المؤلفات » العدل عند مذهب أهل البیت (علیهم السلام)
الفصل الأوّل
العدل في أفعال اللّه تعالى
معنى العدل
أدلة عدم فعله تعالى للقبيح
مناقشة رأي الأشاعرة حول فعله تعالى للقبيح
قدرة اللّه تعالى على فعل القبيح
عدم فعله تعالى للظلم
|
الصفحة 14 |
|
|
الصفحة 15 |
|
المبحث الأوّل
معنى العدل
معنى العدل (في اللغة) :
ورد في "لسان العرب": العَدْل: ما قام في النفوس أ نّه مستقيم ، وهو ضدّ الجور .
والعدل في أسماء اللّه تعالى يعني الحكم بالحق . والعدل في الناس يعني المرضي قوله وحُكمه(1).
تنبيه :
"العَدْل" من أسماء اللّه تعالى ، وهو مصدر أُقيم مقام الاسم ، والمقصود منه المبالغة في وصفه تعالى بأ نّه عادل ، أي: كثير العدل(2).
معنى العدل (في الاصطلاح العقائدي) :
العدل يعني تنزيه اللّه تعالى عن فعل القبيح والإخلال بالواجب(3).
معنى التنزيه :
التنزيه يعني البُعد ، ويُقال: اللّه منزّه عن القبيح ، أي: بعيد عنه(4) .
____________
1- انظر: لسان العرب ، ابن منظور: مادة (عدل) .
2- انظر: مجمع البحرين ، فخر الدين الطريحي: 3/133 .
3- انظر: النكت الاعتقادية ، الشيخ المفيد: الفصل الثاني ، ص32.
شرح جمل العلم والعمل ، الشريف المرتضى: أبواب العدل ، ص 83 .
قواعد المرام ، ميثم البحراني: القاعدة الخامسة ، الركن الأوّل ، البحث الخامس ، ص111 .
نهج الحقّ، العلاّمة الحلّي: المسألة الثالثة ، مبحث أنّ اللّه تعالى لا يفعل القبيح ، ص85 .
شرح الأصول الخمسة ، القاضي عبد الجبار: الأصل الثاني ، الفصل الثاني ، ص 301 .
4- انظر: لسان العرب ، ابن منظور: مادة (نزه) .
|
الصفحة 16 |
|
معنى الفعل القبيح :
الفعل القبيح هو الفعل الذي يستحق فاعله الذم، ويستحق تاركه المدح(1) .
معنى الفعل الواجب :
الفعل الواجب هو الفعل الذي يستحق فاعله المدح، ويستحق تاركه الذم(2) (3) .
معنى الوجوب على اللّه تعالى :
إنّ قولنا "الوجوب على اللّه تعالى" لا يعني أ نّه تعالى محكوم بأوامر غيره ، بل يعني أنّنا نكتشف عن طريق التدبّر في صفاته تعالى أ نّه حكيم ، وتقتضي حكمته أن يفعل كذا ، لأنّ عدم فعله له يؤدّي إلى الإخلال بحكمته(4) .
الآيات القرآنية المتضمّنة لمعنى الوجوب على اللّه تعالى :
1 ـ { كَتَبَ رَبُّكُمْ عَلى نَفْسِهِ الرَّحْمَةَ } [ الأنعام: 54 ]
أي: أوجب اللّه تعالى على نفسه الرحمة(5).
2 ـ { وَعَلَى اللّهِ قَصْدُ السَّبِيلِ } [ النحل: 9 ]
أي: يجب على اللّه تعالى بيان الطريق المستقيم للعباد(6) .
3 ـ { إِنَّ عَلَيْنا لَلْهُدى } [ الليل: 12 ]
أي: يجب علينا بمقتضى العدل أن نهدي العباد إلى الحقّ ببعث الرسل ونصب الدلائل(7) .
4 ـ { وَأَنَّ عَلَيْهِ النَّشْأَةَ الأُخْرى } [ النجم: 47 ]
____________
1 و 2) انظر المنقذ من التقليد ، سديد الدين الحمصي: ج1 ، القول في العدل ، ص152 .
الاعتماد، مقداد السيوري: الركن الثاني، ص 75 .
3- ينبغي تقييد المدح والذم في هذا المجال بمرتبة خاصة لئلاّ يشمل المستحب .
انظر: صراط الحقّ ، محمّد آصف المحسني: ج2 ، المقصد الخامس ، القاعدة الاُولى ، ص 167 .
4- للمزيد راجع: تلخيص المحصّل ، نصير الدين الطوسي: الركن الثالث ، القسم الثالث ، ص342 .
5- انظر: الميزان، محمّد حسين الطباطبائي: ج7 ، تفسير آية 12 و 54 من سورة الأنعام ، ص 27 و 105 .
6- انظر: تفسير القرآن الكريم، عبد اللّه شبّر: تفسير آية 9 من سورة النحل .
7- انظر: المصدر السابق: تفسير آية 12 من سورة الليل .
|
الصفحة 17 |
|
أي: يجب على اللّه تعالى أن يجعل داراً أُخرى إضافة إلى دار الدنيا ليقع فيها الجزاء والانتصاف(1) .
دليل عدم إخلاله تعالى بالواجب :
إنّ اللّه تعالى لا يخل بالواجب ، لأنّ الإخلال به قبيح(2) . وسنبيّن لاحقاً أدلة عدم فعله تعالى للقبيح .
معنى العدل الإلهي في أحاديث أئمة أهل البيت(عليهم السلام) :
1 ـ قال الإمام علي(عليه السلام): "العدل أن لا تتهمه"(3).
2 ـ قال الإمام جعفر بن محمّد الصادق(عليه السلام): "أمّا العدل فأن لا تنسب إلى خالقك ما لامك عليه"(4) .
تنبيهات :
1 ـ إنّ "العدل" من صفات اللّه "الفعلية" ، وليس من صفاته "الذاتية"(5)، لأنّ "العدل" عبارة عن تنزيه اللّه تعالى عن فعل القبيح والإخلال بالواجب، وهذا الأمر منتزع من مقام الفعل .
____________
1- انظر: مجمع البيان، الشيخ الطبرسي: ج9 ، تفسير آية 47 من سورة النجم ، ص 276 .
2- انظر: قواعد المرام، ميثم البحراني: القاعدة الخامسة، الركن الأوّل، البحث الخامس، ص 111 .
إرشاد الطالبين ، مقداد السيوري: مباحث العدل، الفصل الخامس ، البحث الثالث ، ص260 .
الاعتماد، مقداد السيوري: الركن الثاني، ص 75
3- نهج البلاغة ، الشـريف الرضي : باب المختار من حكم أمير المؤمنين (عليه السلام) ، الحكمة 470 ، ص755 .
4- التوحيد ، الشيخ الصدوق: باب 5، ح1 ، ص93 .
5- الفرق بين الصفات الذاتية والصفات الفعلية:
الصفات الذاتية | الصفات الفعلية |
منتزعة من الذات الإلهية | منتزعة من الأفعال الإلهية |
قديمة بقدم الذات الإلهية | حادثة بحدوث الأفعال الإلهية |
لا يصح سلبها عنه تعالى أبداً | يصلح سلبها عنه تعالى في بعض الأحيان |
فلا يقال: اللّه غير عالم وغير قادر في | فيقال: اللّه لا يخلق ولا يرزق في |
بعض الأحيان | بعض الأحيان |
انظر: الكافي، الشيخ الكليني: ج1 ، كتاب التوحيد ، باب صفات الذات ، ص 111 .
|
الصفحة 18 |
|
2 ـ إنّ العدل الإلهي صفة لكيفية تعامل اللّه تعالى مع الكون بما فيه الإنسان ، ولهذا اكتسبت هذه الصفة أهمية خاصة وموقعاً مميّزاً ، لأنّ بها يتمّ تحديد نوعية موقف تعامل اللّه عزّ وجلّ مع الإنسان .
3 ـ إنّ "العدل الإلهي" لا يتنافى مع "حرّية اللّه في أفعاله" .
وليس "العدل" قيداً لأفعال اللّه عزّ وجلّ .
لأنّ "الحرية الإلهية" منزّهة عن النقص والظلم والقبائح .
ولا يفعل اللّه تعالى إلاّ الحسن .
ولا يضع الأُمور إلاّ في مواضعها اللائقة بها .
ولهذا لا يكون بين "حرية اللّه في أفعاله" و"العدل الإلهي" أيّ تضاد أو تناف.
الفرق بين "العدل" و "المساواة" :
إنّ "المساواة" تعني مراعاة التساوي بين طرفين أو بين عدّة أطراف .
ولكن "العدل" يعني إعطاء كلّ ذي حقّ حقّه .
والفرق بينهما:
إنّ أموراً من قبيل: "مراعاة الاستحقاق" و"أخذ الأولويات بنظر الاعتبار" و"إعطاء كلّ كائن نصيبه بموجب ما يستحق":
تُشترط في "العدل" .
ولكنها لا تُشترط في "المساواة" .
مثال :
لايعني مراعاة العدل بين تلاميذ الصف الواحد أن يُعطى الجميع درجات متساوية.
ولا يعني مراعاة العدل بين العمّال والموظفين أن يُعطى الجميع أُجوراً متساوية .
بل يعني مراعاة العدل في هذا المقام:
إعطاء كلّ تلميذ الدرجة التي تستحقها معلوماته ولياقته العلمية .
|
الصفحة 19 |
|
وإعطاء كلّ عامل أُجرته بحسب أهمية العمل الذي يقوم به .
تنبيه :
إنّ الحكمة في جعل اللّه الاختلاف والفوارق بين الناس وعدم المساواة بينهم في إعطاء المواهب والنعم هو لأ نّه تعالى جعل الحياة الدنيا داراً للبلاء والاختبار، فخلق نظاماً يؤدّي إلى رفع بعض الناس فوق البعض الآخر، ليبلوهم أيّهم أحسن عملا ، وليرى مستوى صبرهم وشكرهم ومدى نجاحهم في الاختبار الإلهي .
لماذا اعتبر العدل أصلا من أصول مذهب التشيّع ؟
الدليل الأوّل :
بالعدل يتمّ التوحيد، ومن دون إثبات العدل لا يمكن إثبات النبوّة والإمامة والمعاد(1).
قال العلاّمة الحلّي:
"اعلم أنّ هذا الأصل [ العدل ] عظيم تبتني عليه القواعد الإسلامية، بل الأحكام الدينية مطلقاً ، وبدونه لا يتمّ شيء من الأديان"(2).
توضيح ذلك :
1 ـ الصلة بين "العدل" و"النبوّة" :
إنّ العدل الإلهي هو الذي يقتضي:
أوّلا: إرسال اللّه الأنبياء بالهدى ودين الحقّ .
ثانياً: وثوق الناس بهؤلاء الأنبياء، واطمئنانهم بأنّ هؤلاء هم الذين أرسلهم اللّه وسدّدهم بالمعاجز ، وأنّ هدفهم الخير والصلاح لهم .
ولولا العدل الإلهي لأمكن القول:
____________
1- انظر: حقّ اليقين ، عبد اللّه شبّر: كتاب العدل، الفصل الأوّل ، ص 83 .
2- نهج الحقّ ، العلاّمة الحلّي: المسألة الثالثة، المبحث الحادي عشر ، ص 72 .
|
الصفحة 20 |
|
أوّلا: قد لا يرسل اللّه تعالى أحداً من رسله إلى العباد، فيترك الناس لشأنهم ، ثمّ يفعل بهم كيفما يشاء ، فيبطل أصل النبوّة .
ثانياً: قد يسدّد اللّه تعالى الكذّابين والدجّالين بالمعجزة، أو يرسل رسلا من أجل إغواء العباد وإلقائهم في التهلكة ، فلا يمكن بعد ذلك الوثوق بالأنبياء .
2 ـ الصلة بين "العدل" و "الإمامة" :
إنّ العدل الإلهي هو الذي يقتضي اصطفاء اللّه تعالى الأئمة والأوصياء بعد رسول اللّه(صلى الله عليه وآله وسلم) للحفاظ على ما جاء به الرسول(صلى الله عليه وآله وسلم) والتصدّي من بعده للقيام بالمسؤوليات التي كانت على عاتقه(صلى الله عليه وآله وسلم) ما عدا النبوّة .
ولولا العدل الإلهي لجاز له تعالى أن يترك الأُمة من بعد رسول اللّه(صلى الله عليه وآله وسلم) سُدى ، ويتركهم يتخبّطون في الضلال من دون وجود أحد يرشدهم إلى الحقّ والصواب .
3 ـ الصلة بين "العدل" و "المعاد" :
إنّ الاعتقاد بالعدل الإلهي هو الذي يستلزم الاطمئنان بالوعد الإلهي وتحقّق المعاد وإثابته تعالى للمحسن وعقوبته للمسيء في دار الآخرة.
ولولا ثبوت العدل الإلهي لم يمكن الوثوق بوعد اللّه تعالى ، ولأمكن القول بأ نّه تعالى قد يلغي المعاد أو يقيمه ولكنه يتصرّف بالعباد كيفما يشاء ، فيلقي الأنبياء في نار جهنم ويدخل الطغاة والمجرمين في جنّة النعيم ! فيبطل بذلك أصل "المعاد" .
الدليل الثاني :
إنّ الأشاعرة فسّروا "العدل الإلهي" بصورة تؤدّي إلى نفيه ، فوقف أتباع مذهب أهل البيت(عليهم السلام) بقوة أمام هذا التفسير ، ودافعوا عن "العدل الإلهي" بحيث عُرفوا بالعدلية ، واعتبر "العدل الإلهي" أصلا من أصول مذهبهم(1) .
____________
1- اشتهر الخلاف حول مسألة العدل الإلهي بين المسلمين من بداية القرن الثاني للهجرة ، واستمر هذا الخلاف بحيث أصبحت هذه المسألة علامة بارزة على أنّ المعتقد بها:
"شيعي" إذا كان من أتباع مذهب أهل البيت(عليهم السلام) .
"معتزلي" إذا كان من أتباع مذهب أهل السنة .
|
الصفحة 21 |
|
المبحث الثاني
أدلة عدم فعله تعالى للقبيح
الدليل الأوّل :
لا يخلو الداعي إلى فعل القبيح عن أربع صور ، وهي:
الاُولى: الجهل بالقبح: وهي أن يكون فاعل القبيح جاهلا بقبح ما يفعله .
الثانية: العجز عن تركه: وهي أن يكون فاعل القبيح عالماً بقبح ما يفعله ، ولكنه عاجز عن تركه .
الثالثة: الاحتياج إليه: وهي أن يكون فاعل القبيح عالماً بقبح ما يفعله ، وغير عاجز عن تركه ، ولكنه محتاج إلى فعله .
الرابعة: فعله عبثاً: وهي أن يكون فاعل القبيح عالماً بقبح ما يفعله ، وغير عاجز عن تركه، وغير محتاج إلى فعله ، ولكنه يفعله عبثاً .
واللّه سبحانه وتعالى منزّه عن جميع هذه الصور (وهي الجهل والعجز والاحتياج والعبث) ، لأنّه تعالى هو العالم والقادر والغني والحكيم على الإطلاق ، فلهذا يستحيل عليه فعل القبيح(1) .
وذكر معظم علماء الشيعة:
أنّ اللّه تعالى لا يفعل القبيح لعلمه بقبحه واستغنائه عنه(2) .
____________
1- انظر: نهج الحقّ ، العلاّمة الحلّي: المسألة الثالثة ، مبحث: أن اللّه تعالى لا يفعل القبيح ، ص 85 .
2- انظر: الاقتصاد ، الشيخ الطوسي: القسم الثاني، الفصل الأوّل ، ص 88 .
المسلك في أصول الدين ، المحقّق الحلّي: النظر الثاني، البحث الثالث، ص90 .
قواعد المرام ، ميثم البحراني ،: القاعدة الخامسة، الركن الأوّل ، البحث الخامس ، ص111 .
مناهج اليقين ، العلاّمة الحلّي: المنهج السادس ، البحث الثالث ، ص243 .
كشف المراد، العلاّمة الحلّي: المقصد الثالث ، المسألة الثانية ، ص420 .
إرشاد الطالبين ، مقداد السيوري: مباحث العدل ، إثبات أنّ الباري لا يفعل القبيح ، ص260 .
|
الصفحة 22 |
|
تنبيه :
إنّ اللّه تعالى لا يفعل القبيح لعدم وجود الداعي لفعله .
أمّا فعله تعالى للحسن ، فليس الداعي احتياجه تعالى إليه ، وإنّما يفعل اللّه الحسن لحسنه لا للحاجة إليه(1) .
الدليل الثاني :
إنّ اللّه تعالى حكيم ، وهذه الحكمة الإلهية تستلزم عدم فعله تعالى للقبيح ، لأنّ فعل القبيح لا ينسجم مع الحكمة .
الدليل الثالث :
يلزم فعله تعالى للقبيح عدم الجزم بصدق الأنبياء، لأنّ دليل النبوّة مبني على إظهار اللّه المعجزة على يد النبي، فلو كان اللّه فاعلا للقبيح ، فإنّه قد يُظهر المعجزة على يد من يدّعي النبوّة كذباً ، فلا يمكن بعد ذلك الوثوق بصحة نبوّة أي نبي(2) .
الدليل الرابع :
يلزم فعله تعالى للقبيح جواز صدور الكذب منه تعالى ، لأنّ الكذب نوع من أنواع فعل القبيح ، ومنه يلزم عدم الوثوق بوعد الله ووعيده تعالى، فينتفي الجزم بوقوع ما أخبر بوقوعه من الثواب على الطاعة والعقاب على المعصية(3) .
____________
1- انظر: شرح جمل العلم والعمل، الشريف المرتضى: أبواب العدل، في أ نّه تعالى لا يفعل القبيح ، ص 85 .
تقريب المعارف ، أبو الصلاح الحلبي: مسائل العدل ، مسألة: في كونه تعالى لا يفعل القبيح ، ص 102.
المنقذ من التقليد ، سديد الدين الحمصي: القول في العدل ، ص 161 .
2- انظر: مناهج اليقين ، العلاّمة الحلّي: المنهج السادس، البحث الثالث، ص243.
نهج الحقّ ، العلاّمة الحلّي: المسألة الثالثة، مبحث أنّ اللّه تعالى لا يفعل القبيح ، المطلب الثالث ، ص 86 .
3- انظر: النكت الاعتقادية، الشيخ المفيد : الفصل الثاني ، ص33 .
الرسالة السعدية، العلاّمة الحلّي : القسم الأوّل ، المسألة السادسة ، البحث الثاني، ص57.
ومن هنا تتثّبط عزيمة الإنسان عن طاعة أوامر اللّه تعالى واجتناب نواهيه، وسيقول الإنسان: ما هي فائدة عبادتي للّه تعالى، وقد يدخلني اللّه تعالى في النار رغم عبادتي له ، لأ نّه يفعل ما يشاء ، ومنها فعل القبيح !
|
الصفحة 23 |
|
الدليل الخامس :
يلزم من فعله تعالى للقبيح جواز وصفه تعالى بالظلم والجور والعدوان ، لأ نّه تعالى لو كان فاعلا للقبيح لأمكن أن يصدر منه الظلم والجور والعدوان ، لأ نّها من جملة القبائح .
تنبيه :
بما أنّ اللّه تعالى منزّه عن فعل القبيح ، فلهذا لا يصح نسبة أيّ فعل قبيح إليه تعالى ، وبما أ نّنا نجد ارتكاب بعض العباد للأفعال القبيحة، فلهذا لا يصح نسبة هذه الأفعال إلى اللّه تعالى ، بل ينبغي نسبتها إلى العباد ، ويكون كلّ إنسان هو المسؤول عن الفعل القبيح الذي يصدر عنه(1).
____________
1- انظر: المنقذ من التقليد ، سديد الدين الحمصي: ج1، القول في العدل ، ص 164 .
|
الصفحة 24 |
|
المبحث الثالث
مناقشة رأي الأشاعرة حول فعله تعالى للقبيح
ذهب الأشاعرة إلى أنّ اللّه تعالى يفعل ما يشاء ، وكلّ ما يفعله اللّه تعالى فهو حسن ، وإن حكم العقل بقبح هذا الفعل(1) .
أدلة الأشاعرة :
الدليل الأوّل :
إنّ الفعل لا يكون قبيحاً إلاّ بعد نهي الشارع عنه ، وبما أنّ أفعال اللّه تعالى لا تقع في إطار أوامر ونواهي الشرع ، فلهذا لا يمكن تصوّر فعل القبيح في أفعال اللّه تعالى .
قال أبو الحسن الأشعري:
"الدليل على أنّ كلّ ما فعله [ تعالى ] فله فعله أ نّه ... لا فوقه مبيح، ولا آمر، ولا زاجر، ولا حاظر، ولا من رسم له الرسوم، وحدّ له الحدود ، فإذا كان هذا هكذا لم يقبح منه شيء، إذ كان الشيء إنّما يقبح منّا لأ نّا تجاوزنا ما حدّ ورسم لنا ، وأتينا ما لم نملك إتيانه ، فلمّا لم يكن الباري ... تحت أمر لم يقبح منه شيء"(2).
يرد عليه :
1 ـ إنَّ بعض الأفعال قبيحة بذاتها، ولا يعود منشأ قُبحها إلى حكم الشرع .
وسنبحث هذا الموضوع بصورة مفصّلة في الفصل القادم .
____________
1- انظر: المواقف ، عضد الدين الإيجي : ج3 ، الموقف 5 ، المرصد 6، المقصد 6 ، ص 283 .
شرح المقاصد، سعد الدين التفتازاني: ج4، المقصد 5، الفصل 5، المبحث 4، ص294.
2- اللمع ، أبو الحسن الأشعري: الباب السابع، ص116 .
|
الصفحة 25 |
|
2 ـ "لو كان القبيح إنّما يقبح للنهي، لوجب فيمن لا يعرف النهي ولا الناهي أن لا يعرف شيئاً من القبائح"(1).
وبعبارة اُخرى: لو كان نهي الشرع هو المنشأ الوحيد لقبح جميع الأفعال، فينبغي أن لا يعتقد منكر الشرع بقبح شيء، لأ نّه لا يؤمن بالشرع فلا يكون عنده شيءٌ قبيحٌ .
ولكننا نرى غير الملتزمين بالدين ـ على اختلاف فصائلهم ـ :
يصفون بعض الأفعال بالقبح ويعتقدون بأ نّهم ملزمون بتركها .
ويسند هؤلاء تقبيحهم إلى العقل من غير أن يكون لحكم الشرع أيّ أثر في هذا التقبيح.
3 ـ "لو كان القبيح يقبح للنهي ، لوجب أن يكون الحسن يحسن للأمر ، فيلزم عليه أن لا توصف أفعاله تعالى بالحسن أيضاً، لأ نّه [ تعالى ] كما لم ينه عن شيء، [ فإنّه تعالى ] لم يُؤمر بشيء"(2).
الدليل الثاني للأشاعرة :
"الدليل على أنّ كلّ ما فعله [ تعالى ] ، فله فعله: أ نّه المالك القاهر الذي ليس بمملوك ... فإذا كان هذا هكذا لم يقبح منه شيء"(3).
وقال الشهرستاني:
"أمّا العدل فعلى مذهب أهل السنة: أنّ اللّه عدل في أفعاله ، بمعنى أ نّه متصرّف في مُلكه ومِلكه ، يفعل ما يشاء ويحكم ما يريد"(4).
بعبارة أُخرى :
____________
1- المنقذ من التقليد ، سديد الدين الحمصي: ج1، القول في العدل ، ص 155 .
2- المصدر السابق .
3- اللمع ، أبو الحسن الأشعري: الباب السابع، ص116 .
4- الملل والنحل ، عبد الكريم الشهرستاني: ج1، الباب الأوّل ، ص 42 .
|
الصفحة 26 |
|
لا يمكن تصوّر فعل القبيح بالنسبة إلى اللّه تعالى ، لأ نّه تعالى هو المالك لكلّ شيء على الإطلاق ، ويعتبر أي تصرّف له تعالى في العالم، إنّما هو تصرّف في شيء يملكه ، وله أن يفعل به كيفما يشاء .
يرد عليه :
إنّ ملكية الشيء لا تعني امتلاك المالك حقّ التصرّف بها على خلاف موازين الحكمة والعدل .
ولهذا نجد العقلاء يذمّون من يلقي أمواله في البحر بلا سبب ، ويحكمون بسفاهته مع علمهم بمالكيته لتلك الأموال .
بعبارة أُخرى :
إنّ "الملكية" لا تبيح فعل القبائح العقلية أصلا .
ولهذا يستنكر العقلاء على المالك الذي يعذّب عبده بلا جهة، ويعتبرونه سفيهاً يستحق اللوم إزاء فعله القبيح هذا .
واللّه تعالى على رغم كونه مالكاً لكلّ شيء وقادراً على كلّ شيء ، ولكنه مع ذلك "حكيم"، وحكمته تنزّهه عن فعل القبيح .
ولهذا قال تعالى: { وَما كانَ رَبُّكَ لِيُهْلِكَ الْقُرى بِظُلْم وَأَهْلُها مُصْلِحُونَ }[ هود: 117 ].
|
الصفحة 27 |
|
المبحث الرابع
قدرة اللّه تعالى على فعل القبيح
قال الشيخ المفيد: "إنّ اللّه ـ جلّ جلاله ـ قادر على خلاف العدل ، كما أ نّه قادر على العدل ، إلاّ أ نّه لا يفعل جوراً ولا ظلماً ولا قبيحاً ، وعلى هذا جماعة الإمامية"(1) .
أدلة قدرته تعالى على فعل القبيح :
1 ـ إنّ اللّه تعالى قادر على كلّ مقدور ، والقبيح مقدور ، فيثبت أ نّه تعالى قادر على فعل القبيح(2).
2 ـ إنّ "الفعل الحسن" من جنس "الفعل القبيح" ، والقادر على أحد الجنسين يكون قادراً على الآخر(3) .
مثال :
ألف ـ إنّ قعود الإنسان في دار غيره غصباً من جنس قعوده فيها باذن مالكها، ولكن أحدهما قبيح والآخر حسن .
ب ـ إنّ اللّه تعالى قادر ـ بلا خلاف ـ على معاقبة العاصي ، ولا يخفى بأنّ هذه القدرة لم تتحقّق عند وقوع المعصية من المكلّف ، بل كان اللّه تعالى قادراً على
____________
1- أوائل المقالات ، الشيخ المفيد: قول 24، ص 56 .
2- انظر: شرح جمل العلم والعمل ، الشريف المرتضى: باب مايجب اعتقاده في أبواب العدل ، ص83 ـ 84 .
المسلك في أصول الدين ، المحقّق الحلّي: النظر الثاني ، البحث الثالث ، ص 88 .
3- انظر: الملخص ، الشريف المرتضى: الجزء الثاني ، باب الكلام في العدل ، ص325 .
الاقتصاد ، الشيخ الطوسي: القسم الثاني ، الفصل الأوّل ، ص88 .
تقريب المعارف ، أبو الصلاح الحلبي: مسائل العدل ، مسألة في كونه تعالى قادراً على القبيح ، ص99 .
|
الصفحة 28 |
|
المعاقبة قبل ذلك ، وعقوبته تعالى قبل ذلك من جملة الأفعال القبيحة، فثبت أ نّه تعالى قادر على فعل القبيح(1).
3 ـ إنّنا قادرون على فعل القبيح ، واللّه تعالى أقدر منّا في جميع الأحوال ، فيثبت بذلك أ نّه تعالى قادر على فعل القبيح(2).
مناقشة رأي القائلين بعدم قدرة اللّه على فعل القبيح :
ذهب البعض إلى أنّ اللّه تعالى غير قادر على فعل القبيح ، لأ نّه تعالى لو كان قادراً على فعل القبيح لصح منه فعله ، وصحة فعل القبيح منه تعالى دليل على اتّصافه تعالى بالجهل والاحتياج، وهو منزّه عن ذلك(3).
يرد عليه :
1 ـ إنّ امتلاك القدرة على فعل معيّن لا يدل على أنّ صاحب تلك القدرة سيستخدم قدرته في القيام بذلك الفعل .
وإنّما الفعل يتبع الإرادة والاختيار ووجود الداعي و ... .
واللّه تعالى حكيم، وتمنعه حكمته من فعل القبيح على الرغم من امتلاكه القدرة عليه .
2 ـ إنّ الاتّصاف بالجهل والاحتياج يكون مع "فعل القبيح" لا مع "امتلاك القدرة
____________
1- انظر: الملخص ، الشريف المرتضى: الجزء الثاني ، باب الكلام في العدل ، ص325 .
الاقتصاد ، الشيخ الطوسي: القسم الثاني ، الفصل الأوّل ، ص88 .
المنقذ من التقليد ، سديد الدين الحمصي: القول في العدل، ص 153 .
2- انظر : تقريب المعارف ، أبو الصلاح الحلبي: مسألة : في كونه تعالى قادراً على القبيح ، ص100 .
غنية النزوع ، ابن زهرة الحلبي : ج2 ، فصل : في أ نّه تعالى قادر على القبيح و ... ، ص 74 .
3- أشار بعض علمائنا إلى هذا الرأي الذي ذهب إليه بعض أعلام المعتزلة .
انظر : تقريب المعارف ، أبو الصلاح الحلبي : مسألة في كونه تعالى قادراً على القبيح ، ص 100 .
المسلك في أصول الدين، المحقّق الحلّي: النظر الثاني ، البحث الثالث ، ص 89 .
المنقذ من التقليد ، سديد الدين الحمصي: ج1 ، القول في العدل ، ص 154 .
|
الصفحة 29 |
|
على فعله" ، وإنّ عدم فعله تعالى للقبيح ليس لأ نّه غير قادر على فعله ، بل لأ نّه تعالى حكيم وعالم وغني، فلا يريد فعل القبيح(1).
____________
1- انظر: المصدر السابق .
|
الصفحة 30 |
|
المبحث الخامس
عدم فعله تعالى للظلم
معنى الظلم :
"وضع الشيء في غير موضعه ... وأصل الظلم الجور ومجاوزة الحدّ"(1).
أدلة عدم فعله تعالى للظلم :
1 ـ إنّ الظلم ينبثق عن الجهل والحاجة والحقد والعجز والضعف والخوف والعبث وغيرها من الرذائل التي يكون اللّه تعالى منزّهاً عنها، فلهذا يستحيل عليه تعالى الظلم .
2 ـ إنّ اللّه تعالى ذمّ الظالمين وندّد بهم ونهى الناس عن الظلم ، فكيف يكون سبحانه ظالماً للعباد؟!
3 ـ إنّ الظلم قبيح ، واللّه تعالى ـ كما بيّنا فيما سبق ـ منزّه عن فعل القبيح .
نفي الظلم عن اللّه تعالى في القرآن الكريم :
1 ـ { شَهِدَ اللّهُ أَنَّهُ لا إِلهَ إِلاّ هُوَ وَالْمَلائِكَةُ وَأُولُوا الْعِلْمِ قائِماً بِالْقِسْطِ } [ آل عمران: 18 ]
2 ـ { وَنَضَعُ الْمَوازِينَ الْقِسْطَ لِيَوْمِ الْقِيامَةِ فَلا تُظْلَمُ نَفْسٌ شَيْئاً } [ الأنبياء: 47 ]
3 ـ { إِنَّ اللّهَ لا يَظْلِمُ النّاسَ شَيْئاً وَلكِنَّ النّاسَ أَنْفُسَهُمْ يَظْلِمُونَ } [ يونس: 44 ]
____________
1- لسان العرب ، ابن منظور: مادة (ظلم) .
|
الصفحة 31 |
|
4 ـ { فَما كانَ اللّهُ لِيَظْلِمَهُمْ وَلكِنْ كانُوا أَنْفُسَهُمْ يَظْلِمُونَ } [ التوبة: 70 ]
5 ـ { وَما ظَلَمْناهُمْ وَلكِنْ كانُوا أَنْفُسَهُمْ يَظْلِمُونَ } [ النحل: 118 ]
6 ـ { إِنَّ اللّهَ لا يَظْلِمُ مِثْقالَ ذَرَّة } [ النساء: 40 ]
7 ـ { وَلا يَظْلِمُ رَبُّكَ أَحَداً } [ الكهف: 49 ]
8 ـ { وَأَنَّ اللّهَ لَيْسَ بِظَـلاّم لِلْعَبِيدِ } [ الأنفال: 51 ]
9 ـ { وَما رَبُّكَ بِظَـلاّم لِلْعَبِيدِ } [ فصّلت: 46 ]
10 ـ { وَمَا اللّهُ يُرِيدُ ظُلْماً لِلْعالَمِينَ } [ آل عمران: 108 ]
11 ـ { وَما ظَلَمْناهُمْ وَلكِنْ كانُوا هُمُ الظّالِمِينَ } [ الزخرف: 76 ]
12 ـ { وَما ظَلَمَهُمُ اللّهُ وَلكِنْ كانُوا أَنْفُسَهُمْ يَظْلِمُونَ } [ النحل: 33 ]
|
الصفحة 32 |
|
|
الصفحة 33 |
|