يَشاءُ }[ إبراهيم: 27 ]
وقال عزّ وجلّ: { إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصّالِحاتِ يَهْدِيهِمْ رَبُّهُمْ بِإِيمانِهِمْ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهِمُ الأَنْهارُ فِي جَنّاتِ النَّعِيمِ } [ يونس: 9 ] ..."(1) .
معاني الهداية التي لا يصح نسبتها إلى اللّه تعالى :
المعنى الأوّل: ايصال الإنسان إلى الهداية إجباراً
إنّ تفسير الهداية الإلهية بمعنى إجبار اللّه الإنسان على الهداية وحمله عليها بالقسر والغلبة يتنافي مع اختيار الإنسان في أفعاله ولا ينسجم مع مبدأ التكليف ومبدأ استحقاق الإنسان الثواب والعقاب(2).
المعنى الثاني: خلق الهداية في الإنسان
لا يصح القول بأنّ اللّه تعالى يخلق الهداية في الإنسان من غير أن يكون للإنسان القدرة على الامتناع وقد ناقشنا هذا الموضوع فيما سبق(3) .
____________
1- التوحيد ، الشيخ الصدوق: باب 35 ، ح1، ص236 .
2- للمزيد راجع الفصل السابع ، المبحث الرابع من هذا الكتاب .
3- راجع: الفصل السابع، المبحث السادس من هذا الكتاب .
|
الصفحة 357 |
|
المبحث الرابع
معنى الإضلال
معنى الإضلال (1) :
1 ـ التغييب: يقال: أضللت الشيء إذا غيّبته .
وجاء في القرآن الكريم: { لا يَضِلُّ رَبِّي وَلا يَنْسى } [ طه: 52 ] أي: لا يغيب عن شيء ولا يغيب عنه شيء .
2 ـ التضييع: يقال: أضللته إذا ضيّعته، ويقال: ضلّت ناقتي ، أي: ضاعت ناقتي وتاهت ، ويقال: ضللت الطريق ، أي: ضعت عن الطريق .
3 ـ الهلاك: كقوله تعالى: { ضَلَّ سَعْيُهُمْ فِي الْحَياةِ الدُّنْيا } [ الكهف: 104 ]أي: حبط سعيهم. وكقوله تعالى حكاية عن الدهريين: { وَقالُوا أَ إِذا ضَلَلْنا فِي الأَرْضِ أَ إِنّا لَفِي خَلْق جَدِيد بَلْ هُمْ بِلِقاءِ رَبِّهِمْ كافِرُونَ } [ السجدة: 10 ] أي: أَإِذا هلكنا في الأرض ومتنا وتفتّتت أجزاؤنا أ نُخلق خلقاً جديداً(2).
4 ـ النسيان: كقوله تعالى: { وَاسْتَشْهِدُوا شَهِيدَيْنِ مِنْ رِجالِكُمْ فَإِنْ لَمْ يَكُونا رَجُلَيْنِ فَرَجُلٌ وَامْرَأَتانِ مِمَّنْ تَرْضَوْنَ مِنَ الشُّهَداءِ أَنْ تَضِلَّ إِحْداهُما فَتُذَكِّرَ إِحْداهُمَا الأُخْرى } [ البقرة: 282 ] أي: إذا نسيت إحداهما ذكّرتها الأخرى .
5 ـ وجده ضالاً: يقال: أضللت الشيء إذا وجدته ضالا، ومنه الحديث: أنّ النبي(صلى الله عليه وآله وسلم) أتى قومه فأضلّهم ، أي: وجدهم ضلالا غير مهتدين إلى الحقّ .
6 ـ السبب للضلال والدخول فيه: كما جاء في القرآن الكريم حول الأصنام:
____________
1- وردت المعاني الستة المذكورة في بداية هذا القسم في: لسان العرب، ابن منظور: مادة (ضلل) .
2- انظر: تصحيح اعتقادات الإمامية، الشيخ المفيد: فصل: في الإرادة والمشيئة، ص52 .
|
الصفحة 358 |
|
{ رَبِّ إِنَّهُنَّ أَضْلَلْنَ كَثِيراً مِنَ النّاسِ } [ إبراهيم: 36 ] أي: ربّ إنّ الأصنام أصبحن سبباً لإضلال الكثير، مع العلم بأنّ الأصنام لا تعقل ولا تفعل شيئاً(1).
7 ـ إبطال العمل: كقوله تعالى: { وَالَّذِينَ قُتِلُوا فِي سَبِيلِ اللّهِ فَلَنْ يُضِلَّ أَعْمالَهُمْ }[ محمّد: 4 ] أي: فلن يبطل اللّه أعمالهم ، وكقوله تعالى: { وَأَضَلَّ أَعْمالَهُمْ [} محمّد: 8 ] أي: أبطل أعمالهم لسوء نواياهم وتلبّسها بالرياء والنفاق(2).
____________
1- انظر: بحار الأنوار ، العلاّمة المجلسي: ج5، كتاب العدل والمعاد، باب7، ح48، ص208 .
2- انظر: كشف المراد ، العلاّمة الحلّي: المقصد الثالث، الفصل الثالث ، المسألة التاسعة ، ص436.
المسلك في أصول الدين، المحقّق الحلّي: النظر الثاني ، البحث الثالث، ص91 .
|
الصفحة 359 |
|
المبحث الخامس
نسبة إضلال العباد إلى اللّه تعالى
إنّ إضلال اللّه لبعض العباد عبارة عن خذلانهم وتركهم لشأنهم وإيكالهم إلى أنفسهم وسلب التوفيق والعناية والتسديد منهم ، وحرمانهم من الهداية الخاصة .
مستحقي هذا النوع من الإضلال :
إنّ إضلال اللّه لبعض العباد يكون وفق مشيئته تعالى ، وإنّ اللّه تعالى يضل من يشاء .
ولهذا ورد في القرآن الكريم :
1 ـ { إِنَّ اللّهَ يُضِلُّ مَنْ يَشاءُ } [ الرعد: 27 ]
2 ـ { فَيُضِلُّ اللّهُ مَنْ يَشاءُ } [ إبراهيم: 4 ]
ولكن لا يخفى بأنّ اللّه تعالى حكيم ، وهو لا يشاء جزافاً أو عبثاً، وإنّما تكون مشيئته وفق حكمته وعدله ، وقد بيّن اللّه عزّ وجل في القرآن الكريم موازين مشيئته تعالى في إضلال بعض العباد وحرمانهم من الهداية الخاصة .
موازين مشيئته تعالى في إضلال العباد وحرمانهم من الهداية الخاصة :
أوّلاً : الكفر
قال تعالى :
1 ـ { كَذلِكَ يُضِلُّ اللّهُ الْكافِرِينَ } [ غافر: 74 ]
2 ـ { وَإِنَّ اللّهَ لا يَهْدِي الْقَوْمَ الْكافِرِينَ } [ النحل: 107 ]
3 ـ { وَاللّهُ لا يَهْدِي الْقَوْمَ الْكافِرِينَ } [ البقرة: 264 ]
4 ـ { إِنَّ اللّهَ لا يَهْدِي مَنْ هُوَ كاذِبٌ كَفّارٌ } [ الزمر: 3 ]
|
الصفحة 360 |
|
ثانياً : الظلم
قال تعالى :
1 ـ { وَيُضِلُّ اللّهُ الظّالِمِينَ } [ إبراهيم: 27 ]
2 ـ { إِنَّ اللّهَ لا يَهْدِي الْقَوْمَ الظّالِمِينَ } [ المائدة: 51 ]
3 ـ { وَاللّهُ لا يَهْدِي الْقَوْمَ الظّالِمِينَ } [ البقرة: 258 ]
ثالثاً: الفسق
قال تعالى :
1 ـ { وَما يُضِلُّ بِهِ إِلاَّ الْفاسِقِينَ } [ البقرة: 26 ]
2 ـ { وَاللّهُ لا يَهْدِي الْقَوْمَ الْفاسِقِينَ } [ المائدة: 108 ]
رابعاً : الإسراف والارتياب
قال تعالى: { كَذلِكَ يُضِلُّ اللّهُ مَنْ هُوَ مُسْرِفٌ مُرْتابٌ } [ غافر: 34 ]
خامساً : الانحراف عن الحقّ
قال تعالى: { فَلَمّا زاغُوا أَزاغَ اللّهُ قُلُوبَهُمْ } [ الصف: 5 ]
سادساً : الاستكبار
قال تعالى: { كَذلِكَ يَطْبَعُ اللّهُ عَلى كُلِّ قَلْبِ مُتَكَبِّر جَبّار } [ غافر: 35 ]
|
الصفحة 361 |
|
معاني الإضلال التي لا يصح نسبتها إلى اللّه تعالى
المعنى الأوّل: الإغواء والتوجيه نحو الباطل(1) .
الآيات القرآنية المشيرة إلى هذا المعنى من الإضلال :
1 ـ { وَأَضَلَّ فِرْعَوْنُ قَوْمَهُ وَما هَدى } [ طه: 79 ]
2 ـ { وَأَضَلَّهُمُ السّامِرِيُّ } [ طه: 85 ]
3 ـ { وَما أَضَلَّنا إِلاَّ الْمُجْرِمُونَ } [ الشعراء: 99 ]
4 ـ { رَبَّنا إِنّا أَطَعْنا سادَتَنا وَكُبَراءَنا فَأَضَلُّونَا السَّبِيلاَ } [ الأحزاب: 67 ]
5 ـ { وَدَّتْ طائِفَةٌ مِنْ أَهْلِ الْكِتابِ لَوْ يُضِلُّونَكُمْ وَما يُضِلُّونَ إِلاّ أَنْفُسَهُمْ وَما يَشْعُرُونَ } [ آل عمران: 69 ]
6 ـ { وَاللّهُ يُرِيدُ أَنْ يَتُوبَ عَلَيْكُمْ وَيُرِيدُ الَّذِينَ يَتَّبِعُونَ الشَّهَواتِ أَنْ تَمِيلُوا مَيْلاً عَظِيماً } [ النساء: 27 ]
7 ـ { وَيُرِيدُ الشَّيْطانُ أَنْ يُضِلَّهُمْ ضَلالاً بَعِيداً } [ النساء: 60 ]
8 ـ { وَلَقَدْ أَضَلَّ مِنْكُمْ جِبِلاًّ كَثِيراً} [ يس: 62 ]
9 ـ { كَالَّذِي اسْتَهْوَتْهُ الشَّياطِينُ فِي الأَرْضِ حَيْرانَ لَهُ أَصْحابٌ يَدْعُونَهُ إِلَى الْهُدَى ائْتِنا قُلْ إِنَّ هُدَى اللّهِ هُوَ الْهُدى } [ الأنعام: 71 ]
10 ـ { وَمِنَ النّاسِ مَنْ يُجادِلُ فِي اللّهِ بِغَيْرِ عِلْم وَيَتَّبِعُ كُلَّ شَيْطان مَرِيد * كُتِبَ عَلَيْهِ أَنَّهُ مَنْ تَوَلاّهُ فَأَنَّهُ يُضِلُّهُ وَيَهْدِيهِ إِلى عَذابِ السَّعِيرِ } [ الحجّ: 3 ـ 4 ]
أي: إنّ من يتّبع الشيطان فإنّه يضلّه ، أي: يغويه ويصوّر له الباطل بصورة الحقّ ، ويزيّن له الانحراف عن المنهج المستقيم، ويزيّنه له ويوصله إلى عذاب السعير عن طريق ما يوسوس له .
____________
1- انظر: كشف المراد ، العلاّمة الحلّي: المقصد الثالث ، الفصل الثالث ، المسألة التاسعة ، ص435 .
المنقذ من التقليد، سديد الدين الحمصي: ج1، القول في الهدى والضلال ، ص189 .
|
الصفحة 362 |
|
أدلة عدم صحة نسبة هذا المعنى من الإضلال إلى اللّه تعالى :
1 ـ إنّ هذا المعنى من الإضلال قبيح ، واللّه تعالى منزّه عن فعل القبيح(1) .
2 ـ إنّ اللّه تعالى ـ كما جاء في الآيات القرآنية التي ذكرت آنفاً ـ ذم إبليس وفرعون والسامري والمجرمين والطغاة على إضلالهم الناس ، فكيف يصح أن يكون مضلاًّ للعباد بهذا المعنى الذي ذمّ به هؤلاء ؟
3 ـ إنّ من يتصف تارة بالإضلال ويتصف تارة أُخرى بالهدى لا يمكن الوثوق بأمره ونهيه ، فتبطل بذلك الشرائع الإلهية، ولهذا ينبغي تنزيه اللّه تعالى عن الإضلال بمعنى الإغواء والتوجيه نحو الباطل .
4 ـ إنّ هذا المعنى من الإضلال يتنافى مع هداية اللّه التكوينية والتشريعية للعباد، لأنّ اللّه تعالى منح العباد العقول وأرسل إليهم الأنبياء وأنزل لهم الكتب السماوية، وكان غرضه تعالى من ذلك هداية العباد إلى الحقّ ، فكيف يصح أن يكون مغوياً لهم بعد ذلك وهو الذي أراد هدايتهم بإرادته التشريعية ؟
قال تعالى: { وَما كانَ اللّهُ لِيُضِلَّ قَوْماً بَعْدَ إِذْ هَداهُمْ حَتّى يُبَيِّنَ لَهُمْ ما يَتَّقُونَ }[ التوبة: 115 ]
5 ـ إنّ اللّه تعالى نسب الضلال إلى العبد في العديد من آيات كتابه العزيز ، وبيّن بأنّ العبد لا يضل (أي: لا يتّجه نحو الباطل) إلاّ نتيجة تمسّكه بأسباب الضلال وفعله الاختيارى لما يوجب وقوعه في الضلال .
ومن هذه الآيات القرآنية:
1 ـ { مَنِ اهْتَدى فَإِنَّما يَهْتَدِي لِنَفْسِهِ وَمَنْ ضَلَّ فَإِنَّما يَضِلُّ عَلَيْها }[ الإسراء: 15 ]
2 ـ { قُلْ إِنْ ضَلَلْتُ فَإِنَّما أَضِلُّ عَلى نَفْسِي } [ سبأ: 50 ]
3 ـ { وَمَنْ يَكْفُرْ بِاللّهِ وَمَلائِكَتِهِ وَكُتُبِهِ وَرُسُلِهِ وَالْيَوْمِ الآخِرِ فَقَدْ ضَلَّ ضَلالاً
____________
1- انظر: المصدر السابق: كشف المراد، ص436، المنقذ من التقليد: ص190 .
|
الصفحة 363 |
|
بَعِيداً }[ النساء: 136 ]
4 ـ { إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا وَصَدُّوا عَنْ سَبِيلِ اللّهِ قَدْ ضَلُّوا ضَلالاً بَعِيداً }[ النساء: 167 ]
5 ـ { وَمَنْ يُشْرِكْ بِاللّهِ فَقَدْ ضَلَّ ضَلالاً بَعِيداً } [ النساء: 116 ]
6 ـ { وَمَنْ يَفْعَلْهُ مِنْكُمْ فَقَدْ ضَلَّ سَواءَ السَّبِيلِ } [ الممتحنة: 1 ]
أي: ومن يتّخذ عدو اللّه ولياً فقد ضلَّ سواء السبيل .
المعنى الثاني للإضلال الذي لايصح نسبته إلى اللّه تعالى:إجبارالإنسان على الضلال:
وقد ناقشنا أدلة القول بالجبر والردّ عليها فيما سبق(1) .
النتيجة :
يجد المتأمّل في آيات القرآن الكريم الواردة حول الهداية والإضلال بأنّ هذه الآيات تنقسم إلى قسمين :
1 ـ آيات تبيّن بأنّ المشيئة الإلهية مطلقة في الهداية والإضلال ، وأنّه تعالى لا سلطان ولا نفوذ لأحد عليه ، وأنّه تعالى يهدي من يشاء ويضلّ من يشاء. كقوله تعالى: { فَإِنَّ اللّهَ يُضِلُّ مَنْ يَشاءُ وَيَهْدِي مَنْ يَشاءُ } [ فاطر: 8 ]
2 ـ آيات تبيّن بأنّ المشيئة الإلهية ـ التي لا سلطان لأحد عليها ـ مشيئة عادلة وأنّ هدايته تعالى وإضلاله لا تتمّ إلاّ حسب موازين تنسجم مع صفاته الكمالية ، وأنّه تعالى لا يضلّ إلاّ من استحق الضلال ، ولا يهدي أحداً بهدايته الخاصة إلاّ من استحق هذه الهداية .
وجه الجمع بين هذه الآيات :
لا يوجد أي تعارض بين هذين القسمين من الآيات ، ومنتهى القول :
____________
1- راجع: الفصل السابع، المبحث الرابع والخامس من هذا الكتاب .
|
الصفحة 364 |
|
تبيّن آيات القسم الأوّل بأنّ مشيئة اللّه تعالى مطلقة ولا سلطان لأحد عليها .
وتبيّن آيات القسم الثاني بأنّ مشيئة اللّه تعالى المطلقة مشيئة عادلة وحكيمة .
المنهج الصحيح لتفسير هذه الآيات:
إنّ المنهج الصحيح لتفسير الآيات القرآنية الواردة حول الهداية والإضلال هو التفسير الموضوعي الذي يتم عن طريقه النظر إلى مجموع النصوص القرآنية الواردة في هذا المجال، وربط الآيات بعضها ببعض، وجعل بعضها قرينة للاُخرى، والتنسيق بين معانيها من أجل التعرّف على مقصود القرآن الكريم.
وأما الاقتصار على بعض الآيات وإهمال البعض الآخر، فإنّه لا ينتج سوى الفهم الخاطئ والابتعاد عن العقيدة التوحيدية النقية.
|
الصفحة 365 |
|