سبيل الوثوق بالنتائج الفكرية

إنّ الفكر حركة يقوم بها الإنسان في ذهنه، ليصل عبرها إلى الصورة الذهنية المطابقة مع الواقع والحقيقة. وأمام هذه الحركة عقبات كثيرة، تصدّ هذه الحركة عن ممارسة نشاطها بالصورة المطلوبة.

فلهذا يتعيّن على كل من يبتغي تحسين مستواه الفكري أن يلمّ بكل ما له صلة أو تأثير على صياغة فكره، ليسعه بعد ذلك من رسم منهج يسدّد خطاه، ويبعده عن مزالق الزلل والانحراف، ويعينه على تحرير فكره من أي تأثير سلبي يدخل في نطاق اختياره وارادته وله القدرة على تغييره أو الابتعاد عنه.

وكما هو واضح أن كيان الإنسان كتلة ذو جوانب متعدّدة وأبعاد مترابطة بحيث لا يمكن ايقاع الانفصال بينها، أو الوقوف بوجه تأثير بعضها على الآخر، ولهذا لا يمكن رفع مستوى التفكير دون الالمام بتأثير الجوانب الاخرى عليه.


[ صفحه 45 ]

وفي كيان الإنسان يترك كل من العقل والقلب والنفس تأثيرهما على طريقة تفكير الإنسان. ولهذا لا يستطيع الإنسان أن يطمئن بسلامة قضاياه الفكرية أو يثق بنتائج أفكاره واستقامة مناهجه ما لم يتمكّن من الالمام بكافة التيارات المعاكسة التي تحاول أن تقف عائقاً بين المرء وبين الحقيقة لتحجب بصيرته عن الرؤية السليمة والصحيحة وتحاول أن تلوي عنقه حتى يتقبّل رؤية الحقيقة وفق ما تنسجم مع اهوائه ومصالحه ومآربه الشخصية.

فلهذا ينبغي لكلّ من يودّ الوثوق بنتائج افكاره أن يقوم قبل كل شيء بمعرفة الأجواء المحيطة به وأثرها على تفكيره، لأنّ الأجواء هي من أهم الدواعي لتشكيل المثيرات التي تدعو إلى التفكير، وأنّ كل تفكير عموماً يتأثر إلى حدّ كبير بثقافة مجتمعه وقيمه وعاداته وتقاليده والمشاعر الاجتماعية والدينية والقومية الحاكمة عليه.

ومن هنا، لا يتمكّن الإنسان أن يتجاوز النمط التفكيري السائد في مجتمعه لرؤية القضايا إلاّ عن طريق تنمية وعيه ورسم خطّه تعينه على التجرّد شيئاً فشيئاً عن النمط التقليدي والارتفاع إلى رتبة النظر الموضوعي.

كما يستدعي أمر الاطمئنان بسلامة الفكر أن يقوم الإنسان بمعرفة نفسه والالمام بكيفية الكفاح الواعي من أجل مغالبتها ووقاية الفكر من أهوائها. لأنّ الشروط النفسية تتحكّم بكلّ علاقة بين الذات المفكرة


[ صفحه 46 ]

وموضوع التفكير، ولا يتمكّن أي إنسان أن يتعامل مع موضوع ما دون التفاعل معه بعاطفة ايجابية أو سلبية.

والتفاعل الايجابي بين الذات والموضوع يلغي الحواجز ويسمح باقامة العلاقة الحقيقية بينها، وفي المقابل يمنع التفاعل السلبي صاحبه من رؤية الموضوع إلاّ من زاوية ما يسىء إلى الموضوع ويشوّه صورته.

وبصورة عامّة، فالفكر لا يمكنه معرفة الحقيقة إلاّ إذا اتّسمت نظرة صاحبه بالنظرة الواعية التي تسير بخطى ثابتة ومعها يقين يضيء لها الطريق ويعينها على تخطّي كل الصعاب بارادة لا تلين وعزم لا يفتر.

ومن هنا، يتطلّب الأمر منا إجراء دراسة موجزة حول كل من هذه الجوانب المرتبطة بالعقل والنفس من أجل معرفة دورها وأثرها في صياغة الفكر والالمام بما ينبغي القيام به لتنمية الوعي وصيانة الفكر من جميع الشوائب التي تخلّ به.


[ صفحه 47 ]

الباب الثاني - العقلية الواعية


[ صفحه 48 ]


[ صفحه 49 ]

الفصل الأوّل- العقل

يعدّ مفهوم «العقل» من المفاهيم التي طال الجدل حوله، فلهذا اختلفت فيه النظريات وتعدّدت حوله التعاريف وتنوّعت فيه الآراء، وتلوّنت منه المواقف نتيجة اختلاف كل صاحب موقف عن غيره في اختياراته المذهبية وانتماءاته الفكرية.

ومن هذا المنطلق تكاثرت وتعدّدت المناظرات بشأنه، بحيث أدّى هذا الوضع إلى اثراء هذا البحث وتنوع مطالبه.

تعريف العقل لغة واصطلاحاً

يطلق «العقل» في اللغة ويراد به عدّة معان، منها: التثبت في الأمور والامساك والامتناع والشدّ والحبس، يقال: عقلت الناقة; إذا منعت من


[ صفحه 50 ]

السير، ويقال: عقلَ (بفتح اللام) الرجل إذا كفّ نفسه وشدّها عن المعاصي، وقيل: العاقل: الذي يحبس نفسه ويردّها عن هواها.

هذه هي المعاني اللغوية الرئيسية التي تكاد تجمع عليها كتب اللغة حول العقل، وتندرج تحتها ـ تقريباً ـ جميع المعاني الأخرى التي ذكرت لهذا المفهوم.

وورد أيضاً في هذا الخصوص: أنّ العقل سُمي عقلا، لأنّه يعقل ـ أي يحبس ـ صاحبه عن التورّط في المهالك. فالعقل ـ اذن ـ قيد يحول دون انطلاق الإنسان فيما يشينه أو يضرّ به أو ما لا يليق به، أي أنّه بطبيعته يعقل النفس عن التصرّف العشوائي الناتج من مقتضى الطبع.

وأما «العقل» في المعنى الاصطلاحي، فمهما اختلفت وتضاربت أو تداخلت التعاريف حوله، فإنّها تلتقي جميعاً أمام نقطة مشتركة هي اعتبار العقل هو العنصر الاساسي في الفعل المعرفي البشري، وهو القاعدة الأولى التي ينطلق منها الإنسان متأملا وناظراً ومستنبطاً ومدركاً لحقائق الأشياء، وهو الوسيلة الوحيدة للاهتداء إلى الصواب، ولكن بشرط أن يعمل بعيداً عن المؤثرات السلبية التي سوف نشير إليها لاحقاً.


[ صفحه 51 ]

مهمة العقل

إنّ العقل وسيلة منحها الباري عزّوجلّ للإنسان لتكون دليلا له في جميع مراحل حياته، وليشقّ الإنسان بها طريقه في الحياة بأفضل صورة ممكنة.

وقد جعل الباري سبحانه وتعالى في العقل قدرة قيادة صاحبه إلى معرفة مصدر الاهتداء إلى الدين القويم، لأنّ العقل قادر في بعض الأحيان على التمييز بين ما ينفع صاحبه وما يضرّه وبين ما فيه الربح له وما فيه الخسران.

والأهمية البالغة للعقل أنّه يمثّل حجة الله سبحانه وتعالى على الخلائق وبه يحاسب الله عباده ويتمّ عليهم الحجة.

حدود عمل العقل

يجدر بالإنسان الواعي أن يحيط علماً بنطاق قدرته العقلية، لئلا يحمّل نفسه ما هو فوق قابليته، وليصون بذلك طاقته العقلية من الضياع والتبدّد في محاولات عقيمة للبحث عن جواب أسئلة لا طائل تحتها، أو قرع أبواب الغيب والطمع فيما وراء المادة، ممّا توجب ضياع النفس وراء


[ صفحه 52 ]

سراب زائف وتؤدّي إلى وقوع الإنسان في الأوهام والظنون والتفسيرات العقيمة والتأملات النظرية العابثة.

لأنّ الإنسان ينبغي أن يفرّق بين المنطقة التي لا يقوى العقل على اقتحام أسوارها وبين المناطق الشاسعة التي يتمكّن من اختراقها.

فإنّ مجال العقل وميدانه هو عالم الحس والشهادة والتجربة، وأنّ العقل لا يستطيع أن يكشف النقاب عن الغيب المحجوب بظلمات الماضي أو المخبوء وراء غياهب المستقبل.

فلهذا يعتبر عالم الغيب هو المنطقة الممنوعة التي لا يستطيع العقل أن يلمسه أو يطرق بابه، لأنّ العقل لا يمتلك الوسائل والأدوات التي تمكّنه من الخوض في قضايا هذا العالم.

وقد أمر الله سبحانه وتعالى البشرية أن تستعمل عقلها في المجالات التي يمكنها أن تتوصل فيها إلى الحقيقة، وأن لا تزجّ عقلها في موضوعات الغيب، لأنّ زجّ العقل في غير دوائرة اهانة له وحطّ من قدره.

وأما بالنسبة إلى معرفة الغيب، فإنّ الإنسان لا يتمكّن من الاهتداء إليه إلاّ بالشرع، والشرع هو الجهة الوحيدة الكفيلة بتوسيع أبعاد عقل الإنسان واثرائه بهذا العالم.


[ صفحه 53 ]

نمو العقل

إن العقل يُخلق وفيه قابلية للكمال، ويكون كماله بالتربية والتغذية بالعلم. وتربية العقل تكون في كثرة استخدامه وفق المنهجية القويمة التي مرّ ذكرها في التفكير، كما أنّ العقل ينمو من خلال المبادرة إلى اكتساب المعرفة ومن ثم تفعيل الأفكار وتوجيه عمليات التفكير عبر التدريب المتواصل.

وقد حث الباري عزّوجلّ جميع البشرية على استعمال هذه الموهبة، واخراجها من حالة الركود والعطالة وقد حذّر تحذيراً شديداً من عدم استخدامها وعدم الانتفاع بها.

ولقد اعتنى القرآن الكريم عناية بالغة بالعقل، فاستنهض الهمم حتى لا يفقد العقل قوته في إدراكه لسنن الحوادث والاعتبار منها.

وبصورة عامة، فإنّ الله سبحانه وتعالى ركّب العقل في وجود الإنسان ليستعين الإنسان به في الاهتداء إلى الحق. ولهذا أكّد الباري على اخراجه من حالة الركود والعطالة.


[ صفحه 54 ]

استخدام العقل في أمور الدنيا

إنّ الإنسان قد يستخدم عقله لأمور الدنيا، فيكون محور اهتمام العقل هو رؤية المنفعة ودفع المضرّة في الدنيا.

وذلك لأنّ العقل موجود أيضاً فيمن لا يؤمن بالله واليوم الآخر، أو فيمن قد أعرض عن آيات الله ونسي ذكره، لأنّ العقل هو حجة على صاحبه.

ولهذا سُمي بعض الكفّار من أهل الكتاب عاقلا في القرآن، لبيان الذي لزمتهم به الحجة، فقال تعالى حولهم:

(يُحَرِّفُونَهُ مِن بَعْدِ مَاعَقَلُوهُ وَهُمْ يَعْلَمُونَ ) [البقرة: 75] أو كما يحكيه الله سبحانه وتعالى من قول أهل النار: ( وَقَالُواْ لَوْ كُنَّا نَسْمَعُ أَوْ نَعْقِلُ مَا كُنَّا فِى أَصْحَـبِ السَّعِيرِ ) [الملك: 10].

ممّا يدلّ على أنّه كانت لهم عقول واسماع لزمتهم بها الحجة ولكنّها لم تعقل عن الله عزوجلّ.

وأما سبب عدم تعقّل الذين كفروا أو الذين فسقوا، فهو يعود للحجب التي خلقها هؤلاء نتيجة اتباعهم للأهواء، لأنّ من طبيعة هذه الحجب أنها تعمي البصائر فتمنعها عن رؤية الحق، وهو الأمر الذي سوف يأتي التفصيل عنه لاحقاً.


[ صفحه 55 ]

توظيف العقل للهداية

ذكرنا أنّ العقل هو حجّة الله على خلقه، وبه يتمّ الباري عزّوجلّ حجته على عباده، ولكن العقل لا يستطيع أن يعقل أمر الآخرة إلاّ بنور الإيمان، فلهذا تكون مساهمة العقل في البدء من دون نور الإيمان محدودة، وتصلح في حدّ ذاتها أن تكون بدءاً في سلّم الهداية.

وبنور الإيمان يستطيع الإنسان أن يشق طريقه لنيل اسمى مراتب القرب إلى الله سبحانه وتعالى، والوسيلة إلى ذلك هو العمل الصالح، ومن دون ذلك فالعقل لا يستطيع أن يبصر طريقه إلى الآخرة.

ولهذا فالشرط الأول الذي يتطلّبه العقل ليكون مفيداً وهادياً لصاحبه إلى الرشاد هو الاستضاءة بنور الإيمان. ومن هنا فالكفار والمشركين لا يمكنهم التعقّل في أمر الآخرة بصورة كاملة، لأنّ العقل عندهم معطّل فيما يخصّ الاهتداء إلى أمر الآخرة، وهم لا يبصرون نتيجة معيشتهم في دائرة ظلام الكفر والنفاق، وقد كتب الله على نفسه أن لا يخرج أحداً من الظلمات إلى النور إلاّ الذين آمنوا.

فلهذا يكون الكفّار محجوبين عن الهداية وعن التعقّل ما داموا في كفرهم يعمهون، وقد قال تعالى: ( وَجَعَلْنَا لَهُمْ سَمْعًا وَأَبْصَـرًا وأَفْــِدَةً فَمَآ


[ صفحه 56 ]

أَغْنَى عَنْهُمْ سَمْعُهُمْ وَلاَ أَبْصَـرُهُمْ وَلاَ أَفْــِدَتُهُم مِّن شَىْء إِذْ كَانُواْ يَجْحَدُونَ بِــَايَـتِ اللَّهِ ) [الاحقاف: 26].

ويفترق أيضاً حظّ الموحّدين والمؤمنين من التعقّل في أمر الآخرة، ويرتبط ذلك بمقدار الحجب التي تحيط بصيرة كل منهم، من قبيل: الأهواء والرذائل والذنوب و...

وملخّص القول أن العقل يستمدّ بنور الإيمان بُعداً جديداً يمكّنه من استيعاب حقائق ما كان ليعرف عنها شيئاً لولا هذاالنور. ولهذا لا يستطيع الإنسان أن يرفع مستوى وعيه العبادي إلاّ بعد أن يضيء عقله بنور الإيمان.

وأما الهدف من دعوة الله سبحانه وتعالى إلى التفكّر والتذكّر والتأمّل في آيات الكون هو أن ينفتح الإنسان عبر هذه الأمور على عالم النور، فيحصل على البصيرة التي ترشده إلى الإيمان والهداية، لأنّ هداية الله محقّقه فقط لمن يخرجه الله تعالى من الظلمات إلى النور.


[ صفحه 57 ]

الفصل الثاني - العقلية

إن المعلومات والمعارف والخبرات التي يكتسبها الإنسان تتحوّل نتيجة تراكمها إلى أفكار وآراء وقناعات تشكّل العقلية لدى الإنسان. فالعقليه ـ اذن ـ هي الاطار الفكري المرجعي والتكوين الثقافي والقناعات التي يسلّم بها الإنسان بغض النظر عن صحّتها أو خطئها. وهي عبارة عن جملة من المفاهيم التي تغدو عند الفرد بمثابة المسلمات التي لا تقبل الجدل. ومن هذه المسلمّات تتشكل هوية الإنسان الفكرية الخاصّة به، إلاّ أنّها تكون ـ عادة ـ مؤطّرة بهوية الجماعة التي ينتمي إليها.

ومن هذا القبيل:

يقال: عقلية مادية، وهي التي ترى أنّ النفعية والمصلحة هما الهدف


[ صفحه 58 ]

الأساسي في الحياة وأن الدين أمر لا صلة له في الحياة المدنية العامة.

أو يقال: عقلية الحادية، وهي التي تنكر وجود الخالق.

أو يقال: عقلية دينية، كاليهودية والنصرانية والاسلامية، ولكلّ منها مسلّمات عقائدية يؤمن بها اصحابها ويرون صوابيتها.

ويتفرّع من هذه العقليات عقليات أخرى، فيقال مثلا: عقلية قومية أو وطنية أو صوفية أو مذهبية أو غيرها.

وقد نسبت هذه القناعات والأفكار إلى العقل رغم كونها ـ في بعض الأحيان ـ تافهة أو سطحية أو غير لائقة، لأنّها تأتي إلى الإنسان عن طريق تفكيره ثم تخيّم في العقل وتجد من العقل موطناً لها.

وللعقلية دور كبير في التأثير على تقييم الإنسان للافعال والأقوال، لأنّ العقل المجرّد لا يقوم وحده بالتقييم، بل للعقلية المكتسبة دور كبير في هذا المجال. فلهذا ينبغي لكلّ فرد أن يراقب نفسه، ليتمكن من صياغة عقليته بأفضل صورة ممكنة، وعليه أن ينتبه بدقة إلى ما يتسرّب إلى عقله حين اختلاطه بالمجتمع الذي يحيطه ليستطيع بعد ذلك من اكتساب عقلية واعية ومتلبّسة بإطار فكري يعكس له الواقع كما هو عليه.


[ صفحه 59 ]

العقلية المنفتحة

العقلية المنتفحة هي العقلية التي فيها قابلية ومرونة لتقبّل كل جديد بعد اخضاعه للدليل والبرهان. والشخص المتحلّي بالانفتاح العقلي هو شخص يقبل امكانية عدم صحّة أفكاره، فلهذا يصغي برحابة صدر إلى أدلّة من يخالفه في الرأي، ولا يتهيّب من تغيير اعتقاده إذا توفّرت الأدلّة الكافية والبراهين الكاملة على خطأ ما كان عليه.

والانفتاح العقلي ليس ميلا فطرياً عند الإنسان، بل هو أمر اكتسابي، لا يمكن الحصول عليه إلاّ بالتحرّر من سجن الانانية، والانطلاق في عالم الأفكار الرحب، من أجل التعرّف على وجهات نظر الآخرين وفهم مقاصدهم.

ومن سمات العقلية المنفتحة أنّها تميل إلى التجديد وتهوى النشاطات الفكرية التي تنمّي العقل والتي تتطلب التهيئة الذهنية، وأيضاً من سماتها أنّها تنبذ النشاطات الروتينية التي لا تحتاج إلى التفكير، فلهذا تكون قادرة على التكيّف مع المتغيّرات المستقبلية بسهولة والعمل في حدود واسعة المدى.

ولكن الانفتاح يحمل في طياته مجموعة آثار سلبية، ومنها: الالتقاط الفكري، لأنّ الذي ينفتح فكره على أفكار ورؤى وثقافات عديدة،


[ صفحه 60 ]

يتعرّض بعض الأحيان إلى دفق حضاري يخالف مكوّناته الفكرية الأساسية، فيعجز عن استيعاب الأفكار الجديدة وهضمها وتحديد الموقف منها، ومن ثم لا يسعه الوقت ليرى هل تنسجم هذه الأفكار التي اقتبسها من مدارس فكرية متعدّدة فيما بينها، فيأخذ جانباً من جوانب فكرة معيّنة ثمّ يخلطها بمضامين فكرة أخرى بحيث يبدو هذا الأمر نشازاً وغير متناسقاً وهو غير ملتفت إلى ذلك.

فلهذا ينبغي لكلّ باحث واع أن ينتبه إلى هذا الأمر حين انفتاحه على تراث باقي الأمم لئلا يقع في أمر التلفيق وانماط الالتقاط وتقبّل الأفكار الهجينة.

العقلية المنغلقة (التقليدية) (المتحجرة)

وهي العقلية التي تحكمها الأفكار والقيّم التي قد ورثها الإنسان من البيئة التي عاش في كنفها فتقبّلها دون إعمال للعقل. وانغلاق العقل يعني انغلاقه داخل دائرة اطروحات وقضايا اصبحت هي التي تتحكّم برؤية العقل للواقع وتجعله لا يعيش الواقع إلاّ على مستوى القضايا والأفكار المصاغة سابقاً.

ومن سمات هذه العقلية أنّها تضع لنفسها أصولا ثابتة وأطراً محدّدة


[ صفحه 61 ]

ثم تفترض عدم امكانية طروء أي تغيير عليها، فلهذا يرفض صاحب هذه العقلية أية فكرة أو معتقد جديد خارج تلك الأطر التي قد جمّد فكره عليها.

فلهذا يقف صاحب هذه العقلية موقف المتشكّك من جميع الأمور الجديدة، فلا يلتزم سوى الطرق التقليدية المعروفة، ولا يستعمل عقله لتطوير الطرق الموصلة إلى الأهداف التي ينشدها، بل يعتمد دائماً على الآخرين ويميل إلى اتباع القوانين والتنظيمات التقليدية.

ومن الصفات الأخرى التي يتميّز بها أصحاب هذه العقلية: حبهم والتزامهم ومسايرتهم للأمور التي عفا عليها الزمن، وكراهتهم وانزعاجهم من كل عاده أو عرف أو فكرة جديدة. لأنّ من وجهة نظر هؤلاء أن كل شيء قديم هو حق ومقدّس وصحيح وهو أقرب للتقوى والتديّن، فلهذا لا يجرأ هؤلاء الاصطدام بما هو شائع عرفاً ولو كان خاطئاً، ولا يتقدّم هؤلاء لمواجهة أمر ذائع مهما بلغ فساده، لأنّهم يرون أن القدم له اصالة وله قيمة وامتياز في حدّ ذاته!

وأيضاً من أبرز ملامح وسمات هذه العقلية هو ركود الفكر وعطالة العقل والانغلاق على الرأي الواحد والتشبّث الأعمى به والتعصّب له، والنظر إلى الأمور من زاوية معيّنة وعدم ادراك الابعاد العديدة، وضعف الاُسس والمرتكزات العقائدية وضيق الأفق والنظرة السطحية وعدم


[ صفحه 62 ]

النفوذ إلى لب القضايا وعمق المواضيع، وفقدان الرؤية الواضحة والوقوع ضحية للتحيّز والتعميم والتسرّع في الأحكام و...

ومن آثار هذا النمط من التفكير المنغلق، حرمان صاحبه من رؤية الحقيقة باكملها، لأنّه لضيق أبعاد رؤيته، لا يرى إلاّ جانباً من جوانب الحقيقة، فتغيب عنه الجوانب الأخرى، لأنّ الرؤية الشمولية تحتاج إلى عقلية منفتحة وتتطلّب الوعي والمتابعة وتلقّي المعرفة، وهي أمور تفقدها العقلية المنغلقة، فلهذا تكون رؤيتها للحقيقة قاصرة.

وهذا النمط من الرؤية للحقيقة شرّ من الجهل بها، لأنّها نظرة تجعل صاحبها ضيّقاً في آفاقه الفكرية، فيحسب أنّه يعرف كل شيء، في حين أنّه لا يعرف إلاّ الجزء من الواقع. فلهذا يفقد أصحاب هذه العقلية القدرة على تحمّل الآراء المخالفة، فلا تتسع عقولهم للآراء المخالفة، فيكون تعاملهم مع من لا يتفق معهم في الرأي ممزوجاً بالانفعال والرفض والحدّة والعصبية.

واخطر ما في الانغلاق أنه يدفع صاحبه، ليكوّن لنفسه عالماً خاصاً يظنّ أنّه العالم كلّه، ومن هنا تعشعش في ذهنه الأفكار المغلوطة والمعايير الخاطئة عن الواقع المعاش، وهذا ما يدفعه إلى الانهيار بمجرد الاحتكاكات الجادة مع من يعيشون خارج دائرته.

ومن أهم الأمور المساهمة في تكوين العقلية المنغلقة هو الانغلاق


[ صفحه 63 ]

وعدم الانفتاح على الآخرين، لأنّ الانغلاق يمثّل ستاراً يحول دون حدوث تمازج فكري مع الآخرين، فيؤدي هذا الأمر بالعقل إلى التفكير في اتجاه واحد، وذلك نتيجة حرمانه من التلاقح الفكري مع الآخرين.

كما أنّ معيّة اصحاب العقول المنغلقة هي أيضاً من الأمور المساهمة في تكوين العقلية المنغلقة لدى الإنسان، لأنّ أصحاب هذه العقول يحاولون كبت المشاعر الابداعية لمن يصاحبهم واعاقة انتاجه الفكري وتوقيف تأملاته واخماد أفكاره الابداعية وذلك برفضها أو قمعها أو الاستهانة بها، فهم لا يمنحون من يصاحبهم فرصة تحسين قدراته الفكرية، ولا يشجّعون الآخرين على ايجاد روابط متعدّدة بين أفكارهم وبين الأشياء، بل دأبهم شنّ الهجمات على من يريد أن يتبصّر لأنّ الذين طال عيشهم في الظلام يؤذيهم النور ويجرح ابصارهم!

فلهذا ينبغي لمن يود اكتساب العقلية المنتفحة أن يوفّر لنفسه المناخ المناسب لما يبتغيه، لئلا يتحوّل عقله إلى العقل المنغلق، ولئلا يغدو شخصية مقموعة واتكالية وأمعة وفاقدة للثقة، تعتقد أن الاجابة عن الأسئلة المطروحة في ذهنها لا توجد في عقلها بل ينبغي الانتظار حتى يفسّر الآخرون لها الأمور.


[ صفحه 64 ]

العقلية الناقدة

العقلية الناقدة هي العقلية التي لا تقبل كل ما يقدّم إليها دون بحث وتمحيص وتقويم شامل ومحاكمات عقلية.

وتنمو هذه العقلية لدى الإنسان بتنمية تفكيره المنطقي نحو الأحداث وتنمية رغبته في اكتشاف الحقيقة وتوفير الأجواء المحفّزة على التأمل والتحليل، والاجتناب عن الأجواء التي تقوم بقمع هذا النمط من التفكير عبر الاستهانة به أو عدم الاكتراث به.

وبهذه العقلية ينمو وعي الإنسان ويتحرّر فكره عبر اختبار الآراء وتقويم الأفكار والأحداث من خلال معرفة المعايير الصحيحة والالتزام بتطبيقها والبحث عن جواب سلسلة مفتوحة من التساؤلات.

وبهذه العقلية يستطيع الإنسان أن يضمن بقاءه على المسار الصحيح وأن يكوّن عنده وجهة نظر متوازنة وغير منحازة، وأن يعرف مدى صلاحية الأفكار التي يتبنّاها وكفايتها لاصلاح وتطوير الواقع، وبها يتمكّن من اختبار ما إذا كانت الأفكار قد بقيت دون تزييف أو لا.

ومن آثار هذا النمط من التفكير أنّه يهدف إلى ارتقاء تفكير الاشخاص لكي يصبحوا موضوعيين عند اتخاذ القرارات، وبه يغربل


[ صفحه 65 ]

الإنسان أفكاره، فيفرز اللامعقول عن المعقول والمستحيل عن الجائز، فيصون بذلك عقله من الاضطراب والاختلال في التفكير.

كما أنّ الإنسان بهذا النمط من التفكير يكون صاحب عقلية متمتعة بمهارة تفكير عالية وقادرة على معرفة الدوافع المنطقية وراء استخدام القوانين وتشخيص الطرق الصحيحة التي توصل الإنسان إلى اهدافه المنشودة، وتقيه من السير في الطرق الخاطئة.

وبها يتمكّن من تحليل وتطوير الأفكار التي يخلقها لحلّ مشكلاته، فيستعرض الفرد أثناء التفكير الناقد الأفكار المختلفة، فيقارن بين البدائل المتعدّدة ثم يحسّنها من أجل التوصّل لحكم صائب وقرار ذو فعالية.

إذن، ففي حلّ المشكلات لا تنفع عملية توليد الأفكار لوحدها، كما أن التحليل والتقييم لعدد معيّن من الآراء لا يمنح الفرد الحلّ المناسب، بل يكون التكامل بين التفكير الابداعي والتفكير الناقد هو الذي يوصل الإنسان إلى أفضل الحلول.

التفكير الناقد البّناء

إنّ التفكير الناقد الصحيح لا يعني التفكير الذي يبحث عن الأخطاء والجوانب السلبية فقط أو توجيه الانتقادات الهدّامة للغير أو اثارة


[ صفحه 66 ]

مشاعرهم أو ارباك نفوسهم من خلال الاستفزازات المغلّفة بالمنطق أو التحدّي الذي لا يقبل التعايش مع الآخرين.

لأنّ هذا النمط من النقد غير البنّاء ينطلق من الأنا، وتكون غايته تحطيم الفكر الآخر والسيطرة عليه واحلال فكره محلّه.

أمّا التفكير الناقد البنّاء، فهو تفكير يعترف بالآخر ويحترمه، وإنّما يتوجّه إلى تصحيح أفكاره من منطلق الحبّ له وإرادة الخير له، ليلفت نظره إلى الخطأ الذي هو عليه، فيدعوه إلى البحث في الأفكار المختلفة من أجل تحسين وضعه القائم وتطوير ما هو عليه.

كما أنّ التفكير الناقد الصحيح ليس وسيلة لحماية النفس من عناء التنفيذ والمسؤولية كما يستخدمه البعض لنقد المشاريع وتحطيم فكرتها ليقتلوا المشروع وليستريحوا من عناء متطلبات تنفيذه وليزيحوا عن كاهلم تحمّل المسؤولية، بل هو وسيلة لتطوير المشاريع ورفع مستوى نجاحها على أرض الواقع.

حساسية النقد

تعتبر مسألة نقد الآخرين من القضايا الحساسة، لأنّ المشكلة تكمن من تحسّس معظم الناس من النقد، فلهذا يستدعي هذا الأمر الكثير من التريث والبصيرة والتجرّد.


[ صفحه 67 ]

فلهذا ينبغي أن يكون النقد المطروح على الآخرين نقداً بنّاءاً ومقترناً بالشروط الموضوعية اللازمة أو بطرح البديل الموضوعي الصالح من ناحية أخرى، لأنّ طبيعة الإنسان عموماً ـ كما قلنا ـ أنّه يستصعب تقبّل النقد الموجّه له ولأفكاره، لأنّه في الغالب يعتبر أفكاره امتداداً لنفسه وأنّ تحدّيها يشكّل تحدّياً له، فلهذا يستصعب قبول وجود نسبة من الخطأ في ثنايا تفكيره.

فلهذا ينبغي للمنتقد أن يخلق أجواءاً يسودها الحبّ والتوافق مع الآخرين ليوفر لديهم القدرة على تلقّي النصح أو قبول النقد البنّاء.

وأما إذا كان السبب الحقيقي للنقد هو الرغبة في إظهار الذات على حساب ذات الآخرين، فانّها ستفرز الكثير من الآثار السلبية، لأنّها ستؤدي إلى جرح مشاعر الآخرين وسحق كرامتهم وتحطيم شخصيتهم، وهذا ما سيدفعهم إلى ردود فعل غير محمودة.

ومن هنا يتحوّل الموقف إلى منهج سجالي يوحي بالتهكّم، فتتحكّم به حالة الانفعال، فيحاول كل من الطرفين إخفاء الحقيقة أو تضييع جوهرها من خلال اتباع طريقة الخلط بين المفاهيم والقضايا المتعدّدة أو التوجه إلى الأمور الهامشية التي تبعد النقاش عن هدفه العلمي وتحرّفه عن مساره الأساسي.


[ صفحه 68 ]

كما أن البعض أيضاً يتحسس من النقد البنّاء، وسبب ذلك أنّهم يعتقدون الكمال في نفوسهم، أو أنّهم لا يمتلكون القدرة على الفصل بين القضايا العلمية والقضايا الشخصية، فيكون عند هؤلاء الانتقاد لفكرة من الأفكار تعني التسقيط لصاحب الفكرة، وهذا خطأ يرتكبه هؤلاء في جانب الحقيقة، ومن هنا تكون النتيجة المزيد من افرازات المناعة ضد أي نقد وتقييم، ومن ثم يبقى الكثير من أبناء المجتمع على المسار الخاطىء لفترة طويلة، ولا ينتبهون إلى اخطائهم إلاّ بعد فوات الأوان.

فلهذا ينبغي أن يوطّن كل انسان نفسه على تقبّل النقد المعقول لأفكاره، وأن يعي كل فرد أن هذه الأفكار النقدية تجعله في حصن حصين من الوقوع في الأخطاء وفي أسر الدعايات المضللة التي تلهي الناس وتدفعهم إلى أن يبنوا عليها الكثير من عواطفهم.

العقلية المبدعة

العقلية المبدعة هي العقلية القادرة على إنتاج أفكار ونظريات جديدة ومبتكرة، وهي عقلية تنصب على توليد أفكار جديدة واتّباع طرق غير مألوفة وغير تقليدية بدلا من الاختباء الآمن وراء طرق التفكير المعتادة في تخطي العقبات التي تحول دون تحقق الأهداف.

فإنّ العادة تجعلنا أن نتقبّل الحلّ الذي يظهر لنا لأوّل وهلة، لكن التفكير الابداعي هو القدرة على كسر الحدود التي يفرضها الروتين والفهم التقليدي للأمور، وفتح مجالات جديدة للعقل.


[ صفحه 69 ]

ويرى صاحب العقلية المبدعة أنّ الأفكار والطريق القديمة التي كان يتبنّاها لتمشية أموره وحلّ مشكلاته لم تعدّ صالحة، وعليه أن يتبنى أنماطاً جديدة متّصفة بالثراء والتنوع من الأفكار، ليطوّر نفسه وليقلّل نسبة ضياع الوقت والجهد حين الانتاج والعمل.

ومن سمات أصحاب هذه العقلية هي الانفتاح على الخبرات الجديدة وحب الاستطلاع والتأمّل والتطلّع للاكتشاف والرغبة في البحث عن الانماط الجديدة وغير التقليدية وعدم الرغبة في مسايرة المناهج السائدة.

وكل ما يحتاجه الإنسان لايقاظ القدرة الابداعية في عقله هو الظروف الملائمة التي يشعر فيها الفرد بحرية وانفتاح وتقدير ايجابي وحيوية وحماس، وأيضاً الجو الذي يبني لدى الإنسان القدر الكافي من الثقة بالنفس، بحيث تدفعه هذه الثقة إلى المخاطرة في ارتياد المجهول بالتفكير الابداعي.

لأنّ الأجواء التي تسودها الثقة تتيح لكلّ فرد أن يبدي آراءه وأفكاره دون تخوّف، فيكون المناخ العام بنّاءاً وايجابياً ومستعداً لتنمية الابداع. في حين إذا كان الجو مشحوناً بالتوتر والتوجس فإنّ المناقشات تتحوّل إلى مجالات تستهدف اصطياد الأخطاء، فيحبّذ الأفراد السلامة، وتعتريهم حالة التراخي، فيندفعون إلى وضع التبريرات من أجل التمسّك بالوضع الراهن.


[ صفحه 70 ]

سبل تنمية التفكير الابداعي

وأما سبل تنمية التفكير الابداعي، فمنها: تنمية حبّ التعرّف على المجهول وحب الاستطلاع والرغبة في البحث وايقاظ القدرة على التفكير المركّز، وتحريك العقل عن طريق الاستعانة بقدراته لتقليب المسائل على كلّ وجوهها والتفكير بابداع وابتكار مع نبذ الانماط التقليدية، والاستمتاع بالتفكير المرتّب عن طريق ازالة جميع العوامل المشتّتة للفكر والتحلّي بالطلاقة والمرونة الذهنية عبر توسيع آفاق التفكير.

كما يستدعي أمر تنمية الابداع إلى تحرير العقل من الاغلال والقيود التي تحول دون قيام الفرد بالتفكير الابداعي، والتي تعوق استغلاله لقدراته الفكرية، منها: الضغط العصبي والانفعال والقلق والتوتر الذي يلقي العبء الثقيل على الخلايا العصبية، فيؤدّي إلى التشويش الفكري الذي يقف عائقاً أمام حرية العقل في الابداع والتفكير.

فلهذا ينبغي لمن يريد تنمية العقلية الابداعية في وجوده أن يقوم بدراسة اسلوب حياته وطرق تعامله مع المواقف الملحة وتعديلها، كي يتمكّن من اكتشاف الطرق التي تتيح له قدرة التغلب على توتره

وانفعالاته وهو المبحث الذي قد أفردنا له فصلا فيما سيأتي.


[ صفحه 71 ]

الفصل الثالث - العقل الموضوعي

إنّ الموضوعية تعني أن يتجرّد الإنسان حين البحث من الآراء المسبقة والافتراضات السائدة ومن جميع العوامل التي تحجب بصيرته عن رؤية الحقيقة.

وتتطلّب الموضوعية أن يكون الإنسان حريصاً من أجل الوقوف على الحقيقة وأن يقصد الباحث التعلّم لا البرهنة عل شيء قد تعلمه من قبل.

وباتّباع الموضوعية يتمكّن الانسان من الوقوف على الحقيقة ورؤيتها من خلال ما يريد الموضوع أن يظهر به نفسه، لا من خلال ما يريد الباحث أن يراه عليه. كما يتمكّن الإنسان في هذه الحالة أن يعطي


[ صفحه 72 ]

الحقيقة ما يتناسب مع حجمها من الاهتمام والعناية.

ولا يقتصر أمر الموضوعية في نطاق البحث، بل يمثّل التعامل مع الحقائق جزءاً هاماً من الموضوعية، والموضوعية في هذا المجال هي أن يتعامل الإنسان مع الحقيقة على ما هي عليه بعيداً عن الذاتية والمؤثرات الخارجية.

والموضوعية في التعامل تكون أصعب من الموضوعية في البحث، لأنّ الباحث قد يمتلك ناصية العلم وقد يصل إلى ادراك الحقيقة بسهولة، ولكن التعامل مع الحقيقة بموضوعية أمر شاق ويحتاج إلى جد واجتهاد واخلاص وارادة تحصّن صاحبها من الانجراف مع تيارات الأهواء والميول والرغبات.

أسس بناء العقل الموضوعي

هنالك قيود تقيّد عقل الإنسان فتفرض عليه معطيات معيّنة حين البحث أو تسوقه إلى اسلوب محدّد في البحث وتوجهه إلى آراء ونتائج مسبقة قد لا يصل إليها الباحث لو ترك حراً في النظر.

ويجدر بمن يبتغي الحصول على العقل الموضوعي أن يعرف هذه القيود، ليسعه بعد ذلك عبر استنهاض همته واستعمال جميع أساليب


[ صفحه 73 ]

التنوير الممكنة وأساليب التوعية المكثّفة أن يقوّم منهجه في النظر وأن يطهّر عقله من جميع الشوائب العالقة به، لئلا تستبد به الآفات أو تحتله الأباطيل والنزعات، وأن يصون عقله في الوقت ذاته من الركود والعطالة والتبدد في غير مجاله والتخبّط في التيه بلا دليل أو التعلّق بالآراء المتعسّفة والأفكار التي تقف حجر عثرة في سبيل انطلاق الإنسان إلى آفاق المعرفة. وفيما يلي جملة من الأسس التي تعين الإنسان على تطهير عقله مما علق به من أمور شائبة، وتساعده على تخطّي الكثير من العقبات التي تعرقل مساعيه نحو بناء العقل الموضوعي:

1 ـ ادراك ابعاد الذات

إنّ من أهم مفردات الموضوعية أن يدرك الإنسان أبعاد ذاته، وأن يعرف قدره، ليتمكّن من التصرّف اللائق بشأنه وعدم الوقوع في سلسلة من الأخطاء نتيجة الفهم الخاطىء أو القاصر لذاته، والتي توقعه في أسر الأوهام المزيّفة التي تصوّر له ذاته على خلاف ما هي عليه، فيدفعه ذلك إلى الأنانية والطغيان والكبر والغرور والرذائل الاخرى التي تورث الإنسان حالة الحرمان من رؤية الحقيقة.

وسيأتي لاحقاً مبحث كامل حول الذات والانانية وسبل التحرّر من الانانية.


[ صفحه 74 ]

2 ـ نبذ الاتباع الأعمى للآباء

إنّ الخضوع لصنمية تقديس تراث الآباء والأجداد وايثارهم على
الهدى يؤدّي إلى تعطيل العقل ويدفع الإنسان إلى تقبّل ما تناقلوه كابراً عن كابر دون أدنى نظر أو تمحيص.

وهذا الانقياد لموروث الآباء يهيء العقول لقبول الخرافات والأساطير والعادات البالية، وبالتالي الابتعاد عن الموضوعية في البحث عن الحقيقة. فلهذا يعيب الباريء عزوجلّ في محكم كتابه على الذين يلغون عقولهم ويعطّلون تفكيرهم ويقلّدون غيرهم دون هدى ويقبلون ما انحدر إليهم من آبائهم من عقائد وأفكار وتقاليد دون أدنى نظر أو تمحيص لها. فيعتبرهم كالانعام بل هم أضل سبيلا، وقد قال تعالى: ( وَإِذَا قِيلَ لَهُمُ اتَّبِعُواْ مَآأَنزَلَ اللَّهُ قَالُواْ بَلْ نَتَّبِعُ مَآأَلْفَيْنَا عَلَيْهِ ءَابَآءَنَآ أَوَلَوْ كَانَ ءَابَآؤُهُمْ لاَ يَعْقِلُونَ شَيْــًا وَلاَ يَهْتَدُونَ ) ]البقرة: 170[.

فلهذا ينبغي لكلّ من يودّ امتلاك العقلية الواعية والموضوعية أن يسعى لامتلاك الميزان الذي يتيح له قدرة تقييم تركة أسلافه واعطائها القدر اللائق بها، لئلا يقع فريسة تقديس ماليس فيه أية ميزه سوى ميزة القدم.


[ صفحه 75 ]

3 ـ التحرر من تقديس الاشخاص

هناك صنف من الناس لم يمنح شخصيته استقلالها، ولم يعطها حريتها في البحث عن الحق، وهذا ما يؤدّي بهم إلى أن يقعوا في تضخيم التقدير لبعض الشخصيات غير المعصومة، وجعلهم فوق الشبهات وفوق الخطأ واحاطتهم بهالات قدسية تحول بينهم وبين نقدهم. وهذا الفهم الخاطىء يعمي البصيرة عن اتباع النهج الصحيح والتفكير بموضوعية حين البحث والتنقيب.

4 ـ مراعاة الانصاف

إنّ طبيعة الإنسان الخضوع إلى المزاجية في تقييمه للأمور، فهو إنّ أحبّ شيئاً عميت عيناه عن رؤية مساويه، فلا يبصر إلاّ بعين الرضا، وإن كره شيئاً عميت عيناه عن رؤية جوانبه الايجابية، فلا يرى منه إلاّ المثالب والجوانب السلبية.

فلهذا يمثّل الانصاف معلماً بارزاً من معالم الموضوعية ولا يتمكّن الإنسان من مراعاة الانصاف إلاّ بتنمية وعيه لئلا يتعلّق قلبه بغير الحق، وهو مبحث سيأتي التفصيل عنه لاحقاً.


[ صفحه 76 ]

5 ـ ضبط مزاجية النفس

إن الإنسان اعتماداً على العنصر العاطفي والمزاجي الكامن في نفسه، يتأرجح دائماً بين الخطأ والصواب، والهداية والعماية، لأنّ العوامل التي تشكّل قناعات الفرد وتحدّد اتجاهاته نحو كل ما يحيط به تختلف اختلافاً كبيراً، فقد تكون عوامل وراثية وقد تكون مكتسبة من التنشئة الأسرية والاجتماعية التي يخضع لها الفرد.

فلهذا يتغيّر إطار الإنسان الفكري ومزاجه النفسي باستمرار، وهذا ما يترك أثره في إصداره للأحكام، فتكون أحكامه الصادرة تارة، ناتجة عن تعقّل وتكون تارة اُخرى ناتجة عن هوى أو ميل أو رغبة شخصية.

فلهذا يحتاج الإنسان إلى رقابة تحصّنه من الانزلاق والخروج عن الموضوعية في إصداره الأحكام أو إتخاذه للمواقف.

ويعتبر التثبّت من أهم الأمور التي تحرّر الإنسان من الدوران في فلك الخصوصيات النفسية والمزاجية، لأنّ التثبت يستوجب تريّث الباحث من أجل الإحاطة بالموضوع الذي يودّ البحث حوله والإلمام بجذوره وأسبابه وعواقبه وارتباطه بالمواضيع الأخرى.

وبهذا يمتلك الإنسان مساحات واسعة للحركة والموازنة والتقييم،


[ صفحه 77 ]

وكل هذه الأمور تتيح له إمكانية تحرّي الدقّة ورؤية الأمور من جوانب متعدّدة، وعدم الاستعجال في إصدار الحكم، ومن ثم التمكّن من النظر الموضوعي حين البحث.

وبهذا الوعي يستطيع الإنسان أن يمسك نفسه، وأن يسيطر على مزاجه، لئلا يقع ضحية انسياقه خلف تطرّف ردود أفعاله دون أن يدري.

تنمية الوعي

6 ـ تطهير النفس من التعصّب

التعصّب للشيء هو الميل الشديد إليه والجدّ في نصرته وعدم قبول الحق عند ظهور الدليل بناءً على ذلك الميل. والتعصّب للرأي يعني اعتقاد الإحاطة بالحقيقة النهائية فيما يقبل النظر والتأمل، وحصر الحق فيه والاندفاع بشدّة إلى مهاجمة كل من يخدش مضمون ذلك المعتقد.

وقد يكون التعصّب متوجّهاً لمذهب أو القبيلة أو الجماعة، ويترتّب على ذلك حصر الحق فيهم والاشادة بهم وإبراز محاسنهم وتبرير خطاياهم.

والتعصّب لشيء وحصر الحق فيه آفة خطيرة تؤدّي إلى عدم الرغبة في سماع أو رؤية الأشياء التي تقف موقف الضد أمام ما تمّ التعصّب له، فيدفع هذا الأمر صاحبه إلى العجز عن مراعاة الموضوعية


[ صفحه 78 ]

في سلوكه وتصرّفاته وتفكيره وجميع تحركاته.

ويعّد التعصّب ضرباً من ضروب الأنانية، ولا يمكن ازالته من النفس إلاّ بعد تطهيرها من الانانية والتمركز حول الذات، وهو مبحث سيأتي التفصيل عنه لاحقاً.


[ صفحه 79 ]