تنمية الوعي

تأليف : علاء الحسون

الإهداء

اقدّم كتابي هذا إلى كافة سالكي سبيل الجد والاجتهاد ، الذين يكافحون من أجل استكشاف طاقاتهم الكامنة وتوظيفها لنيل الأهداف السامية .

بسم الله الرحمن الرحيم

المقدّمة

تمتلك المرتكزات الفكرية والصور الذهنية والمفاهيم التي يختزنها الانسان في باله، الصدارة في تكوين رؤيته الكونية وصياغة أُسسه المعرفية وتوجيه دوافعه وتنظيم مساعيه وبلورة كافة سلوكه وتصرفاته.

ويعتبر سمو الوعي الشرط الاساسي لنيل الأهداف السامية واكتساب الطموحات الرفيعة واتخاذ السبل الصحيحة، لأن لتسامي الوعي وارتقاء المستوى الفكري واتساع آفاق الرؤية وتقوية جولان النظر العقلي في البحث عن الحقيقة، التأثير المباشر على الانسان ذاته في

[ صفحه 10 ]

ارتقاء مستوى سلوكه وتحديد أهدافه وميوله واتجاهاته وسير حركة حياته وفق الأسس والمباني السليمة.

ولهذا لا يستطيع الإنسان أن يحدث أي تغيير في سلوكه وتصرّفاته إلاّ بعد المبادرة إلى تنمية وعيه ورفع مستواه الفكري، لأنّ أية خطوه يحاول فيها الإنسان أن يلزم نفسه على القيام بعمل معيّن تبوء بالفشل ولا يكتب لها النجاح ما لم يبدء الإنسان بتنمية وعيه.

إذن، فالشرط الأوّل للارتقاء والاندفاع نحو الأهداف السامية، وانشاء المحفّز للتكامل واتخاذ السبل الرفيعة، هو أن يبذل الإنسان أقصى جهده لتنمية وعيه.

لأنّ الإنسان بسمو وعيه يزداد بصيرة في الحياة، فيكون له تفكيره الخاصّ الذي يعتمد عليه في تسيير أموره واتخاذ السبل التي توصله إلى أهدافه، فينجو بذلك من أسر التبعية لهذا وذاك، ويتحرّر من الانقياد الأعمى للموروثات العقائدية والفكرية الخاطئة والباطلة، ويتمكّن من صيانة نفسه من الاهتمام بالأمور التافهة.

وبسمو الوعي يتمكّن الإنسان من نيل حالة الاستقامة والثبات وعدم الانقياد الأعمى للشعارات البراقة والدعوات الزائفة، فيغدو صاحب شخصية لها سماتها البارزة ولها استقلاليتها وحريتها في تحديد مصيرها واتخاذ مسارها في الحياة.


[ صفحه 11 ]

وبسمو الوعي يكتسب الإنسان العقلية التي تمتلك القدرة على تحديد عوامل النكوص والاحجام في حياته الفردية، فيكتشف الفرد الأمراض التي نخرت حياته وفتكت بأسسه ومبانيه، ثمّ يتمكّن من معالجة نفسه وتغيير عاداته السلبية واعادة التوازن والاعتدال إلى كيانه.

وبسمو الوعي يتمكّن الإنسان أن يبعد نفسه من المنعطفات الحادة والمتعبة، لأنّ الشخصية غير الواعية شخصية مرهقة نتيجة دوام اصطدامها بالعقبات، فهي بالاحرى بحاجة إلى ترميم كيانها الممزق قبل كلّ شيء، ليمكنها أن تعيد من جديد حياتها بسلام.

وعلاج ذلك هو تنمية الوعي، لأنّ الإنسان بسمو وعيه يتمكّن من الاحاطة بالقواعد التي تضعه على الطرق الصحيحة التي تؤدي به إلى بلوغ مرامه وغاياته المنشودة من أقرب السبل الممكنة.

وفي الحقيقة كم هم الذين يبذلون قصارى جهدهم للوصول إلى أهدافهم وتطلّعاتهم، لكن تذهب جهودهم سدى وتبوء محاولاتهم بالفشل نتيجة قصور وعيهم.

ومن هنا تتجلّى لنا أهمية الوعي وندرك بأنّ من يبتغي ارتقاء مدارج الكمال والنظر إلى الحياة بعقلية نيّرة وبصيرة مستنيرة ينبغي له في بدء حركته نحو التكامل أن يتقن المنهج الذي يتيح له تنمية وعيه.


[ صفحه 12 ]

لأنّ الوعي يمدّ الحياة بضوء كاشف يهدي صاحبه إلى سواء السبيل، فلا يحيد يمنة أو يسرة ولا تتعثر خطاه في الدروب المظلمة.

وبالوعي يمضي الإنسان في حياته ثابت الخطى مرتسماً معالم الحق ومتجاوباً مع أهداف الحياة النبيلة.

وبالوعي يغدو الإنسان شخصية فذّة ورائعة وتصبح حياته معيناً لا ينضب ونوراً لا يخبو.

ولهذا تم تأليف هذا الكتاب، فهو محاولة لتقديم منهج لتنمية الوعي، لأنّ الحصول على الوعي لا يتم بالصدفة أو من ضربة حظ، بل هو أمر يتطلّب بذل جهود منظّمة واتباع منهج يستهدف تنمية هذا الجانب في كيان الإنسان.

وهذا هو المنهج الذي نحن بصدد بيانه، ونأمل من الباري عزّوجلّ أن يعيننا في أداء هذه المهمة.

وفي الختام، أقدّم جزيل شكري وعظيم تقديري لصاحب الفضيلة الاستاذ الدكتور محمود البستاني على اضطلاعه بمهمة مراجعة هذا البحث وابدائه الملاحظات المفيدة.

المؤلف





[ صفحه 13 ]

الباب الأوّل- ارتقاء المستوى الفكري

[ صفحه 14 ]

[ صفحه 15 ]

أهمية الفكر

إنّ الفكر هو السبيل الوحيد الذي يجعل الإنسان أكثر وعياً لما يحيطه، وبه يكون المرء أعمق إدراكاً لأبعاد وجوده وعلاقته بالكون. لأنّ الإنسان يطلّ من خلال أبراج فكره على عوالم جديدة، فتتسم رؤيته بالشمولية التي تجعله أكثر وعياً بالحقائق، وأكثر قدرة على معرفة ما كان يجهله فيما سبق.

وبالفكر يرتقي الإنسان من مرحلة الجهل والظلام إلى مرحلة الاهتداء والمعرفة، وتمثّل الأفكار البنّاءة لدى كل إنسان الثروة الحقيقة التي يتمكّن بها من تيسير حركته نحو تحقيق أهدافه المنشودة.

كما أنّ الجسم مركبة يقودها الفكر، ولا يوجد عمل إلاّ ووراءه فكر، وأنّ الإنسان لا يمكنه أن ينال أيّ تقدّم في ميادين الحياة، ما لم يبدء بترقية مستواه الفكري قبل ذلك.


[ صفحه 16 ]

فلهذا ينبغي لكلّ من يطمح ببلوغ المراتب السامية في الحياة، أن يبذل جهده في البدء في دائرة ارتقاء مستواه الفكري.

عملية التفكير

إنّ التفكير مظهر من مظاهر العقل، وهو عملية يقوم بها الإنسان بتنشيط ذهنه أو إعمال نظره أو خاطره في موضوع ما من أجل تحصيل المعرفة.

وفي هذه العملية يربط الإنسان بين الأفكار المتعدّدة ليزداد بصيرة بالعلاقات القائمة بينها، وليتمكّن من بناء فهم يجعله قادراً على تنمية خبراته وحلّ مشكلاته واتخاذ قراراته بأفضل صورة ممكنة. وبعبارة أخرى يقوم الإنسان بترتيب بعض ما يعلم من أجل الوصول به إلى اكتشاف المجهول.

وفي هذه العملية، كلّما يكون الإنسان أكثر وعياً بالكيفية التي يجري بموجبها انتاج الذهن للأفكار، يكون بمقدار ذلك أقدر على انتاج الأفكار البنّاءة والتخطيط من أجل نيل المستوى الفكري الرفيع.

فلهذا ينبغي عدم ترك عملية التفكير للصدفة، بل يجب توخي المنهج الصحيح الذي يؤدي إلى تنمية التفكير، والذي يكون المرء به قادراً على استخدام ذهنه بأفضل صورة ممكنة.


[ صفحه 17 ]

عناصر عملية التفكير

1 ـ الواقع:

يكون الواقع موضوعاً للتفكير، وقد يكون هذا الواقع غير مادي، فلا يقع تحت الحسّ المباشر، فتكون المعرفة به حينئذ عن طريق الحكم على الآثار والاستنتاج من خلال عناصر الوجود المادية. فيُعرف وجود الله سبحانه وتعالى ـ على سبيل المثال ـ من خلال التفكر في خلق السماوات والأرض، أو يُعرف ما يقع في علم الغيب من خلال كتاب الله تعالى وسنة نبيّه(صلى الله عليه وآله) اللذين هما واقع مادي محسوس.

2 ـ الدماغ:

وهو يحتوي على مجموعة ملكات تقوم بعمليات فكرية متعدّدة، من قبيل: المقارنة، التمييز، التبويب، التحليل، التركيب، التصوّر، التخيل، الافتراض، الاستقراء، القياس، الاستنتاج، التخصيص، التعميم وغير ذلك.


[ صفحه 18 ]

3 ـ الحواس الظاهرية:

وهي قنوات تقوم عبر السلك العصبي بانتقال الواقع إلى الدماغ، أو بعبارة أخرى هي نوافذ المعرفة الانسانية التي بها يطل الإنسان على المحيط الخارجي.

4 ـ المعلومات والخبرات السابقة:

وهي معلومات مهمتها تفسير الواقع الجديد. وبها يتمكّن الإنسان من تحليل الصور الجديدة التي يتلقّاها من الواقع الخارجي عبر الحواس.

وهذه المعلومات تعدّ المقياس الذي يختبر به الإنسان صواب الفكرة الجديدة أو خطأها حسب ما يرتأيه، لأنّ الإنسان لا يستطيع الإذعان بصحّة فكرة معيّنة، ما لم تكن هذه الفكرة مشابهة للصور الموجودة في ذهنه من قبل.

وهذه المعلومات اكتسابية، يكتسبها الإنسان بمرور الزمان، لأنّ ذهن الإنسان حينما يولد يكون خالياً من أية معلومة، وقد قال تعالى: ( وَاللَّهُ أَخْرَجَكُم مِّن بُطُونِ أُمَّهَـتِكُمْ لاَتَعْلَمُونَ شَيْـًا ) ]النحل: 78[.


[ صفحه 19 ]

وفي الدماغ تأخذ عملية التفكير مجراها الطبيعي، وتبدأ هذه العملية في استدعاء المعلومات والخبرات المخزونة، ويتم هذا الاستدعاء بـ «التذكّر» وهي عملية تستخلص المعلومات من بين الملفات المتراكمة، وبها يتغلّب الإنسان على عامل النسيان الذي له دور كبير ـ أحياناً ـ في تغييب المعلومات. ثم تبدأ عملية التفكير المعقّدة، وبعد تمام النشاطات الذهنية المطلوبة يتمّ صدور الحكم.

سبل ارتقاء المستوى الفكري

1 ـ تنشيط عملية التفكير

إنّ التفكير عملية تستدعي وجود دافع ومحفّز يبثّ فيها الحيوية، لأنّ التفكير لا ينمو في فراغ، بل هو بحاجة إلى ما يمنحه القوة الدافعة ليتحرّك نحو أداء نشاطه.

ويعتبر الاحساس بالمشكلة هو من أكبر الدوافع التي تحفّز الذهن على التفكير، لأنّ المشكلات تثير التفكير وتقدح بدورها شرارة الفكر وتستنفر جميع طاقاته بحثاً عن الحل، بحيث تتولّد عند الإنسان الدافعية للبحث والسير في حلّ المشكلة.

ولهذا ارتأيت طرح هذا البحث والوقوف عنده، وذلك لما فيه من


[ صفحه 20 ]

آثار لا يستهان بها في ارتقاء المستوى الفكري وتنمية الوعي.

تعريف المشكلة

المشكلة هي نوع من أنواع الالتباس يعتري سبيل الإنسان في أموره وقضاياه. والحلّ هو نشاط ذهني يقوم به الإنسان ويمارسه من أجل التوصّل إلى ما يزيل هذا الالتباس(1).

وبعبارة أخرى: المشكلة هي فجوة أو حاجز بين الإنسان وبين ما يريد، والحلّ هو اتباع الخطوات التي يقوم بها صاحب المشكلة من أجل ملء الفجوة القائمة أو إزالة الحاجز الموجود بينه وبين انجاز ما يريده.

وعلى هذا، لا يتمكّن صاحب المشكلة من الوصول إلى الحلّ إلاّ عن طريق فهم مالديه في الواقع الحاضر وما يريد تحقيقه في المستقبل، ومعرفة المسافة الموجودة بين الواقع الراهن والمستقبل.

مواجهة الإنسان للمشكلات

إنّ مواجهة الإنسان للمشكلات والموانع التي تقف دون نيل أهدافه


(1) راجع: المنجد في اللغة: مادة (ش ك ل): ومادة (ح ل ل).

[ صفحه 21 ]

أمر طبيعي. وكلّ إنسان يمرّ في حياته اليومية بالعديد من الطرق الموصودة أمام أهدافه.

وتفرض هذه العقبات على الإنسان السعي للحصول على الحلول المناسبة لمعالجتها أو التوافق معها. لأنّ المشكلات ـ بمستوياتها المختلفة ـ تمثّل عبئاً يثقل كاهل الإنسان.

وكفى بالحالات السلبية والمشاعر غير السارة التي تتركها المشكلات في نفس الإنسان دافعاً لتحريك فكره وتنشيط ذهنه من أجل الوصول إلى الحلول التي تحرّره من هذه الحالات والمشاعر السلبية التي يعاني منها.

الموقف الصحيح إزاء المشكلات

إنّ جملة من المشكلات قد تتحوّل نتيجة احتكاك الإنسان بها إلى أمور طبيعية يمارسها ويقوم بحلّها من دون أن يجهد ذهنه. ولكن توجد مشكلات تظهر في صياغات غامضة ومواقف معقّدة وضبابية، بحيث تتطلّب العديد من العمليات الفكرية، من أجل تنظيمها وتحديد معالمها قبل المبادرة إلى حلّها وإخراجها من حالة اللبس والغموض.

وقد يصرف البعض تفكيرهم عن المشكلات أو يتجاهلونها، لكن ذلك لا يغيّر من طبيعتها، لأنّ الإنسان لا يستطيع أن يلغي المشكلة أو يخفّف من وطأتها إلاّ بمواجهتها، والعمل من أجل حلّها.

[ صفحه 22 ]

وقد تبدو عملية حلّ المشكلات لأوّل وهلة أنّها صعبة وبعيدة المنال، ولكن السبيل الصحيح هو أن ينظر صاحب المشكلة إلى مشكلته بأنّها مجرّد طوارىء لا تلبث أن تزول، وأن يعتبرها فرصة جديدة لنمو ونضج ذهنه وأن يقوم بتجزئة عملية حلّ المشكلة إلى عدّة خطوات ليسهل عليه تناولها بالبحث وليمكنه بعد تحقيق كلّ خطوة أن يصل إلى الحلّ المطلوب في نهاية المطاف.

خطوات حلّ المشكلة

تستدعي عملية حلّ المشكلة بذل الجهود الواعية والقيام بالنشاطات الهادفة واتباع الخطوات المدروسة والمسارات المحدّدة التي تقوم على أسس واضحة، بحيث تجعل صاحب المشكلة قادراً على نيل النتائج المطلوبة.

ويحتاج كل فرد أمام المشكلات والاختيارات الصعبة التي يواجهها والمسائل المعقّدة والشؤون المستعصية التي تعتري طريقه إلى اجتياز الخطوات التالية من أجل الوصول إلى الحلّ المناسب:

[ صفحه 23 ]

الف ـ تحديد المشكلة

وهي عبارة عن فهم المشكلة ومعرفة الجوانب الاساسية فيها عن طريق جمع المعلومات حولها، والنظر إليها من زوايا مختلفة، وفحص التفاصيل المتعلّقة بها ومعرفة عناصر المشكلة ومكوناتها والإلمام بالعوامل المساهمة في خلقها والاحاطة بالظروف المحيطة بها.

وفي هذه المرحلة، تعين الخبرات السابقة صاحبها على اعادة النظر إلى المشكلة من زوايا جديدة في ضوء تلك الخبرات المكتسبة.

كما يلزم على صاحب المشكلة في هذه المرحلة أن يتوجّه إلى معرفة المعلومات التي ينبغي معرفتها أو تتطلب الحاجة إلى الالمام بها، أو التي تساعده في تفسير وتوضيح المشكلة، ليتمكّن من تكوين رؤية واضحة عن المشكلة وما يتعلّق بها، ومن ثمّ يكون قادراً على أداء المراحل الأخرى المطلوبة لحلّ المشكلة بأفضل صورة ممكنة، لأنّ تكوين الفهم الدقيق والرؤية الواضحة عن المشكلة وعن النتائج المستهدفة التي ينبغي التوصّل إليها، تعين صاحب المشكلة على معرفة ما يتطلّع نحوه وعلى المنهج والمسار الذي ينبغي اتباعه من أجل الوصول إلى ما يريد. وتساعده على صياغة المشكلة بصورة تعكس فهمه المحدّد لها، ومن ثمّ يتمكّن من تحديد الأنشطة اللازمة لحلّ المشكلة وتحقيق النتائج


[ صفحه 24 ]

المطلوبة. وبذلك يكون قادراً على بناء نقطة مركزية للجهود التي يبذلها في حلّ المشكلة.

كما أن صاحب المشكلة يتمكّن عبر تحديد المشكلة وفهمها أن يكوّن لنفسه رؤية واضحة عن الوقت والجهد الذي سوف يبذله في حلّها. ومن هنا يعي صاحب المشكلة مدى أهمية المهمة التي يريد أن يقوم بها لحلّ المشكلة، ويدرك مدى استحقاقها من الأهمية التي تتناسب مع التكلفة.

لأنّ العقل يحكم على كل صاحب مشكلة أن يعطيها من الجهد العقلي ما يتناسب مع حجمها، لأنّ من غير المناسب أن يضيّع الفرد وقته ويهدر طاقته في مشكلة لن يعود حلّها عليه بفائدة تتكافىء مع العناء الذي يبذله في سبيل حلّها.

ب ـ توليد الأفكار

وهي عبارة عن تنشيط عملية التفكير من أجل التوصّل إلى العديد من الحلول الصالحة والناجحة لمعالجة المشكلة الراهنة.

وفي هذه المرحلة يحصل صاحب المشكلة على احتمالات وآراء تبدو ذات قيمة وذات قابلية لتكون حلولا مناسبة للمشكلة.


[ صفحه 25 ]

وتستلزم هذه المرحلة اتباع خطّة مدروسة وطريقة منظّمة في التفكير، لأنّ التجوال العشوائي أو محاولات البحث غير المنظّمة لن تؤدي إلى نيل المطلوب. فلهذا ينبغي لصاحب المشكلة أن يراقب في هذه المرحلة ـ بل في جميع المراحل ـ ما يقوم به من أنشطة ذهنية وما يترتّب عليها من نتائج، وأن يختار عن وعي الطرق والأساليب التي يستخدمها، وأن يعي ما يقوم به من نشاط وكيف يقوم به ومدى نجاحه.

وبمقدار ثراء المعلومات المختزنة في الذهن تكون كفاءة التحليل وتوليد الأفكار الجديدة، وبمقدار كثرة هذه الأفكار يكون الفرد أقدر على تخطي المشكلة أو تغيير الحاضر الذي لا يرتضيه إلى المستقبل الذي يتمنّاه.

وينبغي لمن يقوم بتوليد الأفكار أن يتّسم بصفات، منها:

1 ـ شمولية الفكر، وهي التفكير في اتجاهات متعدّدة ومتنوّعة والنظر من زوايا مختلفة.

2 ـ تحلّي الذهن بالطلاقة والمرونة والقدرة على الاتيان بالبدائل المتعدّدة والحلول الجديدة، وذلك عن طريق استخدام المخزون المعرفي، لأنّ الكثير من الناس لا يجيدون توليد الأفكار رغم توفّر المعرفة لديهم، ويعود السبب في ذلك إلى عدم قدرتهم على استخدام مخزونهم المعرفي استخداماً مناسباً.


[ صفحه 26 ]

3 ـ القدرة على اضافة التفاصيل على الحلول، كي تصبح ملفته للنظر ومثيرة للاهتمام نتيجة اكتمالها وثراء مادتها.

4 ـ اختيار الطرق الملائمة مع طبيعة الفرد لحلّ المشكلات، لأنّها تجعله أكثر فاعلية وايجابية وانتاجاً في توليد الأفكار.

5 ـ عدم الاكتفاء بالحلّ الذي يخطر على البال لأوّل وهلة، بل ينبغي المبادرة إلى بذل المزيد من الجهد الذهني، من أجل الحصول على أكثر من حلّ واحد للمشكلة، بدلا من قبول الحلّ الذي يبدو ظاهراً لأوّل مرة.

6 ـ ترك التقييم حين توليد الأفكار، لأنّ ذلك يعيق تدفّق الأفكار ويقف دون انطلاق الذهن، ولهذا من الأفضل لصاحب المشكلة أن يترك العنان لذهنه وخياله دون تقييم وتصحيح، ليتمكّن من الحصول على كمية كبيرة من الأفكار الجديدة والبدائل المتنوعة والاحتمالات المتعدّدة والحلول غير التقليدية، وأن يجعل التقييم للحلول والبدائل كنشاط مستقل يقوم به في المرحلة اللاحقة، وهي مرحلة اتخاذ الحلّ النهائي.

ج ـ اتخاذ الحلّ النهائي

في هذه المرحلة، يأتي دور تنظيم الأفكار التي تمّ التوصّل إليها في المرحلة السابقة، فيقوم صاحب المشكلة بغربلة تلك الأفكار وفرزها


[ صفحه 27 ]

وتصنيفها وترتيبها حسب الأهمية، ثمّ يختار منها الفكرة التي يشعر أنّها أكثر فاعلية في حلّ المشكلة.

وتتم عملية الانتقاء عن طريق تحديد الأوجه الايجابية والأوجه السلبية للأفكار والحلول المطروحة، وتسليط الأضواء على المزايا والقصور فيها، ومن ثمّ إجراء المقارنة فيما بينها من أجل تحديد اسمى الحلول واتخاذ القرار بشأن البدائل.

ويتمكّن صاحب المشكلة أيضاً من تطوير الأفكار، وذلك عن طريق تعديلها وتقويمها وضم بعضها إلى بعض وإعادة صياغتها، فيكون بذلك قادراً على صياغة الحلّ المناسب للمشكلة.

وفي هذا المجال، كلّما تكون معرفة صاحب المشكلة بالبدائل والمناهج المتنوعة لحلّ المشكلات المختلفة أكبر، يكون أقدر على اختيار البديل أو المنهج المناسب لحلّ المشكلة.

د ـ التخطيط للتنفيذ

تتحرّك الجهود في هذه المرحلة، ويتمّ تنشيط القوى من أجل تحويل الحلّ النهائي وترجمة الأفكار المؤهّلة إلى أفعال واجراءات وسلوك نحو الطريق الذي يؤدّي إلى الحلّ. ويكون الهدف هو إحداث التغيير


[ صفحه 28 ]

المطلوب بكفاءة.

ويتطلّب هذا الأمر البرمجة المتقنة من أجل التوصّل إلى الطرق المتميزة والأساليب الفريدة. كما أنّ الحلّ النهائي يتطلّب ما يمنحه الاستمرار في التنفيذ، لأنّ الأفكار كثيراً ما تموت لافتقارها ما يدعمها وما يمنحها القوة لمواصلة السير.

والمطلوب الأوّل لمواصلة عملية تنفيذ الحلّ النهائي هو الاقتناع به، لأنّ عدم الاقتناع بالحلّ لا يمنح الإنسان المحفّز للعمل به. كما أن العامل الأساسي في نجاح الحلّ هو ما يتميّز به صاحبه من حماس ودافعية والتزام نحو العمل.

هـ ـ تطبيق الخطة

يقوم صاحب المشكلة في هذه المرحلة بتجربة الحلّ المختار واختباره وتقويم نتائجه، ليسعه بعد ذلك من تعديل الحلّ وتهذيبه حينما يواجه عدم فاعليته على أرض الواقع.

والجدير بالذكر أن تطبيق الخطة وانجاز عملية التغيير من أجل حلّ المشكلة أو تعديل الواقع، عملية تثير تحديات كبرى، ويكون المرء موفّقاً في انجازها بمقدار اتقانه للخطة التي قد اعدّها من قبل لهذه المهمة.


[ صفحه 29 ]

وقد تخفق بعض الأحيان الحلول المختارة ولا تحقق ما يرجوه الإنسان، وهذا أمر طبيعي، وهو يوحي إلى صاحب المشكلة بأنّه يفتقر إلى اكتساب طرق وأساليب أكثر فعالية.

وينبغي للمرء في هذه الحالة أن يواجه الفشل والاحباط وخيبة الأمل بهدوء ومن دون حدة، وأن يعدّ الكرة من جديد ليحصل على حلول أفضل لمعالجة مشكلته.

تخطّي العقبات في حلّ المشكلات

تعتري ـ بعض الأحيان ـ صاحب المشكلة عقبات تحول دون مبادرته إلى حلّ المشكلة، منها:

أن يعتقد صاحب المشكلة بأنّ مشكلته لا تخضع لقوانين محدّدة، أو يفرض لها تفاسير خاطئة تسلب منه الاعتقاد بامكانية السيطرة عليها أو وجود حلّ لها.

وبهذه الرؤية الخاطئة يفقد صاحب المشكلة المحفّز للمبادرة إلى الحلّ، أو الاستعانة بمختلف التحاليل التي تقرّبه إلى الأمر المطلوب. كما أنّ هذه الرؤية تسلب منه الدافع للبحث من أجل اكتشاف نوع الخلل الذي يعاني منه، فلهذا يبقى لا يعي موطن الداء ولا يعرف موقفه من


[ صفحه 30 ]

المشكلة، لأنّه لا يحسّ فهم المشكلة. كما أنه قد يتوجّه إلى الحل، لكنه يتركه في منتصف الطريق بمجرّد أي أمر تافه يصرفه عنه، لأنّه لا يشعر أنّه ترك أمراً يتوقّف عليه حلّ المشكلة.

ومن العقبات الأخرى التي تعترض سبيل صاحب المشكلة وتمنعه من تحقيق الحلّ، هي صياغته السلبية للمشكلة من قبيل شعوره بضيق الوقت لحلّ المشكلة أو فقدان التأييد المطلوب لانجاز المهمة أو الاحساس بالضعف والعجز ومن هذا القبيل من التفكير السلبي الذي يثبّط الهمم ويدعم الاتجاه السلبي في حلّ المشكلة.

ومن الأفضل لصاحب المشكلة أن يزيل عن ذهنه هذا النمط من التفكير ازاء المشكلة، وأن يوفّر لنفسه الأجواء المناسبة التي تغرس في ذهنه التفكير الايجابي وتساعده على توليد الأفكار الجديدة التي تثير لديه الدافع والمحفّز للتفكير الجيد فيما يمكن عمله لحلّ المشكلة وتغيير الواقع الذي لا يرضاه إلى ما يتمنّاه في المستقبل.

ومن العقبات الأخرى هي أن البعض يكرّس جهده في التفكير بالمشكلة من حيث ردود أفعالها من دون مواجهتها أو التعامل معها على أساس التغلّب عليها.

وهذا ما يحجب بصيرة الإنسان عن رؤية الحلول نتيجة تأثّره بالجانب العاطفي الذي خصّصنا له فصلا سيأتي تحت عنوان الانفعالات.


[ صفحه 31 ]

وعموماً فإنّ من أهمّ عوامل النجاح في حلّ المشكلات هو الاهتمام والرغبة والدافعية والثقة بالنفس وارتقاء مستوى التفكير الابداعي والتفكير الناقد وثراء الخبرات والخلفية الثقافية والمعرفة لمشكلات سابقة.

وكل هذه العوامل ـ التي سوف يتم البحث عنها لاحقاً ـ تساهم بشكل جاد في تخطّي جميع العقبات والحواجز التي تعترض سبيل الإنسان في حلّه للمشكلات.

2 ـ اثراء الرصيد المعرفي

يعتبر تلقّي العلم وتحصيل المعرفة من أهم العوامل المساهمة في ارتقاء المستوى الفكري وتنمية الوعي، لأنّ المعلومات المختزنة في الذهن تمنح صاحبها ثروة تغدو عبر النشاطات الفكرية المختلفة كنزاً يلبّي جميع طلبات الذهن حين قيامه بانتاج الإبداعات العلمية.

كما أنّ العلم يتيح لصاحبه قدرة تصحيح تصوراته الخاطئة ونبذ معتقداته الباطلة التي قد وقع في شباكها نتيجة تأثّره بجمال طرحها من قبل الآخرين. لأنّ الإنسان بالعلم ينفتح على أبعاد أخرى ويطل على عوالم جديدة، فيمتلك قدرة التحرّر من الوهم والتمييز بين الحقيقي والزائف.

وتتطلّب عملية تلقّي العلم الظروف النفسية المثالية والهادئة التي


[ صفحه 32 ]

تساعد الطالب على اكتساب الجديد من المعلومات، لأنّ الهدوء النفسي يؤدّي إلى تقليل عملية استهلاك الذهن من الطاقة حين تلقّي العلم،

وبالتالي يتيح بقاء المزيد من طاقة الذهن لعملية التعلّم.

دوافع تحصيل العلم

يندفع الإنسان لتحصيل العلم وتلقّي المعرفة غير الأكاديمية من مجموعة دوافع، منها ـ ناهيك عن كونها ايجابية أو سلبية ـ :

حب الاستطلاع، الرغبة في المعرفة، الاستفادة المادية، كسب الفخر والمجد، سدّ النقص العاطفي، تعويض الفشل الاجتماعي، تكوين النظرة الواعية إلى الحياة، التمكّن من الانبعاث نحو التطوّر، الحماية من شرّ الجهل، نيل رضا الله سبحانه وتعالى وغيره.

انماط تلقّي العلم

1 ـ تلقّي العلم عبر المعلّم

وهو منهج متعارف في تلقّي العلم، ولا يحتاج إلى توضيح، ولكن الأمر الجدير بالذكر في هذا المجال هو أنّ المنحى التدريسي الذي يتمّ فيه


[ صفحه 33 ]

التعليم بصورة إملاء قواعد وقوانين ثابتة على الطالب وطلب الاصغاء لها وتقبّلها من دون ردّ ومناقشة، وعدم أخذ أفكار الطالب بعين الاعتبار من قبل الاستاذ أو المعلّم، يؤدّي إلى تعطيل ذهن الطالب وتجميد طاقاته واماتة مواهبه وتسرّي الملل إليه نتيجة عدم شعوره بحريته وارادته. فيؤدّي ذلك إلى عدم كفاءة التعلّم وانعدام رغبة الطالب للتعلّم وزوال شوقه إلى الدراسة.

فلهذا ينبغي ـ من أجل نيل أفضل الأساليب للتدريس ـ أن يتّبع الأستاذ أو المعلّم الأسلوب الذي يتمّ فيه التركيز على إثارة الدافعية للتعلّم والتوجّه للدرس بشوق ولهفة. ولا يكون هذا الأمر إلاّ إذا استطاع المعلّم أن يعترف بالطالب بصفته شخصية لها فكرها وآراءها وانطباعاتها ومشاعرها الخاصّة، وأن يقوم بتهيئة الأجواء التعليمية المناسبة التي يكون الطالب فيها ـ عبر مناقشته للأفكار المطروحة ـ هو الذي يبحث ويعمل من أجل اكتشاف الحقيقة. وهذا هو الأمر الذي يغرس في اعماق نفسية الطالب النشاط الذي يعتبر من أكبر الدوافع للتفوّق في عملية التعليم.

2 ـ التعلّم الذاتي

وهو أسلوب يعتمد على بذل جهد ذهني يقوم به المتعلّم وحده


[ صفحه 34 ]

باتباع توجيهات محددة وواضحة تجعله قادراً على تلقّي العلم واكتشاف المعلومات الصحيحة والتغلّب على جميع الصعوبات التي يواجهها دون الحضور عند المعلّم.

ويفضّل البعض اكتساب المعارف بهذه الصورة، حينما يجدون المنفعة العلمية التي يحصلون عليها خلال التعلّم الذاتي أكثر من المنفعة التي يحصلون عليها خلال جلوسهم أمام المدرّس، أو حينما يندر وجود أهل العلم المخلصين، ويقلّ توفّر من يمكن الاعتماد عليه، ففي هذه الحالة يكون من الأفضل أن يباشر الإنسان بنفسه الاشتغال في البحث ويتابع سيره وحده وأن لا يتلف وقته في الاستماع إلى غير المؤهلين للتدريس.

وينبغي حين اتباع هذا الأسلوب في تلقّي العلم أن يقوم الطالب بين الحين والآخر بتقويم ذاته وتقويم مقدار حصوله على المعلومات والأطر الصحيحة للمنهجية التي يتبعها، ليرصد حركته العلمية وليحدّد عبر ذلك مدى حاجته لاستكمالها وتطويرها.

القراءة

إنّ القراءة تعدّ جسراً لدخول الإنسان إلى عالم المعرفة، وبها ينفتح الإنسان على دنيا العلم، فيستطيع أن يغترف من معين العلم ما ينفعه في مسيرة حياته.


[ صفحه 35 ]

ولكن الأمر الذي ينبغي الانتباه إليه حين القراءة هو أنّ الإعجاب بالكتابات الأدبية الفاتنة، قد يؤدّي إلى عدم الاهتمام بفحص الأفكار المطروحة فيها، وهذا ما يدفع القاريء إلى الانسياق وراء أحاسيسه وانفعالاته مصدّقاً كلّ ما فيها.

من سمات القراءة الواعية

ينبغي أن لا يقتصر فهمنا حين المطالعة على المعنى الحرفي فحسب، لأنّ التقيّد بالمعاني الحرفية من دون معرفة الأسباب الكامنة وراء الأحداث والأمور المدوّنة، أو من دون استخلاص العبر والمعاني العميقة من النصّ، عن طريق تنشيط العمليات الادراكية والنباهة والاستيعاب والفهم تعدّ نوعاً من أنواع تحجير العقل ومنعه من التحليق في سماء الأفكار وآفاق الخيال الرحب.

هذا من جهة، ومن جهة أخرى فإنّ المطالعات المشتتة والقراءة العشوائية في كلّ ما هبّ ودبَّ، وإن كانت لا تخلو من فائدة، لكنّها لا تمنح صاحبها سوى معرفة سطحية ومفاهيم مجزأة ومقطّعة الأوصال وغير منتظمة وغير مترابطة، ومن ثمّ تكون هذه القراءة عاجزة عن


[ صفحه 36 ]

تقديم صورة واضحة وبنية معرفية متكاملة عن الحقائق الكونية لصاحبها.

ولا يكون حصاد الإنسان الذي يمارس هذا النمط من المطالعة سوى شذرات متناثرة من العلم. فلهذا يكون محروماً من الرؤية الشمولية للأمور، ومن ثمّ يغدو نطاق وعيه بذاته وبمجتمعه محدوداً وقاصراً.

ومن الأفضل لكلّ من يودّ القراءة في أي مجال من مجالات المعرفة أن يراجع كتابات أصحاب الاسهامات الرائعة والابداعات المتميزة والابتكارات الجديدة، وهم الذين يعيش الكثير من الباحثين على موائدهم، ليكون القارىء بذلك مغترفاً من النبع بصورة مباشرة. وليس من الصعب التعرّف على أمثال هؤلاء، لأنّ المتخصّصين في كل علم وفن يعرفونهم حقّ المعرفة.

كما يحسن بالمرء في مجال القراءة أيضاً، أن يطالع كتباً تعرض وجهة نظر مختلفة عمّا طالعه فيما سبق، لئلا يقع ضحية لوجهة نظر واحدة.

كما ينبغي لكلّ من يودّ ارتقاء مستواه الفكري بالقراءة والمطالعة أن لا تكون مهمته من القراءة فقط نقل ما في السطور إلى الصدور، بل عليه أن يفكّر فيما يقرأ وأن لا يقتنع بمفهوم دون اختبار صدقه وتقييم دلالته والاطمئنان من صحّته.


[ صفحه 37 ]

3 ـ تنمية الوعي بالتفكير

الوعي بالتفكير يعني القدرة على تقويم كفاءة التفكير والوعي بالخطوات التي تُتخذ من أجل نيل المطلوب.

وأهم مكوّن في الوعي بالتفكير هو معرفة الخطوات اللازمة والتعليمات الواجب اتباعها ومعرفة الزمن المطلوب والأهداف الأساسية التي ينبغي تخطّيها من أجل تحقّق السلوك المطلوب وبصورة عامة تكوين خطة عمل، ثم الاحتفاظ بها في الذهن ومتابعة خطوات هذه الخطة في السلوك الفعلي بصورة واعية.

وبتقوية الوعي بالتفكير يكون الإنسان قادراً على وصف ما يدور في ذهنه حينما يفكّر، ويستطيع أن يقرّر الخطوات التي يتبعها والعقبات التي يواجهها في حلّ المشكلات، كما يتمكّن من تحديد نواحي النقص في الخطة التي لديه.

ومن خلال نمو الوعي بالتفكير يصبح الإنسان حين مبادرته إلي أي عمل واعياً بالهدف الذي يبتغيه وملمّاً بالسبب الذي دفعه للقيام به، ويكون أكثر اندفاعاً للتعرّف على اكتشاف الجوانب غير المعلومة وربط المعلومات الجديدة بالخبرات السابقة.


[ صفحه 38 ]

وبهذا يكون صاحب هذه العقلية الناضجة أكثر قدرة على التعديل الذاتي لمساراته، وأكثر جدارة في وضع منهج منظّم للخطوات التي ينبغي اتباعها من أجل التغلّب على المشكلات، وأكثر مثابرة على مواجهة الصعوبات وأكثر شعوراً بالمسؤولية وأكثر اهتماماً بالقيام بما يستلزم عليه من أجل تحقق المطلوب. وهذا ما يؤدي إلى ارتقاء المستوى الفكري.

أسلوب عملي لتنمية الوعي بالتفكير

من أهم الأساليب العملية لتنمية الوعي بالتفكير هي التعبير عن عمليات التفكير كتابة، وتدوين أهمّ الأفكار التي تخطر على البال.

وبهذه الممارسة يبدأ الفرد يدرك أسلوبه في التفكير، وهذا ما يساعده على استكشاف أسلوبه المفضّل في التفكير، ومن ثم يستطيع تعديله وتنميته ورفع مستواه.

ويأخذ التعبير بالكتابة عما يملأ الرأس أو يخطر على البال أشكالا متعدّدة، ككتابة مقاطع صغيرة من الأفكار المتناثرة التي تخطر على البال، أو كتابة المذكّرات أو تسجيل الانطباعات الشخصية، بأسلوب نثر أو شعر أو رأى أو حوار أو نكتة أو تأمّل أو تقييم أو تساؤل أو بأشكال متنوّعة أخرى.


[ صفحه 39 ]

ومن الضروري أن يراجع الإنسان ما دوّنه من أفكار، مرة بعد أخرى، لأنّ ذلك يعينه على إيجاد روابط بينها، والتمهيد لتصنيف منثورها بشكل جيّد، فيتيح له هذا الأمر امكانية تقييم ما يقوم به وتوجيه مساره الفكري نحو الاتجاه الذي يوصله إلى الغاية المطلوبة.

وفي مجال تدوين أهم ما يجول في الخاطر، تساعد مهارة الإنسان في التعبير وثراء رصيده اللغوي ليكون دقيقاً في التعبير، لأنّ هذه المهارة تمنح صاحبها قدرة تبيين ما يجول في خاطره من زوايا متعدّدة وبصورة أكثر شمولية.

4 ـ تطوير مهارات التفكير

إنّ مهارات التفكير بدورها هي الأخرى من أسباب ارتقاء المستوى الفكري، وذلك فيما لو تمكّن الإنسان من اكتسابها وتطويرها في وجوده. لأنّ الذي يبقى في طراز دان من التفكير يندفع دوماً إلى استخدام أنماط تقليدية توجب انحساراً لنموه العقلي.

ومن أهمّ المهارات التي تؤدّي إلى تحسين القدرة على التفكير، هي: الطلاقة والمرونة والابداع والشمولية.


[ صفحه 40 ]

والطلاقة: هي القدرة على استخدام المخزون الفكري عند الحاجة، عن طريق تخطّي الحواجز والموانع الموجودة.

المرونة: هي القدرة على التفكير في بدائل متعدّدة من أجل الخروج من المأزق أو الاستجابة للتغيير أو التكيّف مع الأجواء غير المطلوبة.

الابداع: هو انتاج حلول جديدة وغير مألوفة بالنسبة لصاحبه وسوف يأتي التفصيل عن سبل تنمية هذه المهارة لاحقاً.

الشمولية: هي النظر إلى الأشياء من زوايا متعدّدة، وأخذ جميع الفواصل بعين الاعتبار، ولحاظ التبعات والنتائج التي سيترتب حدوثها بناءاً على ما سوف يقام به، والوعي بالغاية والهدف الذي يتم العمل من أجل تحقيقه.

5 ـ ضبط مسار الفكر

إنّ ضبط مسار الفكر عبر المراقبة المستمرة والتركيز على الصور الذهنية والاغراض الايجابية، والمبادرة إلى استرخاء العضلات واراحة الجسد كلّه، هي الأخرى من العوامل المؤدّية إلى ارتقاء المستوى الفكري.

لأنّ هذه العملية، ولا سيما عملية الاسترخاء عبر ضبط وإبطاء عملية التنفس وإطلاق عضلات الجسد، ومنحها فرصة الاستراحة من


[ صفحه 41 ]

الأداء المتواصل تبدد التوتر وتخلّص عضلات الجسد من الضغوط النفسية، فيخلق هذا الأمر حاجزاً يمنع الاثارات العاطفية والانفعالات النفسية من تشويشها للذهن وبعثرتها لاشعاعات الفكر.

وبذلك تفقد الانفعالات النفسية قوتها وسلطتها على التفكير، فيكون المرء سيّد فكره، ويكون قادراً على امساك عنان تفكيره، وصيانة ذهنه من تبديد طاقته بالتفكير المضطرب وغير المنظّم.

وهذا ما يؤدّي إلى صفاء الفكر وسكون تياراته وتوقف ثرثرته، فيشعر الإنسان بحالة من الهناء والاستقرار نتيجة سيادة الهدوء في الذهن. وبذلك تتوفّر لدى الإنسان امكانية ارتقاء مستواه الفكري، لأنّه بعد ذلك يستطيع بسهوله أن يجمع فكره وأن يجعل فكره قوياً ونافذاً وثاقباً.

وتتطلّب عملية ضبط مسار الفكر عن طريق المراقبة والتركيز وصيانة الذهن من الأثر السلبي للانفعالات التحلّي بالصبر والعزم، وبذل المزيد من الجهد والوقت. لأنّها عملية تنمو وتتأصّل بالتدريج.

وقد تكون هذه المحاولة في البدء شاقة، ولكن يتمكّن كل فرد بالمجاهدة المستمرة والسعي الدؤوب والممارسة المنتظمة أن يمسك زمام تفكيره وأن يوصله إلى أعلى المستويات الممكنة.


[ صفحه 42 ]

6 ـ صيانة الفكر من الأوهام

يختلط فكر الإنسان تارة بالأوهام، فيؤدي هذا الأمر إلى دناءة مستواه، وبذلك يفقد الإنسان الرؤية الواضحة، فيندفع في حركته المعرفية إلى بناء وصياغة رؤاه على ضوء الأماني، فيغرق في الأحلام، لاهياً عن المشكلات التي تحيط به، وينغمر في الغفلة والسبات بحيث لا توقظه منها إلاّ الصدمات.

وتلعب هيمنة الأوهام على الفكر دوراً واسعاً في الاتجاه نحو الانحراف والضلال وتقبّل الخرافات والتقاليد البالية، وخلق أسباب كثيرة تكون وراء عدد من النكبات والمصائب.

ومن أهم الأسباب المؤدّية إلى تلبّس الذهن بالأوهام هي الابتعاد عن النمط الصحيح لتلقّي المعرفة، وقد يساهم في ذلك عدّة عوامل نفسية توجب تثبيط عزيمة الإنسان عن تحمّل جهد وعناء فهم الواقع، لأنّ الإنسان حين عدم امتلاكه المحفّز للبحث حول الحقيقة والعثور عليها، يضطر إلى التمسّك بالأوهام والاستعانة بها من أجل نيل رؤية خاصة تعينه على حلّ مشاكله في الحياة.

فلهذا ينبغي لكلّ من يستهدف الاطمئنان إلى نتائجه الفكرية أن


[ صفحه 43 ]

يحمل على الأوهام الباطلة التي تراكمت على عقله ليحرّر فكره منها.

ومن أهم الأمور التي تساعد الإنسان على مكافحة الأوهام وقلع جذورها الضاربة في وجود الإنسان هي تنقية العقل من الشوائب، وتطهير القلب من الأدران وتهذيب النفس من الهوى، وهي مواضيع سوف يتم البحث عنها في الفصول الآتية.

تنمية الوعي

7 ـ تمتّع الذهن بالحرية

إن الكبت والمنع من التفكير بحرية لا يثمر إلاّ دناءه المستوى الفكري والابتعاد عن الموضوعية والأمور الواقعية. لأنّ العقل حينما يُمنع من حرية النظر إلى الواقع، فإنّه يصطنع لنفسه عالماً من الخيال ينطلق فيه ويعود إليه في حركته النظرية، وينزع نحو الفكر التجريدي، ويهيم في العالم المثالي والافتراضي وغير الواقعي.

وكلّما يشتد الاضطهاد بسلب حرية الفكر، تتكاثر الظواهر العقلية البعيدة عن الواقع والمائلة نحو التفكير التجريدي المثالي.

وفي الحقيقة، إنّ الاستبداد الذي يحاول تعطيل حرية الفكر بالمنع والقمع لا ينتج سوى الانغلاق على الرأي الواحد ونمو التعصّب له والتشبّث الأعمى به. ويفضي ذلك إلى لون من الوان الحجر يضرب


[ صفحه 44 ]

على العقول ليجعل أصحابها أمعه ومتّصفه بطبيعة القطيع ونفسية العبيد.

فلهذا لا يتمكّن الإنسان من رفع مستواه المعرفي إلاّ عن طريق التحرر من جميع القيود التي سوف نشير إليها في الأبحاث القادمة.