الفصل الرابع - دور الحوار في تنمية الوعي - أهمية الحوار
إنّ الحوار يعدّ أفضل وسيلة للتلاقح الفكري وتوسيع آفاق الرؤية وتنمية الوعي وبناء المعارف وتطويرها من خلال تبادل الرأي وانفتاح كل من طرفي الحوار على خبرات الآخر.
وفي الحوار يفتح كل من المحاورين نافذة للطرف الآخر، ليريه من زاوية أخرى بعض الحقائق التي لم يرها من قبل، لأنّ كل انسان يشاهد الظاهرة الواحدة من زاوية معيّنة، فما يراه شخص قد لا يراه الآخر. وفي الحوار يساعد كل من المتحاورين الطرف الآخر ليرى الظاهرة من زاوية اخرى.
[ صفحه 80 ]
وبهذا تكتمل صورة الحقيقة عند الطرفين، فيرتقي بذلك وعيهما نتيجة التعاون المشترك الذي اجروه لاكتساب الشمولية في الرؤية.
ومن أهم الأمور التي ينبغي أن ينتبه إليها المتحاورون هي أن لكل انسان شخصيته المتميزة ونظرته الخاصة للحياة، وكل منّا يفكّر بطريقة معيّنة قد تختلف عن طريقة الآخرين، وكل منّها يفسّر الأمور من منظوره الخاص وفقاً لاُسلوب تفكيره ومستواه الثقافي وعلى ضوء التربية التي لاقاها والبيئة التي عاشها والاجواء التي ترعرع فيها.
فلهذا ينبغي أن لا يتذمّر الإنسان وأن لا يشعر بالضيق النفسي عندما يجد شخصاً ما يختلف معه في الرأي أو الفكر، أو يرى الأمور بطريقة تختلف عن رؤيته لها، بل عليه أن يجد الاختلاف بينه وبين الآخرين أمراً طبيعياً وسنة من سنن الحياة.
وفي الحقيقة لا يعني تقبّل الإنسان للاختلاف واستسلامه للأمر الواقع وقبوله لوجود آراء أخرى عمّا يذهب إليه أن رأيه أو فكره غير صحيح أو أقل أهمية من غيره، بل يعني ذلك أنه شخصية واعية تعرف الطبيعة الإنسانية، وتعرف أن العوامل التي تؤثّر في تفسيرها للأمور تختلف تماماً عن تلك العوامل التي تؤّثر في الآخرين.
[ صفحه 81 ]
قواعد الحوار البنّاء
إنّ للحوار قواعد ينبغي مراعاتها، لأنّ في اهمالها سيكون الحوار معرضاً للانحراف والاصابة بالاخفاقات والأزمات، ومهدد بالفشل، فعندئذ لا يكون الحصاد من الحوار سوى تكوين العداوات وتأجيج نار الحقد والضغينة في قلوب الطرفين، وذلك من خلال اعتداء كل منهما على ذات الآخر وتدمير احساسه بالأهمية وتحطيم شعوره بالعزة والكرامة.
فلهذا لا يثمر الحوار النتائج المطلوبة ما لم يتم فيه من قبل طرفي الحوار مراعاة الأمور التالية:
1 ـ البحث قبل كل شيء لإنشاء وحدة فكريه وساحة مشتركة في طريقة النظر العقلي من أجل تحصيل لغة مشتركة بين طرفي الحوار.
وقد يتطلّب الأمر في هذا المجال، أن يتنازل الفرد مؤقتاً عن بعض ما يعتقد أنّه لا يقبل الجدل، وذلك من أجل عدم قطع خيوط التواصل مع الآخر، ودعوته إلى أرضية مشتركة ومحايدة تصلح لتبادل الرأي والنظر من غير أحكام مسبقة. وقد علّمنا القرآن أن هذا التنازل قد يكون في أكبر اليقينيات عند الفرد، كما قال تعالى: ( قُلْ مَن يَرْزُقُكُم مِّنَ السَّمَـوَا تِ وَا لاَْرْضِ قُلِ اللَّهُ وَإِنَّـآ أَوْ إِيَّاكُمْ لَعَلَى هُدًى أَوْ فِى ضَلَـل مُّبِين )]سبأ: 24[.
[ صفحه 82 ]
2 ـ التحلّي بالعقلية المنفتحة التي تدرك أن في هذا الوجود حقائق ثابتة لا تتحول وحقائق تتغير بتغير الظروف والأزمنة، وأنّ الاحاطة الكاملة بالحقيقة لم تتهيأ لأحد من الناس.
ويترتب على هذا الوعي امتلاك المرونة تجاه ما عرفنا، وبهذا يغرس الإنسان في نفسه إمكانية تغيير نظرته إلى الحياة، وتعديل ما قد التبس عنده من مفاهيم، وتصحيح الصورة الذهنية التي كان يمتلكها من الحقيقة، وذلك من خلال استعانته برؤية الاشياء من الزاوية التي ينظر إليها المقابل.
ومن هذا المنطلق، لا يكون ثمة ما يدعو كل من طرفي الحوار إلى الخجل من الخطأ ما داما يحتفظان دائماً بعقول مفتوحة على الحقائق الجديدة، وما داما قد وطّنا أنفسهما أن يغيرا آراءهما عندما تشير الحقائق إلى خطئهما.
3 ـ تطهير النفس من جميع الشوائب التي تخلّ بوضوح التفكير وتخرج الحوار من الموضوعية، من قبيل: الأنانية والتمركز حول الذات والغرور والتكبّر وغيره، لأنّ هذه الرذائل لا تسمح للإنسان أن ينظر إلى الأمور بشمولية ووضوح أو أن يزن الكلمات قبل أن ينطق بها.
4 ـ التحكّم بالأعصاب وضبط الانفعال عن طريق معاملة المقابل على قدر عقله والتزام الصفح والتسامح قبال اخطائه، وتجاهل
[ صفحه 83 ]
التصرّفات السلبية التي يقوم بها، لأنّ الغضب وفقدان السيطرة على الأعصاب يورثان فقدان الاتزان الانفعالي والقلق والتوتر، فيؤدّي ذلك إلى عمى العقل وسلّ قدرته على التفكير بوضوح، وإفلات زمام السيطرة على الموقف تماماً وسلب مهارة التصرّف في الظروف الحرجة ومعرفة كيفيّة التخلّص من المأزق والردّ الحاسم على ما قد يوجه إليه من انتقادات غير بنّاءة، فتكون النتيجة زيادة الأمور سوءاً وتعقيداً.
فلهذا ينبغي للمتحاورين أن يجيدا اتخاذ الخطوات المؤثرة لتبديد غضب المقابل وأن يسيطرا على زمام الأمور عن طريق مقابلة غضب الآخرين برد فعل ودود وعطوف.
ومن أفضل الخطوات المهمة والفعّالة والمؤثرة التي بها يستطيع الإنسان أن يبدد غضبه هي أن يتمالك نفسه، وأن لا يفقد هدوءه أبداً، وأن يستجيب للمقابل بتعامل ودود وعطوف وأن يتكلّم معه بلين وهدوء.
وباتباع هذه الطريقة سيدرك الطرف الآخر خطأه، ويعود إلى صوابه بعد فترة، بل قد يعتذّر عن اسلوبه ويوطّن نفسه للإصغاء والاستماع الواعي إلى ما يذكره الطرف الآخر وتلقّي أفكاره دون أدنى تشويش.
5 ـ اجادة مهارة الاصغاء والانصات الجيد لكلام وحديث الطرف المقابل، وعدم مقاطعته مطلقاً حينما يعرض أفكاره، وتوفير الفرصة المناسبة لتبادل الأفكار وتقريب وجهات النظر، لأنّ تفكير الإنسان
[ صفحه 84 ]
عند استماعه إلى شخص ما في الإجابة والردّ عليه يسلب من الإنسان قدرة النظرة الشمولية وفهم واستيعاب كلام الطرف المقابل، ومن ثم يؤدّي هذا الأمر إلى سوء التفاهم بينهما.
6 ـ ينبغي أن يعي كل من طرفي الحوار بأنّ الحوار ليس ساحة لتأكيد الذات أو إظهار العظمة أمام الآخرين أو الغلبة عن طريق العراك الكلامي المشحون بالانفعال الذي يقود إلى الاحباط والتشنّج، بل الحوار ساحة يستعين بها الطرفان ليساعد كل منهما الآخر على الإدراك الذي يؤدّي إلى اكتشاف الحقيقة، وهو وسيلة ليتفّهم فيه كل منهما الرأي الآخر وأن يقارنه مع فهمه ليتوصّل إلى القرار الصائب والنظرة الثاقبة.
ولهذا لا يشترط في الحوار أن تكون الغاية توحيد الآراء في نهاية المطاف، بل المطلوب أن يشرح كل من الطرفين وجهة نظره للآخر، وأن يُري كل منهما الآخر ما لا يراه.
وأما الذي يظن أنّه يتمكّن من إرشاد الآخرين إلى الحقيقة عن طريق إفحامهم والتغلّب عليهم في الجدل أو الانتصار في النقاش عن طريق النقد اللاذع أو الهجوم عليهم والإطاحة بهم والنيل من شخصيتهم فهو خاطىء، وهو لا يدري أنّه بتفنيد أقوال الذي يجادله وتحطيم وجهات نظره وتسفيه أقواله وجرح مشاعره وخدش اعتباره
[ صفحه 85 ]
يدفعه إلى الضلال دفعاً ويغرس في نفسه حقداً وكراهية له ولفكرته وعقيدته.
7 ـ عرض الأفكار والآراء والحجج والبراهين بمرونة واعتدال ودقة، لأنّ الحقائق حينما تعرض بهدوء تكون أشدّ أثراً في دفع الآخرين إلى الاقتناع بها والموافقة عليها.
كما يتيح هذا الأمر الفرصة للمقابل لينطلق من دافع ذاتي إلى تغيير نفسه وتعديل الصورة التي كان قد رسمها من قبل للقضية المطروحة على طاولة البحث، فيتمكّن من اعادة تفسيره لها، واكسابها المعنى الجديد الذي هو أكثر ملاءمة للواقع.
وإلاّ فاذا تحدّث أحد اطراف الحوار مع الآخر بلهجة حادة وبنبرة متعالية، فانّه لن يجد أبداً آذاناً صاغية لكلامه ولن يجعل الطرف الآخر إلاّ معارضاً له.
8 ـ مراعاة الخلق الرفيع واحترام الطرف المقابل وعدم المساس بذاته عن طريق الانتقاص منه أو الاستهزاء أو السخرية أو الاستخفاف به ومحاولة كسب وُدّه عن طريق الاهتمام به واتباع الأسلوب القائم على الرفق واللين في معالجة الأمور واستخدام الكلمات الطيبة التي تترك التأثير الطيب والانطباع الحسن فيه، والتي تشعره بأنّ من يسمعه مهتم فعلا به وبقيمته الشخصية، لأنّ هذا الأمر يجعل المقابل أكثر تقبّلا للآخر ولأفكاره وآرائه، وتثبت له أن الجلسة جلسة حوار وليست معركة على الاطلاق.
[ صفحه 86 ]
9 ـ التسلّح بقوة المنطق وسرد البراهين واجتناب جميع أساليب المراوغة والمماطلة والتسويف والتبرير والمغالطة اللفظية التي تتخذ من اللف والدوران طريقاً للتغلب على وجهة نظر الآخرين. لأنّ الحوار المثمر هو الحوار الذي يعتمد على الموضوعية والمنهج والدليل وعرض الأفكار بصورة منظمة ومنسقة من أجل جعلها سبيلا للاقناع والتوعية.
من شروط الحوار
إنّ الحوار إنّما يكون موضوعياً وبناءاً وذا فائدة، إذا دار بين قوم تهيكلت ثقافتهم عن وعي ودراسة وبحث واجتهاد، وإلاّ فإنّ الذين جمّدوا تفكيرهم وتعوّدوا الاتكال على غيرهم ليفكّروا عنهم، واعتمدوا في صياغة مبادئهم على التقليد والتلقي دون النظر، فهم غير قادرين على الدخول في حوار جاد، وإذا دخلوه فانّهم لا يستطيعون الاستمرار فيه.
لأنّ الحوار متّصل بالاجتهاد والقدرة على توليد الأفكار، ويجدر بالإنسان أن يكون متسلّحاً بقوة الأدلّة وترتيب الأفكار، بحيث يتسنّى له أن يبرهن على صحّة أفكاره، وأن يكون قادراً على الردّ الحاسم والمقنع على ما قد يوجه إليه من انتقادات، وأنّ اصحاب الكسل الذهني
[ صفحه 87 ]
والتقليد المطلق غير قادرين على شيء من ذلك.
فلهذا يكون دأب اصحاب العقول التقليدية والمنغلقة هو الخشية من الحوار، لأنّهم قد اخذوا أفكارهم بالوراثة والتقليد، فلهذا لا يمتلكون الأدلّة والبراهين التي تدعم أفكارهم.
كما يخشى اصحاب العقول المتحجّرة أيضاً من الحوار، لأنّهم لا يحبّون التغيير، فهم يخشون أن يذهب الحوار بأفكارهم التي هم عليها، فيبقون بعدها في فراغ.
فلهذا ينبغي لكلّ انسان واع أن يتجنّب الحوار مع هؤلاء، لأنّ الحوار معهم يتحوّل إلى سجال وعراك ومشاجرات كلامية.
تحوّل الحوار إلى سجال
إنّ الحوار إذا لم يتم فيه مراعاة الأمور التي مرّ ذكرها، فإنّ الهدف منه عندئذ لا يكون الوصول إلى تكوين رؤية شمولية لما يتم النقاش عليه، بل يصبح النقاش قائماً على خوض الحرب بكل ما تعنيه كلمة الحرب.
فيؤدي هذا الأمر بالطرفين إلى الخوض في معركة كلامية، فيفسح كل منهما المجال لنفسه أن يستخدم جميع الوسائل الممكنة لاخراس صوت الخصم والقضاء عليه، من أجل أن يحقق لنفسه أكبر امكان
[ صفحه 88 ]
للتغلّب عليه، لأنّ الحرب تفترض اللجوء إلى كل ما من شأنه حماية النفس، واثبات القوة وتحقيق التفوّق على الخصم.
ومن هذا المنطلق يضرب التفاهم من خلال تبادل الآراء وموازنة الحجج عرض الجدار، ويحاول كلا الطرفين أن يستغلا كل الظروف والامكانيات المتاحة لتحقيق مكاسب اضافية، وبما أن أسهل الطرق لردّ التهمة عن النفس هي تحميلها للطرف الآخر، فلهذا يتحوّل النقاش إلى تبادل الاتهامات.
وتستلزم استمرار المعركة أن يؤجّج كل من الطرفين نيران العداء، فلهذا يتمّ التأكيد على عناصر التمايز والتباين والخلاف، فيؤدّي هذا التركيز والاستغراق من أجل اكتساب الموقف إلى سلب قدرة الطرفين على التفكير لفهم الواقع فهماً موضوعياً أو الانصات إلى الطرف الآخر أو توظيف العقل لمعالجة الأمر، لأنّ المنهج السجالي يفرض على الإنسان العيش في نزاع ذاتي لا مخرج منه.
كما لا يسمح كل من الطرفين لنفسه في هذه المعركة أن يراجع ذاته أو يقيّم ما يطرحه المقابل على طاولة البحث، لأنّ في مثل هذه الأجواء لا يكون المهم عند كل طرف أن يناقش مفاهيم الآخر أو أن ينظر ميزان عقلانيتها أو قربها من الواقع، بل يكون همّه أن يثبت للرأي العام لا عقلانية الخصم وتهافت حججه واظهار ضعفه وخواء تفكيره وضحالة مرتكزاته الفكرية، لأنّ الحرب لا تهتم بالحجج العقلية ولكن كلّ
[ صفحه 89 ]
همّها هو تعبئة النفس للتعريض الدائم بالخصم وتجريحه والاطاحة بكيانه.
اساليب المنهج السجالي
لا يهتم كل من يخوض المنهج السجالي سوى ما يخدم به مصلحته في الانتصار على الخصم، فلهذا يستخدم هؤلاء الاشخاص بعض الأساليب غير الموضوعية، والتي منها:
* القفز من موضوع إلى موضوع آخر دون مقدّمات.
* استخدام المفاهيم من دون تحديد المعنى المقصود منها.
* الخلط بين المفاهيم لمجرّد وجود ارتباط شكلي أو جزئي بينها.
* الدوران في حلقة مفرغة من المشاكل دون حسم أية منها.
* نقد منهج معيّن من منطلق منهج آخر.
* الاستفادة من مناهج فاقدة للصلاحية في الحقل المعرفي.
* فصل الفكر عن الواقع والاستغراق في عالم المثال والتجريد.
* الاستشهاد بالاقتباسات الناقصة أو المشوّهة عن الواقع.
وغيرها من الأمور التي تذهب بصاحبها مذهباً يحيد عن النزاهة والموضوعية.
[ صفحه 90 ]
[ صفحه 91 ]
الباب الثالث - النفس وتنمية الوعي
[ صفحه 92 ]
[ صفحه 93 ]
إنّ البحث عن النفس واستكشاف عالمها المجهول سبيل مليء بالأسرار ومحاط بهالة من الغموض والابهام مالم يتسلّح فيه الباحث بنور البصيرة. فلهذا اختلفت الآراء في تفسير معنى النفس وتحليل ما تنطوي عليه من خفايا.
وقد تناول كل من الباحثين هذا الموضوع من زاوية خاصة، فكانت النتيجة أن تنافرت الآراء وتباعدت الأقوال في محاولاتها لمعرفة هذا العالم المجهول.
ولكننا في هذا المقام لا نبتغي من معرفة النفس سوى ما ينفعنا في تنمية الوعي. ولهذا اقتصرنا البحث فقط فيما يخدم الغرض الذي من أجله وضع هذا الكتاب.
ومختصر القول الذي يمكن ذكره حول النفس أنّها كيان قد الهمه الباريء عزّوجلّ ما يضرّه وينفعه، وهو بحاجة إلى تهذيب وتزكية واصلاح.
وقد جعل الباريء عزّوجلّ عملية تربية الإنسان لنفسه من أكرم المهمات وأنبل الوظائف للبشرية.
[ صفحه 94 ]
وقد قال تعالى: ( وَنَفْس وَمَا سَوَّلـهَا* فَأَلْهَمَهَا فُجُورَهَا وَتَقْوَلـهَا* قَدْ أَفْلَحَ مَن زَكَّـلـهَا* وَقَدْ خَابَ مَن دَسَّـلـهَا ) [الشمس: 7 ـ 10].
[ صفحه 95 ]
الفصل الأول - الصحة النفسية
إنّ الصحة النفسية هي عبارة عن تمتع النفس بحالة التوازن والاعتدال، ولا تتحقق هذه الحالة إلاّ من خلال اشباع حاجات الجسم باعتدال دون افراط وتفريط، وتحقيق الاتزان بين قوى النفس الداخلية وأمور أخرى يأتي ذكرها.
وتكمن أهمية الصحة النفسية في أنّها تمنح صاحبها حالة الشعور بالرضا والسرور والارتياح، وهي الحالة التي بها يصبح الإنسان قادراً على ادراك الواقع بشمولية ومواجهته بموضوعية، ومعالجة الأمور بكفاءة والعمل بكامل الوسع والاستطاعة قدر الامكان، والاستفادة من كل الطاقات والامكانات المتاحه له.
[ صفحه 96 ]
لأنّ الصحة النفسية تمنح صاحبها الأجواء التي يتمكّن من خلالها أن يفهم نفسه وأن يزن قدراته، وأن يخطو وفق المقاييس الصحيحة التي تجعله قادراً على مواجهة الأزمات وتخطّي العقبات التي تعتري طريقه.
معالجة الأمراض النفسية
تعتري النفس الإنسانية أمراض كثيرة كما تعتري الجسد المادّي تماماً، فيؤدي ذلك إلى فقدان توازنها وصرفها عن أداء مهمتها الصحيحة، فيتطلّب هذا الأمر من الإنسان أن يقوم بمعالجة النفس واعادة الصحة اليها.
ومن أهم الأمور التي ينبغي الالتفات إليها حين المبادرة إلى معالجة الأمراض النفسية:
أولا: البحث عن أسباب الأمراض، لأنّ ذلك يساعد على اختيار العلاج الملائم واتباع الطرق المناسبة في استئصال المرض وقلعه من جذوره.
ثانياً: مراعاة سبيل التدرّج في المعالجة، وتكليف النفس اعمالا تتناسب مع قدرتها، لأنّ تحميل النفس بأكثر من طاقتها يؤدّي لا محالة إلى حصاد الفشل، بل يؤدّي ذلك إلى نتائج غير مطلوبة.
[ صفحه 97 ]
تنشيط المناعة النفسية
إنّ النفس الإنسانية معرضة دوماً للمرض، وهذا ما يستدعي من الإنسان أن يجاهد من أجل الحصول على ما يقيه ويصونه من فقدان الصحّة، وذلك عبر رفع مستوى مناعته النفسية، أي: تنمية قدرته على مواجهة الأزمات ومقابلة الكروب وتحمّل المصاعب والمشقات ومقاومة ما ينتج من أفكار ومشاعر سلبية من قبيل مشاعر اليأس والعجز والانهزامية والتشاؤم.
ومن أهم سبل تنشيط هذه المناعة النفسية هي تعديل طريقة التفكير وتحسين السلوكيات الارادية وتعويد النفس على القيام بالأعمال الحسنة واجتناب الممارسات المنحرفة.
ويكون ذلك عن طريق:
أولا: الاتصال بالجهة التي تعطي الإنسان قوة وأمناً وطمأنينة، وهي الايمان بالله عزّوجلّ واتباع أوامره والخضوع لشريعته.
ثانياً: الوقوف على مصادر الشر التي تسحب الإنسان دائماً للمعيشة في مشاعر الشقاء واليأس. ومن أهم هذه المصادر هي الشيطان الذي أوقف نفسه وكرّس جهده للعداء مع الإنسان والاطاحة بالكرامة التي
[ صفحه 98 ]
كرّمها الله سبحانه وتعالى لبني آدم.
وليس لهذا اللعين سلطان علي بني آدم سوى وسوسة الذين يعرضون عن ذكر الله سبحانه وتعالى.
وقد قال عزّوجل: ( إِنَّهُ لَيْسَ لَهُ سُلْطَـنٌ عَلَى الَّذِينَ ءَامَنُواْ وَعَلَى رَبِّهِمْ يَتَوَكَّلُونَ * إِنَّمَا سُلْطَـنُهُ عَلَى الَّذِينَ يَتَوَلَّوْنَهُ ) [النحل: 99 ـ 100] .
فلهذا يتحتّم على الذين يودّون طرد مشاعر السخط والضجر والسأم والملل والعجز والانهزامية واليأس والشقاء أن يقوموا بتضييق مجال نشاط الشيطان عن طريق عدم التجاوب مع وساوسه وتوفير الأجواء المناسبة المؤدّية إلى الخروج من دائرة الظلمات إلى دائرة النور عبر الاكثار من ذكر الله عزّوجلّ والتوسّل بالعمل الصالح والمجاهدات العبادية.
[ صفحه 99 ]
الفصل الثاني - تهذيب النفس
إنّ النفس الإنسانية كيان طائش لا يصلح لصاحبه ما لم يقم بتهذيبه وتزكيته عن طريق ضبطه والتحكّم به والسيطرة عليه.
وتعني السيطرة على النفس الزامها باتباع خطه أو منهجية معيّنة أو اجبارها على اتباع منهج مغاير لما رغبت به.
وتتطلّب عملية تهذيب النفس المام الإنسان بنفسه، لأنّ الإنسان بمقدار المامه بنفسه ومعرفة دوافعها وشؤونها والاحاطة بما يهيّج شوقها ويشدّ عزمها يكون قادراً على حسن تدبيرها وكمال تربيتها وإزالة الموانع عن طريقها.
ويعتبر السعي لاصلاح النفس دون الامام بها محاولة فاشلة، لأنّ الشخص الذي لا يفهم نفسه لا يتمكّن من الحصول على ايضاحات
[ صفحه 100 ]
للتصرفات التي يقوم بها، ومن ثم يكون عاجزاً عن معرفة الدوافع التي تحفّز النفس للقيام ببعض التصرّفات، وبالنتيجة يكون عاجزاً عن ضبطها والسيطرة عليها.
طبيعة النفس البشرية
تكمن في سريرة الإنسان مجموعة طاقات حيوية تثير في النفس مشاعر وجدانية تتحوّل إلى دوافع تتطلّب الاشباع.
وتنقسم هذه الطاقات الانسانية الحيّة إلى قسمين:
الأول: الحاجات العضوية التي يقوم عليها بناء الجسم واغتذائه ونموه، من قبيل: الحاجة إلى التنفس والطعام والماء والنوم والراحة و..
الثانية: الغرائز التي تعتبر طاقات حيوية كامنة في النفس الإنسانية، والتي سيأتي ذكر مصاديقها.
وتمتلك كل من هذه الطاقات الحيوية حداً تعيش في نطاقه حالة الاعتدال والتوازن، فإن حدث في أية واحدة من هذه الطاقات نقص، فإنّها لا تلبث أن تتحوّل إلى دافع يطالب صاحبه لسدّ النقص واشباع الحاجة، ليعود الأمر إلى سابق عهده من الاتزان.
[ صفحه 101 ]
فإن تمّ الاشباع اللازم عادت النفس إلى توازنها، وهو الأمر الذي يأخذ بيد الإنسان إلى نوع من الشعور باللّذة والارتياح أو الاستمتاع، وإن لم تتم عملية الاستجابة الكافية لتلك المطالب يتحوّل الدافع ـ بمقدار عدم الاستجابة ـ إلى مثير للقلق والتوتر ومحفّز للشعور بالألم والضيق والانزعاج، ثم لا يلبث أن يمتد إلى جميع انحاء النفس، لأنّ الإنسان ليس مجموعة من الاجزاء التي تقبل ايقاع الانفصال بينها، بل هي وحدة متماسكة تؤثر بعضها على بعض.
ويمتلك الإنسان في قرارة نفسه مجموعة غرائز منها:
1 ـ غريزة الخلود والبقاء: وهي الغريزة التي تدفع صاحبها للتوسع وطلب المزيد من الأمور التي من شأنها أن تبقي الإنسان في هذا الوجود، من قبيل الحاجة إلى التملك والتقدير الاجتماعي والأمن وحب الاستطلاع.
2 ـ غريزة التدين: وهي الشعور بحاجة الاستناد إلى قوة قوية من أجل الاحتماء بظلها واستمداد الشعور بالقوة منها، ومن مظاهر هذه الغريزة هو الميل إلى التقديس ومجموعة من الطقوس المعبّرة عن التذلّل والعبادة والدعاء والتضرّع والخشوع أمام المعبود.
وتبرز هذه الغريزة أيضاً في التمايل للانتماء إلى الجماعة أو الدولة التي تساعد على مواجهة الاحباط وتوفير الحماية والأمن له.
[ صفحه 102 ]
طبيعة الغرائز
إن الغرائز والشهوات لم تخلق في الإنسان عبثاً، بل هي السبب في حفظ الجسد والروح، لأنّها تدفع صاحبها إلى سدّ النقص الموجود في كيانه، ولكن المشكلة في الغرائز والشهوات أنّها قوى عمياء وصماء لا يهمها سوى الاشباع فحسب، والإنسان مختار في تسييرها وتوجيهها، فله أن يحقّق اشباعها من السبل المشروعة وله أن يحقّق ذلك عن الطرق غير المشروعة.
والمشكلة الأخرى في الغرائز والشهوات هي أن في اشباعها ـ عموماً ـ يكمن شعور باللذة والمتعة والارتياح، وهذا ما يدفع الإنسان غير الواعي إلى الافراط فيها واتباع الطرق المنحرفة للحصول على أكبر قدر ممكن من الشعور باللذة.
فلهذا يتطلّب الأمر من الإنسان أن يوظّف عقله من أجل اتّباع الطريق السوي واحلال السبل الراقية محل السبل الدانية في اشباع هذه الغرائز والشهوات، لئلا ينحرف إلى اتباع الطرق غير المشروعة في إشباعها.
ومن مظاهر انحراف الغرائز حين تركها من غير ضبط وتنظيم وتهذيب أن غريزة الخلود والبقاء تدفع صاحبها إلى التمحور حول ذاته والتلبس بالانانية والغرور والكبرياء.
[ صفحه 103 ]
كما قد تتحوّل غريزة التدين من دون تهذيب إلى عبادة غير الخالق أو عبادته في غير الحدود التي ارادها الله سبحانه وتعالى، والالتجاء إلى مناهج عبادية ما انزل الله بها من سلطان، أو الوقوع في شباك بعض المشعوذين من الجهال الذين يتسترون بالدين زيفاً وبهتاناً واتباعهم من دون تفكير أو تعقّل.
فلهذا ينبغي لكلّ شخصية واعية تودّ صيانة نفسها من الوقوع في اختلاط الأمر في تشخيص الدوافع الحقيقية من الدوافع الوهمية للغرائز والشهوات أن تعتمد على المنهج الذي يحررها من التيارات الشريرة التي تريد أن تدفعها إلى استعمال غرائزها في غير الهدف الذي خلقت من أجله.
دور تهذيب النفس في تنمية الوعي
إنّ لتهذيب النفس دوراً كبيراً في ارتقاء مستوى وعي الإنسان، لأنّ هذه العملية توجب إزالة حجب الأهواء وأدران الشهوات عن بصيرة الإنسان، فيؤدّي هذا الأمر إلى تحرّر العقل والوجدان والضمير من الزيغ والفساد والأوهام ومصادر التضليل.
وبهذا تكون النفس قادرة على رؤية الحقيقة من دون تأثّرها بما
[ صفحه 104 ]
يشلّ فاعليتها ويشوّه لها صورة الحقائق.
في حين أنّ النفس غير المهذّبة تعيش حالة الحرمان من الادراك الواعي والشمولي للحقائق، لأنّها نفس مليئة بالخبائث وملوّثة بأنواع الرذائل، فلهذا لا يبلغ مستوى وعيها في فهم الحقائق إلاّ بمقدار ما يشبع أهواءها الطائشة ورغباتها المشبوهة، لأنّ الإنسان غير المهذّب ميّال إلى النظر في الأمور من خلال عواطفه ورغباته الشخصية، وبهذا تبقى نظرته إلى الحقائق مقتصرة على رؤية الواقع من زوايا محدودة.
كما أنّ النفس غير المهذّبة تكون دائماً متوتّرة ومضطربة نتيجة التناحر الدائم الذي يقع فيها بين الأهواء والرغبات والميول المختلفة فيما بينها، ونتيجة الصراع والتجاذب المستمر الذي يحدث فيها بين الحق والباطل وبين الهدى والضلال.
فيؤدّي هذا الأمر إلى تبديد طاقات الإنسان حين انشغاله بهذا التناحر والصراع، في الوقت الذي يسع الفرد أن يستغل هذه الطاقات في أمور نافعة تؤدّي به إلى التفوّق والابداع والارتقاء.
كما أنّ هذا التناحر والصراع يسلب من الإنسان الاتزان والمرونة في التفكير والتعقّل، ويسلب منه الحلم والأناة والسكون في السلوك والتصرّفات، وبهذا يبقى الإنسان في حالة التوتّر والاضطراب والقلق حتى يتمكّن من حسم هذا الصراع بضبط النفس وتهذيبها وصقلها بالمبادىء القويمة.
[ صفحه 105 ]
وبهذه النفس المهذّبة التي تفيض بالخير والسعادة يعيش الإنسان حالة الثبات والاستقرار والطمأنينية والسكينة والانشراح والراحة، وهي العوامل التي تجعله متمتعاً بالتوازن والمرونة والتعقّل الذي يهديه إلى الخطى الرشيدة واستئصال الرذائل الموبقة وتنمية الفضائل الحميدة في نفسه.
وبهذه النفس لا يتمكّن الإنسان من ارتقاء مستوى وعيه، لأنّ النفس المهذّبة تعبّد له طريق المعرفة وتجعل عقله نقياً من كل شائبة.
[ صفحه 106 ]
[ صفحه 107 ]
الفصل الثالث - الثقة بالنفس
إنّ الثقة بالنفس تعتبر من أهمّ الخطوات الهامة في طريق تنمية الوعي، وهي تأتي في مقدمة عوامل النجاح بالنسبة للفرد في جميع أصعدة حياته، لأنّها تتيح للإنسان امكانية الغلبة على جميع العقبات التي تقف دون ارتقاء مستوى وعيه، وبها يتمكّن الإنسان أن يتحرّر من الأفكار والمشاعر السلبية التي تمنعه من توسيع آفاق مداركه الذهنية.
فلهذا يتحتّم على كل من يبتغي تنمية قدرته الفكرية وارتقاء مستوى وعيه أن يسعى لنيل هذه الصفة، ليكون بذلك قد اجتاز احدى المراحل المهمة التي تقرّبه إلى تنمية وعيه.
الفرق بين الثقة بالنفس والتعجرف
إنّ الثقة بالنفس تعني أن ينظر الإنسان بايجابية إلى ذاته، وأن يتمتع
[ صفحه 108 ]
بتقدير واحترام عال لها، وأن يفكّر ويتصرّف من منطلق أنه شخص له قدر وقيمة وكفاءة وأهلية.
والأسباب التي تدفع الإنسان إلى احترام ذاته وتكوين رؤية حسنه عن نفسه، قد تكون واقعية ومعتمدة على الموازين الحقيقة فتسمّى حينئذ الحالة المكتسبة منها: الثقة بالنفس، وقد تكون هذه الأسباب خاطئة أو وهمية فتدعى حينئذ بالتعجرف أو التغطّرس أو التعالي.
ومن سمات الإنسان الواثق من نفسه أنّه صاحب نفسية قوية ونبيلة تتقبّل ذاتها بقدر حجمها، ولا تبالغ في خلع التقدير عليها أكثر مما هي عليه، كما أنّها لا تذل نفسها بارتكاب التصرّفات التي تخدش بعزتها.
ولكن الإنسان المتغطرس هو صاحب نفسية ضعيفة ودنيئة، ولا يتصرّف إلاّ سعياً وراء ما يملؤه زهواً، وهذا ما يدفعه إلى إذلال نفسه في بعض الأحيان أمام من ينتظر منه مكسباً أو يأمل منه شيئاً.
أهم دواعي اكتساب الثقة بالنفس
إنّ الإنسان معرّض حين القيام بأعماله إلى النجاح والاخفاق والانتصار والخيبة، ويعتبر النجاح والشعور بروعة الانتصار من أهمّ الأسباب المؤدّية إلى غرس حالة الثقة في النفس.
[ صفحه 109 ]
فلهذا ينبغي لكلّ مَن يرغب بناء الثقة في نفسه أن يوفّر لنفسه حين القيام بأيّ عمل جميع المتطلّبات التي تؤهّله للنجاح في أداء وظائفه بأفضل صورة ممكنة والقيام بواجبه بالشكل المطلوب، ليكون الفرد عبر السلسلة المتلاحقة من النجاحات في كيفيّة أداء ما عليه، متمكّناً من اكتساب المزيد من الثقة التي تجعله قادراً على التطلّع للأمام نحو نجاح آخر، وبالتالي نحو الارتقاء بوعيه وتطوير شخصيته الإنسانيّة.
ومن أهم الأمور التي تدفع الإنسان للنجاح في أموره هي درايته بميزان قدرته وإمكاناته الحقيقيّة ومراعاتها حين تحديد أهدافه وطموحه. لأنّ ذلك يرشده ليسعى بمحض إرادته وراء أهداف تنسجم مع نطاق قدراته وطاقاته وحجم إمكاناته، فترتفع بذلك نسبة النجاح حين المبادرة إلى الإنجاز، فتكون النتيجة نيل المزيد من الثقة بالنفس نتيجة النجاح المتكرّر.
ومن هنا ينبغي لكن من يفشل أو يواجه الخيبة في كيفيّة أداء ما عليه أن يقوم بتحليل أخطائه بهدوء، ليقف على أسبابها ويتعرّف على مصدرها وليعمل بعد ذلك على تلافيها ويتجنّب حدوثها في المستقبل.
والضمان المستمرّ للثقة الحقيقيّة يكون فقط في جانب الله سبحانه وتعالى، لأنّه هو الذي يمنح القلب من الأمن والقوّة ما يجعل الإنسان متمتّعاً بالسكينة والاستقرار، بحيث لا يكون أي مجال للفزع أو القلق
[ صفحه 110 ]
أن يجدا لانفسهما مكاناً في القلب.
لأنّ الإنسان الواثق بالله عزّ وجل والمتوكّل عليه لا تهزّه العواصف ولا تزعزعه المشاكل والابتلاءات، لأنّه يستمدّ قدرته وقوّته من الله تعالى، ويمتلك من المعاني النبيلة والقيم الرشيدة ما يستعين بها في صدّ كافّة الأمور المخلّة بثقته وقوّة شخصيته.
أهم دواعي فقدان الثّقة بالنفس
يُعتبر الشعور بالنقص من أهمّ الأسباب المؤدّية إلى فقدان الثقة بالنفس والتقدير السلبي للذات.
وينشأ هذا الشعور لدى الإنسان من خلال الفشل المتتالي في كيفيّة أداء ما عليه، أونتيجة عيب يعاني منه أو الشعور بالحرمان من شيء يفتقر إليه أو من مقايسة نفسه مع مَن هو أعلى مرتبة منه في أمور الدنيا، أو غير ذلك من الأفكار السلبية التي تملي على الإنسان حالة الإحساس بالقصور والانحطاط والدناءة.
ويُعتبر هذا الشعور ـ في بعض الأحيان ـ أمراً طبيعيّاً، لأنّه يكوّن لدى الإنسان ألماً يحفّزه للمبادرة العملية من أجل البحث عن مخرج يسدّ به هذا النقص. وقد يكون السبب من هذا الشعور غير ذلك، فلهذا
[ صفحه 111 ]
ينبغي أن يقوم الفرد بدراسة متأنّية حول النقص الذي يعاني منه، ليتعرّف على دوافع الشعور بهذا الإحساس.
ومن الحقائق التي لا بدّ أن يتقبّلها الإنسان في هذا المجال هي أنّ بعض عيوبه أو نقائصه غير قابلة للإصلاح والتحسّن، أو أنّ بعضها لا يسكن ألمها ولا يتمّ التعويض عنها إلاّ بإتّباع الطرق المحرّمة وغير المشروعة.
وينبغي للإنسان أن يتقبّل هذا النمط من العيوب والنقائص الموجودة فيه دون امتعاض، وعليه أن يرفع مستوى وعيه ليتمكّن من عدم التفاعل وعدم الاستجابة الوجدانيّة لهذا النقص، ومن ثم توقيف تأثير هذا الشعور على سلوكه وشخصيّته.
وينمو وعي الإنسان في هذه الحالة عبر إدراكه بأنّ البلاء الذي قد ابتلي به، ليس إلاّ امتحان إلهي شاءته الإرادة الإلهيّة لتختبر به مدى رضاه بقضائها وقدرها. فيدفعه ذلك إلى تعميق الصلة بالله عزّ وجل والوقوف بوجه هذه المشاعر السلبيّة من أجل نيل الثواب الذي أوعده الله للصابرين.
والجدير بالذكر أنّ الاعتقاد بوجود عيوب غير قابلة للإصلاح، لا يعني أن يلتجىء الإنسان نتيجة كسله إلى تجنّب التغلّب على المشكلات باختلاق الأعذار الواهية، والتذرّع بأنّ ما يعاني منه هو من جملة
[ صفحه 112 ]
المشكلات التي لا علاج لها. بل ينبغي لكلّ فرد أن يزن الأمور بميزانها الحقيقي، وأن يفرغ سعيه في البحث عن طرق نقائصه وعيوبه.
كما أنّ معاناة الإنسان من نقص غير قابل للعلاج لا يعني أنّ هذا الفرد عديم الموهبة في جميع المجالات، بل ينبغي لكلّ فرد أن يفتّش في داخله من أجل اكتشاف مواهبه الكامنة وإبرازها من أجل إيجاد ما يوازن النقص الذي يعاني منه.
ويعتبر الوعي العبادي، والبحث عن التقدير الإلهي لا التقدير الاجتماعي من أهمّ العوامل المتكفّلة بإزاحة الإحساس بالنقص ومنعه عن ترك أي أثر سلبي على تفكير وسلوك الإنسان.
لأنّ الشخصية التي تحيا المبادىء الربانية ترى أنّ الباري عزّ وجل لم يجعل فارقاً بين الناس إلاّ من حيث التقوى.
ومن هذا المنطلق الديني يعيش الإنسان ذات الذكاء المنخفض أو المواهب والكفاءات الضعيفة حالة التوازن والاطمئنان، لأنّه يعتقد أنّ الله سبحانه وتعالى لن يحاسبه على هذا القصور.
وهذا على العكس تماماً في الشخصية التي لا صلة لها بالله تعالى، أو الشخصية التي قد ضعف فيها الاتصال ببارئها، فهي بما أنّها تبحث عن التقدير الاجتماعي ولا تمتلك إلاّ الثواب والعقاب الاجتماعي، فهي تبقى
[ صفحه 113 ]
فاقدة للاتزان والطمأنينة نتيجة عدم حصولها على مبتغاها في وسط المجتمع المادي.
ثمار الثقة بالنفس
تترك حالة الثقة بالنفس لدى الإنسان آثاراً إيجابية تساعده على السير بسهولة في سبيل تنمية وعيه، ومن هذه الآثار:
1ـ التقدّم في جميع الأصعدة:
إنّ الإنسان الواثق بنفسه يواجه الحياة دائماً بقوّة وثبات، غير هائب ولا خائف ولا متردّد لأنّه يمتلك نفسيّة قادرة على مواجهة أي صدمة يتلقاها في طريق وصوله إلى هدفه الذي يقتنع به تماماً.
فلهذا يرتقي هكذا شخص في جميع الأصعدة، لأنّه يكون صاحب إرادة وعزم وحزم وتصميم حين مبادرته إلى شؤونه، كما أنّه يكون واثقاً من نجاح نفسه ولا يهمّه شيء سوى الوصول إلى هدفه، فلهذا يصمّم حين الفشل أن يقوم بالعمل مرّة أخرى دون أن يفقده الفشل شيئاً من ثقته بنفسه.
[ صفحه 114 ]
كما أنّ هكذا إنسان لا يلجأ إلى الهروب من المسؤوليّة حينما تُلقى على عاتقه مهمّة يتمكّن من القيام بها، وهو لا يلتمس لنفسه الأعذار الواهية ولا يتلبّس بالأقنعة المزيفة من أجل الهروب من تحمّل التبعات والمسؤوليات، لأنّ محاولة اختلاق الأعذار ـ في حقيقتها ـ ليست سوى تعبيراً غير مباشر عن خوف الإنسان من تحمّل المسؤولية.
كما أنّ الإنسان الواثق بنفسه لا يحاول تأويل فشله بإلقاء اللوم على الآخرين في كلّ تقصير، بل يتلقّى المسؤوليات الملقاة على عاتقه بقوّة ويقوم بوظيفته بأفضل صورة ممكنة، ولا يسمح للأحاسيس المؤلمة أو الأمور العارضة التي تطرأ عليه، أو المواقف الصعبة أو الأوقات العصيبة أن تنال من معنويته أو شخصيته أو ثقته بنفسه، بل يواجهها بقوّة، ويحاول أن يتغلّب عليها أو يتكيّف معها من دون أن يناله منها شيء سلبي.
2 ـ التمتّع بالنشاط والحيويّة:
إنّ الأمر المميّز للواثق من نفسه أنّه يتمتّع دائماً بالحيوية والنشاط، لأنّه بشكل عام إيجابي وقادر على انجاز أعماله بأفضل صورة ممكنة، فيدفعه هذا الأمر إلى مواصلة عمله بحماس، ويمنحه الشعور بأنّه قادر على أن يواجه أيّة عقبة تعتري طريقه حين التوجّه إلى تحقيق أهدافه المنشودة.
[ صفحه 115 ]
وبهذا الشعور يقضي الإنسان الواثق من نفسه على جميع المشاعر السلبية من قبيل الإحباط والخيبة والاكتئاب والشعور بالضعة والتبعيّة وعدم الكفاءة وغيرها من الأحاسيس المؤلمة التي تقف حجرة عثرة أمام عملية الارتقاء والتكامل الإنساني.
3 ـ استقلال الشخصية:
إنّ طبيعة الوثوق بالنفس هو ثبات الشخصية وعدم اتكالها على الغير، وبهذا يتّسم الشخص الواثق بنفسه بالاستقلالية والسيادة على إرادته والشعور بالتصميم الحاسم والثابت في استعمال حرّيته في الاختيار، فيكون له تفكيره الخاص الذي يستعين به في تخطّي العقبات التي تعتري طريقه.
تنمية الوعي
ومن هذا المنطلق يكون الفرد متحرّراً من التبعية لهذا وذاك، فلا يكون أمّعة يتبّع كلّ ناعق ويسير مع مَن يسير نتيجة شعوره بتفاهة أفكاره وعدم جدواها، ولا يكون ظلاً لغيره يتحرك بحركته ويسكن بسكونه، ولا يقع فريسة التبعية لأهواء الناس، بل يكون شخصية واعية تحترم نفسها وتثق بقدراتها وتمتلك القوّة في اتخاذ قراراتها بنفسها.
[ صفحه 116 ]
4 ـ نيل الشخصية المؤثّرة:
إنّ أكبر سبب يجعل الإنسان شخصيّة مؤثّرة هو الثقة بالنفس، لأنّها تمنح صاحبها كل أسباب النجاح والتفوّق، وتعطيه القوّة اللازمة للتأثير على الآخرين من خلال وثوقه بنفسه واقتناعه بصحّة تصرّفاته.